• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

التمهید

بسم الله الرحمن الرحيم

التمهيد

أصول الدين وفروعه

علم الكلام

معرفة الله

الدوافع إلى معرفة الله

السبلُ إلى معرفة الله

معرفة الله الفطرية

معرفة الله البرهانية

آيات الصنع الكونية

برهان النظم

دليل الإمكان والوجوب

من خلق الله ؟

الله أم المادة

الدوافع نحو المادية واللا دينية

صفات الله

الصفات الكمالية

والجمالية والثبوتية

حياة الله

علم الله

قدرة الله

سمع الله وبصره

كلام الله

الصفات الجلالية والسلبية

أسماء الله

كانت أصولُ الدين ولا زالت محط َ اهتمام الإنسان ومحوراً لتساؤلاته واستفساراته، لما تتضمنه من جانب مهم ودور مصيري في حاضره ومستقبله؛ ففي ضوء نظرة الإنسان ورؤيته إلى الكون والحياة يتحدد موقفه المادي والإلحادي، أو الإلهي التوحيدي، ويكون من أهل الإيمان والهدى أو من اتباع الكفر والضلال، ومنها ينطلق لاختيار مناهج الأنبياء وتعاليمهم الإلهيَّة، أو انتحال طرائق البشر وقوانينهم الوضعية، فينعكس ذلك على حياته ليُحيلها إلى رَوْح ٍ وراحة، أو ألم وعذاب، تبعاً لحسن أو سوء انتخابه للقانون المختار المنطلق من رؤيته الخاصة.

ومن هنا فان البحث عن الحقيقة، والتحري عن أصول الدين في غاية الأهمية والخطورة، إذ يتحدد على غرارها هناءُ الإنسان أو شقاؤه.

والكتاب الذي بين يديك محاولة متواضعة ومُيَسَرة ٍ لرفع الإبهام واماطة اللثام عما يدور في خَلَدِ كل باحث عن الحقيقة على هذا الصعيد.

نسأل الله أن يأخذ بايدي الجميع إلى سواء السبيل ويهديهم إلى ما فيه الخير والصلاح.

 

 

أصول الدين وفروعه

أصول الدين عبارة عن التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد، وقد سُميت بذلك لأنها بمنزلة القواعد والأصول التي يُشيّد عليها صرح الدين وبناؤه الفوقي، إذ بدونها لا يمكن الاقرار بحكم من الاحكام أو بتعليم من التعاليم الشرعية.

وفي ضوء ما سبق نعلم السر في تسمية الأحكام والتعاليم المنبثقة من تلك الأصول بفروع الدين، باعتبار إنعكاسها وتفرعها عنها.

وقد عدَّها البعض عشرة: الصلاة والصيام والحج والزكاة والخمس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله والتولي والتبري. الا أن الواقع يؤكد على شمولها لكل حكم او تعليم شرعي في مختلف ابواب الفقه وفصوله فلا تتحدد بالعشرة كما هو واضح.

وتجدر الإشارة إلى أن الفارق الأساسي بين أصول الدين وفروعه يكمن في حكم العقل بلزوم بلوغ الانسان ـ بنفسه ـ مرتبة العلم واليقين باصول الدين، تحصيلاً للبيِّنة والوضوح، فلا يكون الإنسان فيها كراكب عمشاء في ليلة ظلماء.

( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ) (1) بخلاف فروع الدين فان من الممكن الرجوع فيها إلى ذوي الاختصاص من أصحاب النظر والاجتهاد لِتلقي الأحكام منهم بعد علمه بمصدرها ومنبعها ونقائها وقيمتها، كرجوع المريض إلى الطبيب، بالاستفادة من خبرته وعلمه لتشخيص دواء دائه بعد الوثوق بخبرته وعلمه وإحاطته وقدرته على العلاج.

 

علم الكلام

وهو العلم الذي يختص بدراسةِ أصول الدين الخمسة وكلِّ ما يتفرع عنها من مسائل ومفاهيم، وأما وجه تسمية هذا العلم بعلم الكلام، فذلك يعود إلى جملة أسباب، وفي طليعتها؛ أن الاشاعرة والمعتزلة قد أثاروا بينهم جدلاً ونزاعا شديدين حول كلام الله؛ في انه حادث

_______________

المصادر:

1 ـ البقرة: 170.

 

كحدوث مخلوقاته أو أنه قديم مع قدم الذات الإلهية. وقد انعكس ذلك على مباحث أصول الدين ومسائلها، حيث سمي العلم الذي يبحث حولها بعلم الكلام، تسمية ً للكلِّ باسم الجزءِ.

 

معرفة الله

ان من غير الممكن معرفة ذات الله وحقيقته ووجوده وصفاته تعالى، بصورة تامة ومفصلة، حتى على الأنبياء والأوصياء والأولياء.

قال النبي (ص): ( ما عبدناك حق عبادتك وما عرفناك حق معرفتك )(1) .

ويعودُ السرّ في ذلك إلى أن الإنسانَ محدودٌ في ذاته ووجوده وإدراكه وفهمه، فأنى له إدراك ذات ووجـود وصفات الله تعالـى المـطلق؛ الـذي لا تحـدده حـدود فـي وجوده ولا تقيده قيودٌ في صفاته، فهو عالم بلا حدود وقادر بلا حدود وحي بلا حدود...

إلا ان ما قلناه لا يعني حجب العقول عن معرفة ذاته وصفاته تعالى ولو بالمقدار الميسر، بل إنها ممكنة لكلِّ أحد، ولكن بدرجات مختلفة ومتفاوتة. ولا غرابة في ذلك، فان في مجال العلوم الطبيعية وغيرها من العلوم مفردات كثيرة من هذا القبيل؛ يعرف الإنسانُ عنها شيئاً وتغيب عنه أشياءُ؛ فقد تعرَّفَ العلمُ على وجود كوكب من توابع الشمس اسمه المريخ، وتوصل إلى نزر يسير من المعلومات المرتبطة به، بينما بقي الكثير منها لحد الآن طي الكتمان، وعليه فان معرفتنا بهذا الكواكب على هذا المستوى إجمالية ٌ وغير مفصلة. وهكذا الحال بالنسبة إلى معرفة الله تعالى، فإننا نعلم بأنه تعالى موجود وأنه قادرٌ وأنه حيٌ وأنه عالمٌ، ولكننا نجهل تفاصيل ذلك، لأنها لا تخضع لنفوذ وسلطان عقولنا، ولا تحاطُ بمدركاتِنا وفهمِنا.

