مناظرة الشيخ المفيد مع أبي بكر الباقلاني (1) وبعض المعتزلة في حكم القياس
قال الشيخ الصدوق - عليه الرحمة -: ومن كلام الشيخ أدام الله عزه أيضا في إبطال القياس: سئل الشيخ أيده الله في مجلس لبعض القضاة، وكان فيه جمع كثير من الفقهاء والمتكلمين، فقيل له: ما الدليل على إبطال القياس في الأحكام الشرعية؟ فقال الشيخ أدام الله عزه: الدليل على ذلك أنني وجدت الحكم الذي تزعم خصومي أنه أصل يقاس عليه ويستخرج منه الفرع، قد كان جائزا من الله سبحانه التعبد في الحادثة، التي هو حكمها بخالقه مع كون الحادثة على حقيقتها وبجميع صفاتها، فلو كان القياس صحيحا لما جاز في العقول التعبد في الحادثة بخلاف حكمها، إلا مع اختلاف حالها وتغير الوصف عليها، وفي جواز ذلك على ما وصفناه دليل على إبطال القياس في الشرعيات. فلم يفهم السائل معنى هذا الكلام ولا عرفه، والتبس على الجماعة كلها طريقه، ولم يلح لأحد منهم ولا فطن به، وخلط السائل وعارض على غير ما سلف، فوافقه الشيخ أدام الله عزه على عدم فهمه للكلام وكرره عليه لم يحصل له معناه. قال الشيخ أيده الله: فاضطررت إلى كشفه على وجه لا يخفى على الجماعة، فقلت: إن النبي (صلى الله عليه وآله) نص على تحريم التفاضل في البر، فكان النص في ذلك أصلا زعمتم أيها القايسون أن الحكم بتحريم التفاضل في الأرز مقيسا عليه وأنه الفرع له، وقد علمنا أن في العقل يجوز إن كان يتعبد القديم سبحانه وتعالى بإباحة التفضل في البر، وهو على جميع صفاته بدلا من تعبده بحظره فيه، فلو كان الحكم بالحظر لعلة في البر أو صفة هو عليها لاستحال ارتفاع الحظر إلا بعد ارتفاع العلة أو الوصف، وفي تقديرنا وجوده على جميع الصفات والمعاني التي يكون عليها مع الحظر عند الإباحة دليل على بطلان القياس فيه، ألا ترى أنه لما كان وصف المتحرك إنما لزمه لوجود الحركة، أو لقطعه المكانين استحال توهم حصول السكون له في الحقيقة مع وجود الحركة، أو قطعة للمكانين، وهذا بين لمن تدبره فلم يأت القوم بشيء يجب حكايته. قال: الشيخ أدام الله عزه: ثم جرى هذا الاستدلال في مجلس آخر فاعترض بعض المعتزلة فقال: ما أنكرت على من قال لك: إن هذا الدليل إنما هو على من زعم أن الشرعيات علل موجبة كعلل العقليات، وليس في الفقهاء من يذهب إلى ذلك، وإنما يذهبون إلى أنها سمات وعلامات غير موجبة لكنها دالة على الحكم، ومنبئة عنه، وإذا كانت سمات وعلامات لم يمتنع من تقدير خلاف الحكم على الحادثة مع كونها على صفاتها، وذلك مسقط لما اعتمدت عليه. قال الشيخ أيده الله: فقلت له: ليس مناقضة الفقهاء الذين أومأت إليهم حجة علي فيما اعتمدته، وقد ثبت أن حقيقة القياس هو حمل الشيء على نظيره في الحكم بالعلة الموجبة له في صاحبه، فإذا وضع هؤلاء القوم هذه السمة على غير الحقيقة فأخطأوا لم يخل خطأهم بموضع الاعتماد، مع أن الذي قدمته يفسد هذا الاعتراض أيضا، وذلك أن السمة والعلامة إذا كانت تدل على حكم من الأحكام فمحال وجودها، وهي لا تدل لأن الدليل لا يصح أن يخرج عن حقيقته، فيكون تارة دليلا وتارة ليس بدليل، وإذا