إنّ الكثير مّما جاء في القرآن الكريم يرتبط بالرسول وبالأئمة الأطهار عليهم السلام ، وعندما نقرأ القرآن الكريم ونطلّع على ما أجمع عليه الثقات نشعر بحاجة شديدة إلى وجوب توضيح سيرة هؤلاء السادة والقادة الذين ترتبط بهم وبحياتهم كلّ جوانب مبادئنا وحياتنا، إنّ هؤلاء الأئمّة الأبرار وإن اختلفوا في أوضاعهم وظروفهم الزمانية والمكانية لكنّهم لا يختلفون في قدراتهم ولا يتفاوتون في إيضاح الشريعة الصحيحة للناس ولا في إقدامهم على حمل راية الثورة والجهاد لكن اختلاف القدرات بينهم ينتج عن ظروف تاريخية سياسية تتحكّم بهم فيكون مدى التحرّك ومقدار العطاء على قدر ما تسمح به تلك الفرص والظروف في ظلّ الإرهاب والسيف المسلّط على رقابهم.
لقد تكلّمنا عن الأئمّة الستة السابقين عليهم السلام وها نحن نبيّن اليسير من حياة الإمام السابع موسى الكاظم عليه السلام إنّ جميع الأئمّة جاهدوا صادقين ضدّ أنظمة الجور والفساد، فمنهم من شهر السيف وجاهد به مضحّياً بكلّ غالٍ ونفيس، وتاركاً للناس من بعده الدروس العظيمة في واجب الرسالة والتضحية.
ومن الأئمّة آخرون جاهدوا بالسرّ ليبعدوا الناس عن طاعة الظالم، وذلك عن طريق الأدعية والعلوم الدينية، فكان جهادهم مختلفاً متنوّعاً في الأداء وفقاً لمقتضيات الظروف وطبيعة الزمن.    
مولده ونشأته: هو الإمام الكاظم عليه السلام ، ولد سنة١٢٨ﻫ بالأبواء(1)، والده الإمام جعفر الصادق عليه السلام ، ووالدته حميدة المصفّاة ابنة صاعر البربري، يقال إنها أندلسية، أم ولد تكنى لؤلؤة(2).
وقد قال الإمام الصادق عليه السلام : >حميدة مصفاة من الأدناس كسبيكة الذهب، مازالت الأملاك تحرسها حتّى أدّيت إليّ كرامة من الله لي والحجّة من بعدي<(3).
بقي الإمام الكاظم عليه السلام تحت رعاية أعظم شخصية في عصره وهو والده الإمام الصادق عليه السلام ، بقي عشرين سنة في ظلّ هذه الرعاية.
وقد قال عنه أبوه وهو صغير: إنّ هذا هو صاحب الأمر من بعدي وهو لا يلهو لا يلعب(4).
عاش الإمام موسى الكاظم ما يقارب خمسة وخمسين عاماً، عشرون منها مع والده، والبقية في العهد العباسي.
وبدأت إمامته منذ شهادة الإمام الصادق سنة١٤٨ﻫ .
وعاصر من الخلفاء في إمامته:
١) أبو جعفر المنصور (١٣٨ﻫ - ١٥٨ﻫ).
٢) محمّد بن المنصور المعروف بالمهدي (١٥٨ﻫ - ١٦٩ﻫ).
٣) الهادي (١٦٩ﻫ - ١٧٠ﻫ).
٤) هارون الرشيد (١٧٠ﻫ - ١٩٣ﻫ) (5).
حكم ثلاثاً وعشرين سنة وفي هذه الفترة قضى الإمام الكاظم أغلب حياته متنقّلاً من سجن إلى آخر حتّى إنّه استطاع أن يؤثّر على السجّانين الذين كانوا يحرسونه في مختلف السجون حيث امتنعوا من حبسه وقتله لما رأوه من عبادة الإمام وتقواه ولما سمعوه من مواعظه الحكيمة الصحيحة(6).
عن طريق المنافقين والخونة المجرمين عمل هارون الرشيد بوسائل كثيرة على محاولة قتل الإمام غيضاً وحسداً وخوفاً لما يرى من موقعه الاجتماعي ومكانته الدينية وحبّ الناس له وتقديسهم لمكانته العلمية ولنسبه الشريف.
وكان المأمون عندما يُسأل عن مذهبه يقول أنا شيعي من أشياع محمّد وآل محمّد، فيسألونه من أين عرفت هذا؟ فيقول: >علمنيه الرشيد قيل له: وكيف ذلك والرشيد كان يقتل أهل هذا البيت؟ قال: كان يقتلهم على الملك لأنّ الملك عقيم ولقد حججت معه سنة فلما صار إلى المدينة تقدم إلى حجابه وقال: لا يدخلن عليّ من أهل المدينة ومكة من أهل المهاجرين والأنصار وبني هاشم وساير بطون قريش إلّا نسب نفسه...
فانا ذات يوم واقف إذ دخل الفضل بن الربيع فقال: يا أمير المؤمنين على الباب رجل يزعم أنّه موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب^ فأقبل علينا ونحن قيام على رأسه والأمين والمؤتمن وساير القواد فقال: احفظوا على أنفسكم ثمّ قال لآذنه: أئذن له ولا ينزل إلّا على بساطي فانا كذلك إذ دخل شيخ مسخد قد أنهكته العبادة كأنه شن بال قد كلم من السجود وجهه وأنفه فلما رأى الرشيد رمى بنفسه عن حمار كان راكبه فصاح الرشيد: لا والله إلّا على بساطي فمنعه الحجاب من الترجل ونظرنا إليه بأجمعنا بالإجلال والإعظام فما زال يسير على حماره حتّى صار إلى البساط والحجاب والقواد محدقون به فنزل فقام إليه الرشيد واستقبله إلى آخر البساط وقبل وجهه وعينيه واخذ بيده حتّى صيره في صدر المجلس وأجلسه معه وجعل يحدثه ويقبل بوجهه عليه ويسأله عن أحواله...