قال الإمام عليُّ u: ( لم يُطلع العقول على تحديد صفته، ولم يحجبها عن واجب معرفته )(2).

بل ان من الحسن ترك غمار الخوض في تفاصيل معرفة الله، لأنها تجر غالباً إلى وساوس الضلال، وتُلْقي الإنسان في دوامة الكفر والإلحاد.

_______________

المصادر:

2 ـ بحار الأنوار ج68|23.

1 ـ نهج البلاغة: الخطبة 49.

 

 

الدوافع إلى معرفة الله

 

ان ظاهرة البحث عن خالق الكون والحياة قديمة وممتدة مع قدم الإنسان، فقد كان الإنسان منذ ُ نعومة أظافره ولحد الآن يفكر فيما حوله من ظواهر ويتأمل في عللها وأسبابها؛ تدفعه إلى ذلك عوامل مختلفة يمكن إجمالها بما يلي:

1 ـ الرغبة في كشف الأسرار: فقد فُطِر الإنسان ميّالا ً إلى معرفة المجاهيل وتوّاقاً إلى كشف الأسرار، وبفضل ذلك استطاع أن يذلل الطبيعة لسلطان إرادته، ويخلق تحولا ً عظيماً في حياته.

ومن جملة ما أثار اهتمام الإنسان للبحث عنه، نشأةُ الكون والحياة، والتأمل في عللها وأسبابها وبواعثها؛ فهل أن لها موجداً أوجدها وخالقاً خلقها أم أنها وجدت غنية عن ذلك ؟.

2 ـ شكر المنعم: يشعرُ الإنسان في دخيلة نفسه بضرورة ردِّ الإحسان إلى المحسنين وشكرهم على إحسانهم، ومن أجله يندفع إلى معرفة المحسن إليه والمنعم عليه كي يشكره على ما أغدق عليه من فضل ولطف، وفي ضوئه أيضاً ينطلق إلى معرفة خالقه وموجده المتفضل عليه بالوجود والنعم والآلاء، كي يشكره بما يناسبه من الشكر، رداً لإحسانه وجزاءً على جميل مننه وإكرامه.

3 ـ تحديد المصير: من زاوية ثالثة فإن الإنسان ليشعر بالقلق والاضطراب إذا ما اُخبر بحلول وباء فتّاك في أهل البلد الذي يريد السفر إليه، وسوف يحتاط ويتريث من أجل السؤال والاستفسار عن مدى صواب أو خطأ الخبر الذي طرقَ سمعَه. وهكذا الحال فيما نحن فيه ازاء ما أخْبَرنا به جماعة عن وجود الله الخالق، وعن وجود محكمته الأخروية العادلة، لتنفيذ أحكامها الصارمة بعد سفر الموت، فيُجازى المحسنون بأحسن جزاء ويُعاقب المسيؤون بأشد العذاب، خصوصاً وان هؤلاء المخبرين الذين يدَّعون لأنفسهم النبوة والبعثة عن الله قد عرفوا بحسن سيرتهم وسريرتهم وبعدهم عن كل رذيلة ودنس أخلاقي. ألا يحكم العقل حينها بضرورة التحري عن الواقع والبحث عن الحقيقة لتحديد المصير ودفع الخطر المحتمل عن النفس، وتبديل القلق الذي ينتابه إلى طمأنينة وراحة؛ بالإسراع إلى معرفة ما لو كان للكون خالق أم لا، لاتخاذ ما يلزم في ضوء المعرفة والعلم والاستنتاج.

 

 

السبلُ إلى معرفة الله

إنّ السُبُل إلى معرفة الله والأدلة على وجوده تعالى اكثر من أن تُحصى فهي، بعدد أنفاس الخلائق وأوراق الشجر وحبات الرمال...

إلى أن من الممكن إجمالها في سبيلين رئيسين:

 

أ: معرفة الله الفطرية:

إذا غُصنا في أعماق التاريخ وأغواره السحيقة وبحثنا عن الظاهرة الدينية، لتوصلنا بما لا يبقي مجالاً للشك إلى أنها واكبت حياة الإنسان من بدوِ وجوده ولحد الآن، وهو ما يؤكده علماء الجيولوجيا عبر الآثار والوثائق التي عثروا عليها في مدن وقرى وكهوف الإنسان القديم، الدالة على عبادة الآلهة، والمؤكدة على فطرية الدين وعمقه التكويني في وجود الإنسان.

وهكذا فان من يستنطق نفسه ـ بعيداً عن مكدراتها وعوامل انحرافها ـ ويتصفحُ رأيها عن وجودِ موجدِها، فإنها لا تتوانى في الحكم بوجوده، والإذعان بتحققه وثبوته بلا تكلفٍ، ودونما حاجة إلى تعليم وتعلم أو توجيه وإرشاد أو حجة وبرهان.

( فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها )(1).

_______________

المصادر:

1 ـ الروم: 30.

 

وقد يخبو ميلُ الإنسان الفطري واتجاهه الديني بين فينة وأخرى، بفعل بعض عوامل وأسباب الانحراف، لكنه سرعان ما يظهر ويتبلور من جديد. ومن هنا فان المعرفة الفطرية ليست على وتيرة واحدة، لاختلافها قوة وضعفا، باختلاف الأفراد وظروفهم وبيئتهم وتربيتهم... وقد تصل إلى درجة من الضعف بحيث لا تكون كافية للدلالة على وجود الخالق المبدع. وبناءً على ما تقدم فلا يمكن استغناء أكثر الناس عن الأدلة العقلية والمعرفة البرهانية، لإثبات وجود الحق تعالى.

 

معرفة الله البرهانية:

يدرك كل إنسان قويم ـ وبأدنى تأمل ـ لزومَ إرجاع الحوادث إلى أسبابها؛ فلا يوجد معلول بلا علة، ولا مصنوع بلا صانع، ولا مؤسسة بلا مؤسس. ومن هذه الرؤية يجري الاستدلال والبرهان على وجود خالق لهذا الكون، بكل ما يزخر به من مظاهر وأشياء.

