ليس في الخليقة مثل الإنسان حين يستخدم عقله ويُنير بالوحي بصيرته ؛ لأنّ العقل قبس من نور الله الذي أودعه في ضمير الإنسان، وبدونه لا يكون الإنسان إلّا حفنة من التراب، وإنّ ما نجده اليوم من الحضارات والتقدّم العلمي، وما ننعم بخيراته ما هو إلّا من بركة التجلّيات العقلية حيث أبدع العقل عند المبدعين، واكتشفوا كنوز أنفسهم، وتمتّعوا بلذة التحرّر والانطلاق بقوّة نور البصيرة.
لقد جاء الإسلام الحنيف تتويجاً لرسالات الله منبّهاً العقل إلى أهداف الرسالة حتّى أنّه جاء ذكر العقل بمترادفاته المختلفة سبعمائة وخمسين مرّة في القرآن الكريم دلالة وتوكيداً على أهمّيّته.
قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾ (1).
وقد ينشأ عن الجاهليّة المتمثلة في إهمال العقل ورفضه حالة قشريّة تدفع الفرد إلى التمسّك بالتقاليد والإعراف الماضية أيناً كانت تمسكاً شديداً، لأنّه في هذه الحالة لا يريد أن يتحمّل مسؤولية التفكير وإعمال الفكر في حركة منطلقة نحو المستقبل، وفي محاولة لإنقاذ النفس والعباد من أصنام البشرية وتحريرهم من الخوف والرهبة والجزع والاستسلام أمام الطبيعة.
انّ اهتمام الإنسان بالماضي، وجعله بديلاً عن الحاضر، هو الذي يحدّ من تطلعات الإنسان، ويعرقل طموحه فيجعل دروبه مليئة بالعراقيل حتى ليعجز عن الفهم والتحصيل واستخدام إرادته الحرّة للوصول إلى أهدافه.
وما أسرع ما دخلت على المسلمين القشريين البدع المختلفة، وذلك عن طريق التفسير الخاطى للدين الذي قلب الحقائق رأساً على عقب، لأنّ القناعات والمفاهيم الفكريّة متى فسدت فقد فسد كلّ شيءٍ في الإنسان.
والآن لنتساءل ما هي البدعة؟:
البدعة: لغوياً هي الإضافة وليس النقصان، وهي هنا إضافة منسوبةٌ إلى الدين.
يقول الرسول صلى الله عليه و سلم : >إذا ظهرت البدع في أمتي فليظهر العالم علمه فمن لم يفعل فعليه لعنة الله<(2).
ويقول أمير المؤمنين عليه السلام : >ما أُحدثت بدعة إلّا ترك بها سنّة فاتقوا البدع وألزموا المهيع إنّ عوازم الأمور أفضلها، وإنّ محدثاتها شرارها<(3).
وكثيراً ما تكون البدعة ذريعةً لصاحبها طلباً للمنفعة ولكن محاولته لا تنجح لإنه اتبع سبيل البدعة.
حديث من الرسول صلى الله عليه و سلم: >عمل قليل في سنّة خيرٌ من عمل كثير في بدعة<(4).
ويأمرنا الدين بمحاربة أهل البدع ومحاصرتهم اجتماعياً ونهيهم عما هم فيه حتّى لا تنتشر بدعُهم ويضل الناس بها.
يقول الرسول صلى الله عليه و سلم: >من أتى ذا بدعةٍ فعظّمه فإنّما يسعى في هدم الإسلام<(5).
إنّ الاختلاف بين المسلمين ليس في أصول الدين، ولا في نزول الوحي، وإنّما هو في تفسير المبادئ، فإذا راح يفسّر كلّ واحدٍ حسب رأيه وعلى هواه، ثمّ ينسب ذلك إلى الدين فقد تعصّب وابتدع وافترى على الله كذباً، ولذلك يتوجّب على الفقهاء العدول والعلماء والدعاة إلى الله أن يرفضوا هذه البدع، وأن يحولوا دون انتشارها بين العوام ؛ لئلا تكون لهم ديناً وعقيدة من دون الدين الصحيح.
يقول الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم: >إذا رأيتم أهل البدع فباهتوهم<(6) أي بالحجة آية: ﴿ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ (7).
قصة: جاء جماعة إلى رسول الله يريدون الدخول في الإسلام فوضعوا ثلاثة شروط:
١) أن يبقوا في أصنامهم سنة كاملة.
٢) أن لا يصلوا صلاة المسلمين إلّا بعد سنة.
٣) أن يقوم الرسول بنفسه بتحطيم أصنامهم.
قال الرسول’ الشرط الثالث مقبول والبقية مرفوضة.
إنّ رسول الله’ لم يهادن في سبيل الحقّ ولم يقبل بقائهم على عبادتهم يوماً واحداً، ومن هنا نستخلص أنّ الله سبحانه وتعالى لم يبعث رسله إلّا بعد إعدادهم إعداداً متكاملاً انطلاقاً من رعاية الغنم حتّى رجاحة العقل والصبر على البلاء والابتلاء ليكون أهلاً لتحمّل الرسالة، ثمّ يبعث إليه برسالة السماء طالباً إليه توجيه الناس توجيهاً رسالياً متماسكاً وليزرع فيهم بذور العقيدة الراسخة الجلية الصافية من كلّ شائبة، ثمّ يوحي بعد ذلك بوجوب الابتعاد عن البدعة ؛ لأنّ >كلّ بدعةٍ ضلالة وكلّ ضلالةٍ في النار<(8).
إنّ الوصول إلى الحقّ بغير طريق الحقّ باطل. لنضرب مثلاً: إذا أردت أن تبني مسجداً ورحت تحدّث الناس أحاديث مختلقة من نفسك لتشجّعهم على العطاء ؛ فإنّ سبيلك إلى بناء المسجد هو سبيلٌ غير مستقيم، وهذا ما يرفضه الإسلام الذي لا يريد مسجداً يبنى على التملّق والحيلة وأساليب الكذب والخداع.
ثمّ إذا أردت أن تقيم مولداً إحياءً لذكرى الرسول’ فإن كان ذلك العمل بنيةٍ سليمة وبالطريقة الشرعية فهذا حلال، ولكن إذا أدخلت عليه مالم يفعله الرسول من قبيل كالدفّ والطبل والضرب بالشيش بغير إظهار وإبراز بعض الشخصيات، فهذا حرام وصاحبه آثم أمام الله ؛ لأنّ هذا ليس من الدين في شيء بل هو بدعةٌ وضلالة.


____________
1- الأعراف ٧: ١٥٧.
2- الكافي ١: ٥٤ حديث٢.
3- نهج البلاغة ٢: ٢٨ - ٢٩.
4- الأمالي للشيخ الطوسي: ٣٨٥، حديث٨٣٨.
5- الكافي ١: ٥٤، حديث٣.
6- انظر المصدر السابق ٢: ٣٧٥، حديث٤.
7- البقرة ٢: ٢٥٨.
8- الكافي ١: ٥٧، حديث١٢، والحديث عن أبي عبد الله× عن رسول الله’.

أضف تعليق