ثمّ قام فقام الرشيد لقيامه وقبل عينيه ووجهه ثمّ اقبل عليّ وعلى الأمين والمؤتمن فقال: يا عبد الله ويا محمّد ويا إبراهيم امشوا بين يدي عمكم وسيدكم خذوا بركابه وسووا عليه ثيابه وشيعوه إلى منزله فاقبل على أبو الحسن موسى بن جعفر‘ سرا بيني وبينه فبشرني بالخلافة فقال لي: إذا ملكت هذا الأمر فأحسن إلى ولدي ثمّ انصرفنا وكنت أجرى ولد أبي عليه فلما خلا المجلس قلت: يا أمير المؤمنين من هذا الرجل الذي قد أعظمته وأجللته وقمت من مجلسك إليه فاستقبلته وأقعدته في صدر المجلس وجلست دونه ثمّ أمرتنا بأخذ الركاب له؟! قال: هذا إمام الناس وحجّة الله على خلقه وخليفته على عباده فقلت: يا أمير المؤمنين أوليست هذه الصفات كلها لك وفيك؟ فقال: انا إمام الجماعة في الظاهر والغلبة والقهر وموسى بن جعفر إمام حق والله يا بني أنّه لا حق بمقام رسول الله’ مني ومن الخلق جميعاً ووالله لو نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك فان الملك عقيم... (7).
يبدو أنّ هذه القصّة أثّرت كثيراً في نفسية المأمون وهو صبي صغير، ولذلك كان يبدي الاحترام والتجلّة للإمام حتّى إنّه قال: >برئت الذمّة ممّن ذكر معاوية بخير... وإنّ أفضل الخلق بعد رسول الله’ علي بن أبي طالب<(8).
عند استلامه الخلافة بعد أبيه لكنه كان متردداً لا يقف على رأي واحد، وظلّ على هذه الحال حتّى هلك، وكانت له مواقف إيجابية جيدة وأخرى سلبية سيئة مع الأئمّة الأطهار الذين عايشهم، إن من يقرأ قراءة متأنية حياة أهل البيت ويطّلع بشمولية، على الأوضاع التي مرّت بهم من قبل الحكّام المتسلّطين الظالمين سوف يسهل عليه أن يفهم السرّ العميق في سبب دعوة القرآن الكريم إلى حبّ أهل البيت والانتصار لهم والالتزام بخطّهم الرسالي وسيكتشف أيضاً السبب الذي من أجله كان الرسول الكريم يجهد نفسه في حياته بالحثّ على حبّ أهل البيت والولاء لهم حيث يقول عليه السلام لعلي وفاطمة والحسن والحسين: >أنا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم<(9).
وما أكثر القصص المأثورة التي تبيّن لنا مدى تعلّق الناس بآل البيت الأطهار وهذه القصة واحدة منها:
قال صفوان بن مهران الجمال: >دخلت على أبي الحسن الأوّل عليه السلام فقال لي: يا صفوان كلّ شيء منك حسن جميل ما خلا شيئاً واحداً قلت: جعلت فداك أي شيء؟ قال: اكراؤك جمالك من هذا الرجل يعني هارون، قلت: والله ما أكريته أشراً ولا بطراً ولا لصيد ولا للهو ولكني أكريه لهذا الطريق يعني طريق مكّة، ولا أتولاه بنفسي ولكن أنصب غلماني. فقال لي: يا صفوان أيقع كراؤك عليهم؟ قلت: نعم جعلت فداك، قال: فقال لي: أتحب بقائهم حتّى يخرج كراؤك؟ قلت: نعم، قال: فمن أحب بقائهم فهو منهم، ومن كان منهم كان ورد النار. قال صفوان: فذهبت وبعت جمالي عن آخرها، فبلغ ذلك إلى هارون، فدعاني فقال لي: يا صفوان بلغني أنك بعت جمالك؟ قلت: نعم، فقال: لم؟ قلت: أنا شيخ كبير وأن الغلمان لا يفون بالأعمال. فقال: هيهات هيهات أني لأعلم من أشار عليك بهذا موسى بن جعفر، قلت: مالي ولموسى بن جعفر، فقال: دع هذا عنك فوالله لولا حسن صحبتك لقتلتك<(10).

____________
1- الإرشاد ٢: ٢١٥.
2- بحار الأنوار ٤٨: ١.
3- الكافي ١: ٤٧٧، حديث٢.
4- انظر المصدر السابق ١: ٣١١، حديث١٥.
5- انظر تاريخ الخلفاء: ٢٥٩ - ٢٩٦.
6- انظر الإرشاد ٢: ٢٣٩ - ٢٤١.
7- عيون أخبار الرضا ١: ٨٤ - ٨٦ ، حديث١١.
8- تاريخ الإسلام ١٥: ٦.
9- الأمالي للطوسي: ٣٣٦، حديث٦٨٠ والمستدرك للحاكم ٣: ١٤٩.
10- اختيار معرفة الرجال ٢: ٧٤٠.

أضف تعليق