وللبرهان العقلي سبلٌ شتى وطرق مختلفة، ونكتفي بذكر بعضها:

 

1 ـ آيات الصنع الكونية:

إنَّ نظرة سريعة وعابرة إلى جانب يسير من عالم الخلقة تدعونا بيسر وسهولة إلى الإذعان بوجود قوة حكيمة وعقل مدبر قد هندس وجودها وركّب بين أجزائها ببراعة ودقة؛

فخلق الأنثى للذكر، وتركيب كل منهما بما يتناسب وينسجم مع تركيب الآخر، إبقاءً للنوع وصيانة له من الانقراض والاندراس.

وعنصر الرعاية والحنان الذي نجده عند البشر والحيوانات بدرجات متفاوتة، فيزداد ويشتد كلما زادت الحاجة إليه، ويضعف أو ينعدم كلما قلّت أو انعدمت الحاجة إليه. فالأبناء من بني الإنسان بحاجة إلى عطف وحنان الأبوين في عهد طفولتهم وحتى حين بلوغهم أشدّهُم، فانهم لا يستغنون عن تجربة الأبوين وإرشادهما. كما ان الأبوين بحاجة إلى الأبناء حين العجز وعند بلوغهم أرذل العمر، مما يتطلب عاطفة متبادلة بين الطرفين إلى آخر محطة من محطات عمرهما، إدامة للحياة الطيبة الهانئة، ووصولاً إلى أهدافها المنشودة السامية. بينما نجد حنان الدجاجة على أفراخها محدود بفترة احتياج الأفراخ إليها، فإذا اشتد عود الأبناء واستغنوا عن اُمهم، انقطع وصلُ الحنان والرعاية، وغدا كل من الطرفين غريبا عن الآخر. في حين ينعدم حتى هذا المقدار من الحنان ما بين الأسماك، حيث تلقي السمكة ُ الأمُ بيوضَها في وسط خاص من الماء، وتتركها تفقس، لتخرج الأفراخ بعدها سابحة في الماء وباحثة بنفسها عن موارد عيشها وأسباب بقائها، مستغنية عن أبويها، بما وفّر لها خالقها من إمكانات تكوينية؛ طبيعية وغريزية.

والنمل الذي يبني بيوته وقراه بما يناسب حياته وحاجاته، فيُنْشِؤها طوابق متعددة، بعضها لسكناه، وبعضها لمخازن طعامه. وهو بين فترة واُخرى يُعَرّضُ طعامه إلى أشعة الشمس خشية التعفن والفساد. ويخرج لكسب عيشه وطعامه، فان وجدت نملة ٌ طعاماً أخبرت البقية، فيهرعوا إلى جمعه ونقله إلى مخازنهم، وإذا ما عثروا على حبة قسّموها إلى قسمين تجنبا من إنباتها، إلا حبة الكسفرة فيقسموها ارباعاً، لأن كلّ نصف منها قابل للإنبات أيضاً.

وفي النحل ِ ما يفوقُ النملَ فطنة وذكاءً، فإنها تبني بيوتها على أشكال ٍ سداسيةٍ وهندسية دقيقة. وتتوزع الأعمال بينهم، فمنهم من يتولى حراسة الخلية والدفاع عنها، ومنهم من يوظف طاقته لإنتاج العسل، ومنهم من يربي الصغار... والحاكم المطلق الذي يشرف على إدارة شؤون الخلية هي الملكة، ضمن نظام ٍ قوامه التآزر والتعاون وأساسه النظم والانضباط، ويشعرُ الجميع بأمومة الملكة وسيادتها المطلقة، فيبادلونها مشاعر الود والحنان، ويسعون لخدمتها وتحصيل رضاها.

وفي النجوم والكواكب تتجلى عظمة الخالق وجبروته، فالشمس اكبر من الأرض بمليون وربع مليون مرة، وقدّر الباحثون حرارتها الباطنية بعشرين مليون درجة مئوية، والظاهرية السطحية بستة آلاف درجة مئوية، فلو كانت درجة حرارتها الظاهرية ضعف ما عليها الآن لاحترقنا بلظاها، ولو كانت نصفها لمتنا برداً، وهكذا لو بعدت الشمس ضعف بعدها الفعلي عن الأرض لتحولت الأرض برداً زمهريراً، تستحيل معه الحياة، ولو كانت مسافتها نصف ما عليها الآن لهلك من على المعمورة.

والشمس مصدر حياتي يرفد الإنسان بالنور والدفئ، ويموّن النبات ـ الذي تتوقف عليه حياة الإنسان والحيوان ـ بوقودِ عملية التركيب الضوئي. وعددُ النجوم ِ المرصودة فلكياً مئة مليون مليون نجمة، وهي لا تعتبر شيئاً أزاء النجوم التي لم تُكتشف ولم تخضع لأجهزة الرصد الفضائي. والشمس صغيرة إذا ما قارناها ببعض تلك النجوم، فمثلاً ( السماك الرامح ) أكبر حجماً من الشمس بثمانين مرة، و( قلب العقرب ) أكبر منها بتسعين مليون مرة.

هذا غيضٌ من فيض ِ عالم الوجود وقطرة من بحر عالم التكوين، أفلا يدلُ ما تقدم وأمثاله الذي لا يُعد ولا يُحصى على وجود خبير مدبر قد أشرف على صنعها وأبدع خلقها ووجودها.

( قل انظروا ماذا في السموات والأرض )(1).

_______________

المصادر:

1 ـ سورة يونس: 101.

 

برهان النظم

 

لو ألقى الإنسان نظرة ً إلى بناية جميلة ذات تصميم هندسي دقيق، فإنه لا يتردد حينها بوجود بنّاء ومهندس ماهر برع في بنائها وهندستها. ولو قيل بان زوبعة قامت بذلك؛ بأن أخذت مواد البناء ومستلزماته الإنشائية، ونقلتها من مكان إلى أخر، بعد أن صفّتها ورتّبتها ترتيباً خاصا فصارت بناية مصممة وجميلة ً تُسرُّ الناظرين، لكان ما قيل اقرب إلى السخرية والخيال منه إلى الجد والواقع.

ولو تأملنا في حركة السير المنتظمة عند تقاطع طرق مزدحمة بالحافلات، لأذْعَنّا بوجودِ ناظم نظّم سيرها ويسّر حركتها، إذ بدونه تغدو حركة الحافلات عشوائية ومتعثرة في سيرها ونظمها.

وهكذا الحال بالنسبة إلى عالم التكوين الحافل بانماط الصنع وآيات الخلق[1]، التي خلقت بأحسن تقويم ونظّمت بأفضل ِ تنظيم، وهي في كثرتها بحيث يعجز عن عدّها العادّون ويكل عن إحصائها المحصون. فالعالم من ذرته إلى مجرته يشهدُ بوجود ناظم نظّم سيرها، وخالق أتقن صنعها، وحكيم برأ وجودها، وجبار مهيمن أحكم قبضتها، وعالم ٍ كبير أحاط بدقيق فنونها، ورب قيوم دبَّر أمرها.

( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ الله مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ )[2].

( ومن المناسب هنا أن نستمع إلى حوار بين « نيوتن »: الرياضي والمنجم الإنجليزي المعروف مع أحد أصدقائه الماديين..

أوصى نيوتن إلى رجل ميكانيكي ماهر فنان أن يصنع له صورة مصغرة عن المنظومة الشمسية، فصنع له ما أراد، وكانت هذه الصورة ( الماكيت ) ذات مركز وسيارات حولها ترتبط بعضها ببعض بأسلاك وهي تدور بأسلاكها في مدارات خاصة حول ذلك المحور في مركز الدائرة.

وذات يوم كان نيوتن في مكتبه ومعه صديقه الميكانيكي صانع الصورة الفلكية، اذ دخل عليه صديقه العالم المادي، وما إن وقع بصره على الصورة الفلكية (الماكيت) للمنظومة الشمسية حتى بُهرَ بجمالها وظرافتها، ولما حرك محرك أسلاكها رأى إن السيارات المعدنية

_______________

المصادر:

1 ـ وقد تقدم ذكر بعض أمثلتها في العنوان السباق ( آيات الصنع الكونية ).

2 ـ البقرة: 164.

 

أخذت تتحرك حول محورها على الأسلاك، صاح: شيءٌ عجيب ! من صنع هذا ؟ أجاب «نيوتن»: لا أحد، إنما وجدت بالصدفة والاتفاق هكذا !.

قال العالم المادي: لعلّك لم تفهم ما أقول، أنا سألتُك: أيُ الميكانيكيين صنع هذا (الماكيت ) ومن صممّ له هندستها ؟

قال « نيوتن »: لقد التفتّ إلى سؤالك، وكان كلامي جواباً لسؤالك حينما قلت لك: لا أحد، وإنما وجدت بالصدفة وحدها، أي ان موادها تجمعت وتشكلت بصورة اتفاقية عفوية.

قال العالم المادي وهو ينظرُ إلى « نيوتن » بحيرة ومرارة: صديقي « نيوتن » هل تتصور إني أحمق أنسب هذا الماكيت إلى الصدفة ؟، وصانعها لابد أن يكون استاذاً ماهراً ذا ذوق ونبوغ.

حينئذٍ قام نيوتن من خلف منضدته وأغلق الكتاب ووضع يده على كتف صديقه المادي وقال: صديقي ! إنَّ ما تراه وتسألُ عن صانعه ليس إلا ماكيتا صغيراً عن نظام واقعي عظيم للمنظومة الشمسية، ومع ذلك لا تقبل إن يكون صُنِعَ وحده وبالصـدفة من دون أن يكـون له صانع عالـم مُسْتهدِفٌ، إذن فلمـاذا تصرُّ علـى عدم وجود خالق عالم للمنظومة الشمسية مع مالها من عظمة وسعة وتعقيدات، وتقول: إن الصدفة أو المادة غير الشاعرة هي التي صنعتها ؟!

فخجل العالم المادي وسكت أمام منطق « نيوتن » القوي والصريح.

وهكذا لام « نيوتن » صديقه العجول الذي كان يعاند ويكابر وينكر الحق ويجانب الحقيقة )[1].

 

3 ـ دليل الإمكان والوجوب:

ومفادُ هذا الدليل رجوعُ كل محتاج في الوجود إلى من هو غني بالوجود، فالسماء والأرض والجبال والبحار والإنسان والحيوان... إذا كانت في ذاتها وأصل وجودها محتاجة إلى غيرها في الوجود، فلابد من وجود ذلك الغير؛ الغني في ذاته حتى يرفدها برافد الوجود والتحقق.

وقد أطلق علماء الكلام اسم الممكن على الأشياء المحتاجة في وجودها إلى غيرها، بينما أطلقوا اسم الواجب على الموجود المستغني في وجوده عن غيره.

والوجه في تسمية الطائفة الأولى بالممكنة يعود إلى إنها في حد ذاتها ممكنة الوجود وممكنة العدم، و إنما تتلبس بحُلة الوجود إذا ما وجدت علة تمنحها ذلك، وإلا فهي باقية في

_______________

المصادر:

1 ـ أصول العقائد في الإسلام. مجتبى الموسوي اللاري ج1 ص 53ـ55 مطبعة الثقافة. 1404 هجري.

 

حيز العدم. وأما الوجه في تسمية الغني في ذاته بواجب الوجود، فذلك يعودُ إلى أن الغني بالوجود موجودٌ بذاته، وغيرُ محتاج في تحققه إلى غيره، وإذا كان الوجودُ منبثقاً من ذاته وغير ناشئ ٍ من غيره فلابد من تحقق وجوده دائماً وأبداً، مستقلا ً عن غيره، وهو معنى وجوب الوجود بالذات.

وبناءً على ما تقدم فان الفارق الأساسي بين ممكن الوجود وواجب الوجود بالذات هو إن ممـكن الوجـود منـوط ومرتبط في وجوده بعـلته وسببه المـوجد له؛ فلا يمكن تحقق وجوده إلا بوجود وإفاضة علته وسببه. وعلى خلافه يكون الواجب بالذات مستغنياً عن كل علة وسبب لوجوده، لأنه مستقل عنها وغير محتاج إليها.

ومن أجل إيضاح وبيان ما سلف نستعين لتصوير الفكرة بالمثال: إن الماء بحاجة إلى سكّر حتى يكون حلواً، وأمّا السكر فلا يحتاج إلى سكر حتى يكون حلواً لأنه بذاته حلو. والصفر بمفرده يحتاج إلى عدد صحيح يُضَمُ إليه حتى يكون من جملة الأعداد الصحيحة، وأما العددُ الصحيحُ فلا يحتاج إلى عدد صحيح حتى يكون عدداً صحيحاً لأنه بذاته عددٌ صحيحٌ.

وهكذا الحالُ بالنسبة إلى الممكن وواجب الوجود، فإن الممكن قبل وجوده كان معدوماً ومحتاجاً إلى غيره من العلل والأسباب لإيجاده وتحققه.

وأما واجب الوجود فهو بذاته موجود ومستغن ٍ عن غيره في الوجود والتحقق، فلا معنى لفرض احتياجه إلى غيره لإيجاده وتحققه.

وإذا اتضح ما تقدم من الفرق بين الممكن والواجب فتعال معي لتطبيق الفكرة على عالم التكوين والوجود؛ لو فُرضَ إنَّ عالمَ الوجود من ذرته إلى مجرته ممكنٌ؛ محتاجٌ إلى غيره في وجوده وتحققه، فلابد من فرض منبع غني بالوجود يضخه بالتحقق ويمنحه الثبوت والوجود، وهو الخالق، تعالى اسمه وجلت عظمته، إذ كيف يمكن ارتداءُ الفقير ِ ثوب غنى الوجود وهو في ذاته فقير ومحتاج إليه.

ولو قيل: إن الموجودات الإمكانية هي التي أوجدت نفسها بنفسها؛ بأن يكفلَ بعضها إيجاد البعضَ الآخر.

قلنا: بأن ذلك منوط بغنى الوجود ولو لواحد منها، مع إن الجميع فقير ومحتاج إلى الوجود، فمن أين تحقق الغنى بالوجود ؟! وكيف خرج الجميع من حيز العدم إلى عالم التحقق والثبوت ؟!. وهو أشبه ما يكون بقول القائل إن إضافة صفر إلى صفر آخر يوجدُ عدداً صحيحاً !!. نعم إن إضافة عدد صحيح إلى صفر أو مجموعة أصفار يُوجـِدُ بلا شك عدداً صحيحاً، إذ هو من قبيل رجوع الفقير المحتاج إلى الغني. الا ان قول القائل أجنبي عن هذا الفرض.

وفي ضوء ما تقدم، فلا مناص من رجوع جميع الممكنات إلى موجود واجب؛ غني في وجوده، حتى يمنحها عطاء وفيض وجوده، وهو الله سبحانه البارئُ الخالق المصور له الأسماء الحسنى.

( وَالله الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء )[1].

( وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى )[2].

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى الله وَالله هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ )[3].

 

من خلق الله ؟:

وبما أسلفنا لا يبقى مجالٌ للسؤال عن خالق الله وموجدِهِ، إذ انه تعالى غني بذاته عن كل علة توجده، فلم يكن الله معدوما أو محتاجاً إلى غيره في الوجود حتى يلجأ إلى من سواه في الوجود، وإنما يصح إثارة ذلك السؤال أزاء الموجودات الإمكانية؛ المحتاجة في وجودها إلى علة وسبب في إيجادها وتحققها، كما لو سألت عن صانع الكرسي ومُبتكِر ِ جهاز الراديو والكومبيوتر والانترنيت، لوضوح ان لكل مصنوع صانعاً ولكل مُبْتكر ٍ مُبتكِراً. بَيْدَ أن ذات الله تعالى ليست بمصنوعة حتى تحتاج إلى صانع، وليست بمُبتكرةٍ حتى تحتاج إلى مبتكر، بل هو الغني لا إله إلا هو الحي القيوم جبار السموات والأرض، وهو الذي أيّنَ الأين إذ لا أين، وكيّفَ الكيف إذ لا كيف، وهو الظاهر والباطن والأول والآخر، الذي لم يلدْ ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.

 

الله أم المادة:

وقد تقول لماذا لا نفترض غنى مادة عالم الكون وواجبية وجودها بل صورها وأشكالها كما فرضنا ذلك في الله تعالى ؟ وبذلك سوف لا نضطرُ إلى افتراض علة أوجدتها وخالق خلقها. غير أن هذا الفرض بعيد على ضوء ما توصل إليه جهابذة العلم من أمثال نيوتن وآنشتاين؛ من أن لمادة العالم بداية بدأت منها، وان إختلفوا في تحديد تاريخ نشأتها وحدوثها[4].

وبغض النظر عما تقدم فإنه ليس من الإنصاف ولا من المنطق إلغاء قوة حكيمة وعليمة من وراء ظواهر الكون واشكاله الزاخرة بآثار الحكمة والدقة والعلم، وإرجاع ذلك إلى مادة صماء وعمياء وخرساء، وعديمة لكل معلم من معالم الشعور والإحساس !. ولماذا الإصرار

_______________

المصادر:

1 ـ سورة محمد: 38.

2 ـ سورة النجم: 48.

3 ـ سورة فاطر: 15.

 

1 ـ وقد استدل بعضهم كـ ( فراتك آلن ) على حدوث المادة استناداً إلى الأصل الثاني من أصول الترمو ديناميك والذي يُعبر عنه بالانتروبي أو الاستنزاف والبلى. راجع من أجل التفصيل كتاب ( أصول العقائد في الإسلام ) ج1 ص91 مجتبى الموسوي اللاري.

على أن الأزلي والغني بالذات هو المادة، دون الله تبارك وتعالى ؟!. ألا يكون ذلك مدعاة إلى الشك في النوايا والأهداف، وان من وراء ثرثرتهم مآرب اُخرى تصب في مصب التحلل والانفلات من قيود وتبعات الإيمان بوجود الله تعالى ؟!. وهو ما سنشير إليه في البحث التالي.

 

 

الدوافع نحو المادية واللا دينية

ان الاتجاه الفطري في وجود الإنسان يدعوه إلى السير في طريق الهدى، والإعراض عن سبيل الضلال والشرك، وقد يجد هذا الاتجاه صدىً واسعا في نفسه إذا ما شب وترعرع في وسط صالح، يُجذّرُ فيه الخير ويشحذ فيه الصلاح والفلاح.

وقد تذوب معالمة وتُجتَثّ جذورُه، بل ويستبدلُ باتجاه مادي لا ديني، يدعوه إلى الغي والضلال ويجره إلى الفساد والإفساد، بفعل جملة عوامل وأسباب يمكن إجمالها بما يلي:

1 ـ إن إعراض الإنسان عن طاعة الله و الوقوع في مستنقع المعصية يبعث على بعده عن ربه والإعراض عن ذكره، ومن ثم الكفر به تعالى والأنس بما سواه.

( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ الله وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون )[1].

وهو أحد أسباب التأثير في إيجاد الاتجاه المادي اللاديني.

2 ـ وقد يعود الاتجاه اللاديني في الإنسان إلى الرغبة في الانفلات والتحلل من القيود التي يفرضها الإيمان بالله واليوم الآخر، ومن أجله يَعمدُ إلى إنكار ذلك فرار من لوازمه وقيوده المترتبة عليه، لينهمك في فجوره ويتمادى في ضلاله وغيه ويبرر انحرافه.

( أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ )[2].

 

3 ـ إثارةُ الشبهات واتجاهات الضلال والزندقة عاملٌ آخر من عوامل الإلحاد واللادينية والمادية، لأنها تلعب دوراً حساساً في تشويش الأذهان وتكدير صفاء الفطرة التوحيدية.

4 ـ وقد ترجع بعض حالات الإلحاد واللادينية إلى سوء تصرف بعض من يُحتسَبُ على الدين والدين منه براء، كما حدث في أوربا إبان القرون الوسطى، حيث تصدى بابوات الكنيسة بالتصفية الجسدية لعلماء الطبيعة، بتهمة الكفر والزندقة، لما أبدوه من نظريات علمية متعارضة مع آراء البابوات، فتسبب في إعراض الناس عن الدين وظهور الاتجاه المادي اللاديني هناك.

_______________

المصادر:

2 ـ الروم: 10.

3 ـ سورة القيامة: 3ـ5.

 

5 ـ وقد يكون اُنسُ الإنسان بالمحسوس وميله إليه أكثر من انسه وميله إلى ما هو مجردٌ لا محسوس، من جملة عوامل إنكار وجود الله وما يستتبعه من أحكام وتعاليم دينية، لأن الله تعالى ليس من الأشياء المادية حتى يخضع لإحدى حواسنا الخمسة بل هو مجردٌ عن المادة.

 

صفات الله:

تعرفُ صفاتُ الله من بديع صنعه وآيات خلقه، لأنها من آثاره والأثر يدلُ على مؤثره، فمن هندسة الكون ودقة الصنع نتعرف على علمه تعالى، ومن سعة ملكه وعظيم سلطانه نعلم بقدرته وهيمنته...

ومن إثباتنا لواجبية وجوده؛ وغناه عما سواه نثبت له كل ما هو محمود وحسن، وننفي عنه كل ما هو مذموم وقبيح.

 

الصفات الكمالية | والجمالية | والثبوتية:

والصفات المحمودة الحسنة تشمل وتسع كل ما له ارتباط بكمال الله وجماله، فنثبت لذات الحق تعالى كل ما هو حسن، كصفة العدل والصدق والكرم والحياة والعلم...

( وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى )[1].

ويُسمي علماءُ الكلام ِ هذه الطائفة من الصفات؛ بالصفات الكمالية أو الجمالية أو الثبوتية، لأنها تثبتُ لله تعالى كل ما هو كامل وجميل.

وإليك ذكر وبيان نزر يسير من هذه الصفات:

 

حياة الله

ومعنى الحياة واضح؛ وهو ما يقابل الموت، إلا أن حياة الله مطلقة من كل قيد وغير متوقفة على غيرها، وأما حياة ما سوى الله فمرتبطة ومحتاجة إلى غيرها، فحياة النبات والحيوان والإنسان متوقفة في وجودها وبقائها على التغذية والتنفس، وبدونهما تنعدم حياتها، وهي بمجموعها مرتبطة بخالقها وبارئها وموجدها.

ولا ينبغي لأحد الشك في حياة الله تعالى، إذ انه واهبها، فلو كان فاقداً لها لما أمكن إعطاءها، لأن فاقد الشيء لا يعطيه.

_______________

المصادر:

1 ـ الأعراف: 180.

 

علم الله

وهي صفة أخرى من صفات الله الكمالية والجمالية. فالله تعالى قد أحاط بكل شيءٍ علما، فلا يشذ عن سعة علمه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، فهو عالم بما كان وما هو كائن وما سوف يكون، بلا واسطة ولا حاجة إلى كسب معرفة ولا تحصيل علم بل إن كل شيءٍ معلوم عنده وحاضر لديه بالعلم الحضوري، لأن كل ما سواه متعلق به ومخلوق من مخلوقاته، ونفحة من نفحات قدس وجوده.

( وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَـاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ )[1].

ويختلف علم الله عن علمنا بأنه لا يتحدد بحدود زمانية ولا مكانية، فإشرافه على قافلة الوجود تام وإحاطته بمفرداتها وجزئياتها وتفاصيلها كاملة. على خلاف علمنا المحدود بحدود وسائل المعرفة والمقيد بقيود الزمان والمكان. نعم انه يزداد ويثرى كلما زادت سبله وتعددت طرائقه، لكنه يبقى محدوداً وناقصا.

( وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ )[2].

وعلم الإنسان بالأشياء أشبه ما يكون بمن ينظر إلى مسير قافلة طويلة من خلال نافذة صغيرة، فإنه لا يستطيع النظر إليها جميعاً بنظرة واحدة. وأما إحاطة علم الله بمخلوقاته فهو أشبه ما يكون بمن ينظر إلى تلك القافلة من أعلى شاهق، حينما تجتمع في سهل منبسط تحت مرأى الشاهق، فإنه سوف يرى ويتطلع بنظرة واحدة إليها جميعاً، ولا يغيب عن ناظره فردٌ واحدٌ أو راحلةٌ واحدةٌ منها.

 

قدرة الله

إن خلق الله للممكنات كاشف عن قدرته، إذ لو لم يكن كذلك لما أمكنه خلقها وإيجادها.

وقدرة الله تعالى تَسعُ كلَ ما هو ممكن؛ قابل في ذاته للتحقق والوجود، وأما المحالات العقلية فلا تتعلق بها قدرة الله، كجمع العالم في بيضة دجاجة، مع بقاء العالم والبيضة على حجمها دون إيجاد تغيير فيهما. وقد سُئِلَ أميرُ المؤمنين علي ابن أبي طالب(ع) عن إمكان جمع الله العالم في بيضة دجاجة، فأجاب(ع):

( إن الله لا ينسبُ إليه العجز ولكن الذي سألتني لا يكون )[3].

كما وقد سُئلَ الإمام الرضا(ع) ذات السؤال، فأجاب(ع) قائلاً:

_______________

المصادر:

1 ـ سورة الأنعام: 59.

2 ـ سورة يوسف: 76.

3 ـ بحار الأنوار ج4 ص143. الرواية 10. الباب4.

 

( نعم وفي أصغر من البيضة، قد جعلها في عينيك وهي أقل من البيضة، لأنك إذا فتحتها عاينت السماء والأرض ما بينهما ولو شاء لأعماك عنها )[1].

ويحملُ كلامُ الإمام الرضا(ع) على إمكان ذلك في حالة جعل البيضة بحجم العالم أو تصغير العالم بحجم البيضة، فلا تعارض بين جوابه(ع) مع جواب جده الإمام علي(ع).

وعدم تعلق قدرة الله في المحال العقلي لا يخلُ في قدرة الله جل وعلا، بل إنه مفصح عن أن المحال غيرُ قابل للتحقق بحد ذاته. وهو نظير استحالة جعل حاصل جمع 2+2=5، حتى بالنسبة للرياضي الحاذق، لأنها معادلة محالة في حد ذاتها ولا علاقة لها برياضية الرياضي وحذاقته. كذلك الحال بالنسبة إلى الأمور المحالة فإنها محالة التحقق بحد ذاتها، ولا ارتباط لها بقدرة أي قادر مهما كانت وبلغت قدرته.

 

سمع الله وبصره

إنَّ الله تبارك وتعالى يدرك المسموعات والمرئيات، وهذا هو معنى سمعه وبصره تعالى.

ويختلف سمعنا وبصرنا عن سمع الله وبصره في أننا نسمع ونبصر عبر جهازي السمع والبصر، وبدونهما لا يتحقق سمعنا وبصرنا. مضافا إلى اننا لا نستطيع رؤية الأشياء المجهرية المتناهية في الصغر، ولا الأشعة تحت الحمراء ولا فوق البنفسجية وغيرها من الأشياء. ولا نستطيع استماع الأصوات إلا ما يتراوح تردد موجها بين 4% ـ 8% مايكرون، وأما ما زاد أو قصُرَ عن ذلك فغير مسموع لنا. وأما الله تعالى فإنه يسمع كل صوت ويرى كل شيءٍ كائناً ما كان، ولا يحتاج في ذلك إلى جهازي السمع والبصر لأنه غني عنهما.

( وَاتَّقُواْ الله وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ )[2].

( ذَلِكَ بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ )[3].

وكلمة ( بصير ) و ( سميع ) على وزن فعيل وهي من صيغ المبالغة، إشارة إلى ان سمع الله وبصره غير محدودين بحدود ولا مقيدين بقيود، كما هو الحال لسمعنا وبصرنا.

 

كلام الله

الكلام عند الآدميين يجري عبر الحنجرة واللسان، وأما كلام الله تعالى فيتم بخلقه الكلام، فكلام الله مخلوق من مخلوقاته، خلقه الله بإرادته، كبقية مفردات الوجود التي خلقها الله تعالى،

_______________

المصادر:

4 ـ توحيد الصدوق ص130.

1 ـ سورة البقرة: 233.

2 ـ سورة الأنفال: 53.

 

فلا يحتاج الله حين خلقه للكلام إلى حنجرة ولسان كحاجة الآدميين إليهما. وبما تقدم يتضح الجواب على السؤال الذي أثارته بعض المدارس الكلامية من أن كلام الله حادث أم قديم، لأنه مخلوق قد أوجده الله في زمان معين فهو حادث، كما هو الحال لكلام الله تعالى مع النبي موسى(ع) في مقطع من مقاطع الزمان.

( وَكَلَّمَ الله مُوسَى تَكْلِيمًا )[1].

وقد وصف القرآنُ ( الذكرَ ) بالمُحدَثِ، أي الحادث في زمن معين.

( مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ )[2].

وليس الذكرُ إلا القرآن، كما يصرح القرآن بذلك.

( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ )[3].

والقرآن كلام الله فكلامه مُحدَثٌ.

هذا بالنسبة إلى كلام الله، وأما صفة كونه متكلما؛ بمعنى قدرته على الكلام، فلا شك في أنها صفة قديمة بقدم الله تبارك وتعالى، لأنه قادر على الكلام منذ القدم، فلا معنى للحدوث في مثلها.

 

الصفات الجلالية والسلبية

وأما الصفات المذمومة القبيحة فلابد من نفيها عن ذات الله الأحدية، إذ إنها موجبة لنسبة النقص إليه تعالى، فذات الله تجلّ وترتفع عنها، ومن أجله سميت هذه الصفات بالصفات السلبية والجلالية، كصفة البخل والظلم والعجز والفقر والموت...، لأنها وأمثالها تلازم النقص والحاجة، والله كامل وغني عن كل ما سواه.

ومن هذا المنطلق فلا يصح وصف الله تعالى بالجسمية لأن الجسم ذو أبعاد ثلاثة، فهو محدود يحتاج إلى مُحَدِدٍ، كما أن الجسم مركب من أجزاءٍ وكل مركب يحتاج إلى أجزائه، والله غني عن كل شيءٍ، كما لا يصح وصف الله بالساكن أو المتحرك، لأن السكون والحركة من لوازم الأجسام، لأن الجسم اما أن يكون ساكنا أو متحركا.

ولا يصح وصف الله بالنور، إذا قصدنا بالنور النورَ المتعارف عندنا، لأن النور حسبما توصل إليه علماء الفيزياء شيء مادي وان اختلفوا في طبيعته وتركيبه المادي.

كما لا يصح وصف الله بالروح، لأن الروح مخلوقة وممكنة؛ محتاجة إلى خالقها.

_______________

المصادر:

3 ـ النساء: 164.

1 ـ الأنبياء: 2.

2 ـ الحجر: 9.

 

وإنما امتنع نسبة كل ما تقدم وأمثاله إلى الله تعالى لأنه متعارض مع واجبية وجود الله؛ وغناه المطلق عن غيره. فإذا ما ورد في آية كريمة أو رواية شريفة ما يتعارض مع ما تقدم، فالمطلوب تفسيره بما يتسق وينسجم مع الصواب والحق. فالنور الذي ورد ذكره في قوله تعالى:

( الله نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ )[1].

لابد من تفسيره بالكاشف والمظهر لغيره، بمعنى إن الله تعالى بخلقه للأشياء يظهرها ويكشفها للعيان، كما يُظهر النورُ الأشياءَ في الظلام ويكشفها للناظرين.

وأما ما ورد من نسبة الروح إلى الله في قوله تعالى:

( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ )[2].

والروح التي نفخها الله في آدم إنما يتحدد باعتباره خالقا لها ومالكاً لوجودها، فهي عائدة له، لا لأنها جزءً من ذاته سبحانه.

وما قيل من أنه تعالى جسم بذريعة ما ورد في بعض الآيات التي توحي بكونه جسماً من الأجسام، كما في قوله تعالى:

( فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا )[3].

( وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا )[4].

( يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ )[5].

غيرُ صحيح ٍ، لأن ( اللقاء ) الوارد ذكره في الآية الأولى يقصد به لقاء رحمة الله ورضوانه. و ( المجيئ ) المذكور في الآية الثانية مؤَولٌ إلى مجيئ أمر الله في حال كان الملائكة مصطفين بانتظام لاستقباله وتنفيذه. وأما كلمة اليد الواردة في الآية الثالثة فتفسَرُ بهيمنة قوة الله وعلوها على قوة غيرها من القوى الزائفة.

وما يدلُ على نفي الجسمية عن الله قوله تعالى:

( قَالَ لَن تَرَانِي )[6].

 

( فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ)[7].

_______________

المصادر:

3 ـ سورة النور: 35.

4 ـ سورة ص: 72.

1 ـ الكهف: 110.

2 ـ الفجر: 22.

3 ـ الفتح: 10.

4 ـ سورة الأعراف: 143.

5 ـ النساء: 153.

 

أسماء الله

لقد وردت في النصوص الشريفة أسماءٌ وصفاتٌ أطلقت على ذات الحق تعالى، وتسمى بالأسماء والصفات الخبرية؛ لإخبار القرآن والأحاديث الشريفة عنها. ولا يشك أحدٌ في جواز إطلاقها على الله تعالى.

إلا ان خلافا قد وقع بين المتكلمين في جواز أو حرمة تسمية الله بصفات أو أسماء لم يردْ ذكرها في آية ولا رواية، فذهب رهط إلى جواز ذلك بعد تمحيص الصفات والأسماء في عقولنا وتجريدها من جهات النقص والعيب والمحدودية، كما في تسمية الله تعالى بصفة ( واجب الوجود ) التي لم يردْ ذكرها في نص خاص، وإنما توصل إليها عقلنا بالدليل والبرهان.

إلا إنَّ رهطا آخر حرَّم التسمية بغير المنصوص مستدلا بالآية الكريمة.

( وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ )[1].

حيث شجبت الإلحاد ـ التجاوز ـ عن تسمية الله بغير المنصوص.

إلا أن الحق ما ذهب إليه الرأي الأول، لأن المقصود من الآية تهديدُ المشركين، لما اقترفوه من إلحاد وتجاوز في إطلاق بعض أسماء الله على بعض أصنامهم، كاسم اللات المأخوذ من الإله، ومناة المأخوذ من المنّان والعُزى المأخوذ من العزيزِ، لا أنها تريد رفض تسمية الله بالأسماء والصفات غير المنصوصة حتى ولو كان فيها حسن وجمال لذات الحق تعالى.

إلا انه من الحسن والاحتياط لعوام الناس الاقتصار في تسمية الله بالأسماء والصفات الخبرية المنصوصة، وترك ما سوى ذلك إلى علمائهم ممن لديهم تخصص وإحاطة في هذا المجال، حتى لا يُنسَب إلى الله ما ليس فيه.

_______________

المصادر:

6 ـ سورة الأعراف: 180.

 

 

 


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
رمضان
الأدعية
المحاضرات
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

30 رمضان

وفاة الخليفة العباسي الناصر لدين الله

المزید...

23 رمضان

نزول القرآن الكريم

المزید...

21 رمضان

1-  شهيد المحراب(عليه السلام). 2- بيعة الامام الحسن(عليه السلام). ...

المزید...

20 رمضان

فتح مكّة

المزید...

19 رمضان

جرح أميرالمؤمنين (عليه السلام)

المزید...

17 رمضان

1 -  الاسراء و المعراج . 2 - غزوة بدر الكبرى. 3 - وفاة عائشة. 4 - بناء مسجد جمكران بأمر الامام المهد...

المزید...

15 رمضان

1 - ولادة الامام الثاني الامام الحسن المجتبى (ع) 2 - بعث مسلم بن عقيل الى الكوفة . 3 - شهادة ذوالنفس الزكية ...

المزید...

14 رمضان

شهادة المختار ابن ابي عبيدة الثقفي

المزید...

13 رمضان

هلاك الحجّاج بن يوسف الثقفي

المزید...

12 رمضان

المؤاخاة بين المهاجرين و الانصار

المزید...

10 رمضان

1- وفاة السيدة خديجة الكبرى سلام الله عليها. 2- رسائل أهل الكوفة إلى الامام الحسين عليه السلام . ...

المزید...

6 رمضان

ولاية العهد للامام الرضا (ع)

المزید...

4 رمضان

موت زياد بن ابيه والي البصرة

المزید...

1 رمضان

موت مروان بن الحكم

المزید...
012345678910111213
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page