كنتم تزعمون أن العلامة هي صفة من صفات المحكوم عليه بالحكم الذي ورد به النص، فقد جرت مجرى العلة في إستحالة وجودها مع عدم مدلولها، كما يستحيل وجود العلة مع عدم معلولها، وليس بين الأمرين فصل. فخلط هذا الرجل تخليطا بينا ثم ثاب إليه فكره، فقال: هذه السمات عندنا سمعية طارئة على الحوادث، ولسنا نعلمها عقلا ولا اضطرارا وإنما نعلمها سمعا وبدليل السمع، وعندنا مع ذلك أن العلل السمعية والأدلة السمعية قد تخرج أحيانا عن مدلولها ومعلولها، وهي كالأخبار العامة التي تدل على استيعاب الجنس بإطلاقها، ثم تكون خاصة عند قرائنها، وهذا فرق بين الأمور العقلية والسمعية. قال الشيخ أيده الله: فقلت له: إن كانت هذه السمات سمعية طارئة على الحوادث، وليست من صفاتها اللازمة لها، وإنما هي معان متجددة فيجب أن يكون الطريق إليها السمع خاصة دون العقل والاستنباط، لأنها حينئذ تجري مجرى الأسماء التي هي الألقاب، فلا يصل عاقل إلى حقائقها إلا بالسمع الوارد بها، ولو كان ورد بها سمع لبطل القياس، لأنه كان حينئذ يكون نصا على الحمل، كقول اقطعوا زيدا فقد سرق من حرز، وإنما استحق القطع لأنه سرق من حرز لا لغير ذلك من شيء يضاد هذا الفعل أو يقاربه، وهذا نص على قطع كل سارق من حرز إذا كان التقييد فيه على ما بيناه. فإن كنتم تذهبون في القياس إلى ما ذكرناه فالخلاف بيننا وبينكم في الاسم دون المعنى، والمطالبة لكم بعده بالنصوص الواردة في سائر ما استعملتم فيه القياس، فإن ثبت لكم زال المراء بيننا وبينكم، وإن لم يثبت علمتم أنكم إنما تدفعون عن مذاهبكم بغير أصل معتمد، ولا برهان يلجأ إليه. فقال: لسنا نقول إن النص قد ورد في الأصول حسبما ذكرت، وإنما ندرك السمات بضرب من الاستخراج والتأمل. قال الشيخ أيده الله: فقلت: هذا هو الذي يعجز عنه كل أحد إلا أن يلجأ إلى استخراج عقلي، وقد أفسدنا ذلك فيما سلف، والآن فإن كنت صادقا فتعاط ذلك، فإن قدرت عليه أقررنا لك بالقياس الذي أنكرناه، وإن عجزت عنه بأن ما حكمناه به عليك من دفاعك عن الأصل المعروف. فقال: لا يلزمني ذكر طريق الاستخراج، وجعل يضجع في الكلام، وبان عجزه. فقال أبو بكر بن الباقلاني: لسنا نقول هذه العلامات مقطوع بها، ولا معلومة فنذكر طريق استخراجها، ولكن الذي أذهب إليه وهو مذهب هذا الشيخ، وأومأ إلى الأول القول بغلبة الظن في ذلك، فما غلب في ظني عملت عليه وجعلته سمة وعلامة، وإن غلب في ظن غيري سواه وعمل عليه أصاب ولم يخطئ، وكل مجتهد مصيب فهل معك شيء على هذا المذهب؟ فقلت: هذا أضعف من جميع ما سلف وأوهن، وذلك أنه إذا لم يكن لله تعالى دليل على المعنى ولا السمة وإنما تعبدك على ما زعمت بالعمل على غلبة الظن، فلا بد أن يجعل لغلبة الظن سببا، وإلا لم يحصل ذلك في الظن ولم يكن لغلبته طريق، وهب أنا سلمنا لك التعبد بغلبة الظن في الشريعة، ما الدليل على أنه قد يغلب فيما زعمت؟ وما السبب الموجب له أرناه؟ فإنا نطالبك به كما طالبنا هذا الرجل بجهة الاستخراج للسمة؟ والعلة السمعية كما وصف فإن أوجدتنا ذلك ساغ لك، وإن لم توجدناه بطل ما اعتمدت عليه. فقال: أسباب غلبة الظن معروفة وهي كالرجل الذي يغلب في ظنه إن سلك هذا الطريق نجا وإن سلك غيره هلك، وإن أتجر في ضرب من المتاجر ربح، وإن أتجر في غيره خسر، وإن ركب إلى ضيعة والسماء متغيمة مطر، وإن ركب وهي مصحية سلم، وإن شرب هذا الدواء انتفع، وإن عدل إلى غيره استضر، وما أشبه ذلك، ومن خالفني في أسباب غلبة الظن قبح كلامه. فقلت له: إن هذا الذي أوردته لا نسبة بينه وبين الشريعة وأحكامها، وذلك أنه ليس شيء منه إلا وللخلق فيه عادة وبه معرفة، فإنما يغلب ظنونهم حسب عاداتهم، وإمارات ذلك ظاهرة لهم، والعقلاء يشتركون في أكثرها وما اختلفوا فيه فلاختلاف عاداتهم خاصة، وأما الشريعة فلا عادة فيها ولا إمارة من درية ومشاهدة، لأن النصوص قد جاءت فيها باختلاف المتفق في صورته وظاهر معناه، واتفاق المختلف في الحكم، وليس للعقول في رفع حكم منها وإيجابه مجال، وإذا لم يك فيها عادة بطل غلبة الظن فيها. ألا ترى أنه من لا عادة له بالتجارة ولا سمع بعادة الناس فيها، لا يصح أن يغلب ظنه في نوع منها بربح أو خسران، ومن لا معرفة له بالطرقات ولا بأغيارها، ولا له عادة في ذلك ولا سمع بعادة أهلها، فليس يغلب ظنه بالسلامة في طريق دون طريق. ولو قدرنا وجود من لا عادة له بالمطر، ولا سمع بالعادة فيه، لم يصح أن يغلب في ظنه مجئ المطر عند الغيم دون الصحو، وإذا كان الأمر كما بيناه وكان الاتفاق حاصلا على أنه لا عادة في الشريعة للخلق بطل ما ادعيت من غلبة الظن، وقمت مقام الأول في الاقتصار على الدعوى. فقال: هذا الآن رد على الفقهاء كلهم وتكذيب لهم فيما يدعونه من غلبة الظن ومن صار إلى تكذيب الفقهاء كلهم قبحت مناظرته. فقلت له: ليس كل الفقهاء يذهب مذهبك في الاعتماد في المعاني والعلل على غلبة الظن، بل أكثرهم يزعم أنه يصل إلى ذلك بالاستدلال والنظر، فليس كلامنا ردا على الجماعة وإنما هو رد عليك وعلى فرقتك خاصة، فإن كنت تقشعر من ذلك فما ناظرناك إلا له، ولا خالفناك إلا من أجله، مع أن الدليل إذا أكذب أكذب الجماعة فلا حرج علينا في ذلك ولا لوم، بل اللوم لهم إذا صاروا إلى ما تدل الدلائل على بطلانه وتشهد بفساده. وليس قولي: إنكم معشر المتفقهة تدعون غلبة الظن، وليس الأمر كذلك بأعجب من قولك وفرقتك إن الشيعة والمعتزلة وأكثر المرجئة، وجمهور الخوارج فيما يدعون العلم به من مذهبهم في التوحيد والعدل مبطلون كاذبون مغرورون، وإنهم في دعواهم العلم بذلك جاهلون، فأي شناعة تلزم فيما وصفت به أصحابك مع الدليل الكاشف عن ذلك، فلم يأت بشيء (2).
************************************
(1) هو: محمد بن الطيب بن محمد، أبو بكر القاضي المعروف بابن الباقلاني، المتكلم على مذهب الأشعري من أهل البصرة وولد فيها سنة 338 ه، له بعض التصانيف، وقيل: إنه انتهت إليه الرياسة في مذهب الأشاعرة، ووجهه عضد الدولة سفيرا عنه إلى ملك الروم، فجرت له في القسطنطينية مناظرات مع علماء النصرانية بين يدي ملكها، من كتبه إعجاز القرآن، ومناقب الأئمة، والملل والنحل، سكن بغداد وتوفي فيها سنة 403 ه. راجع ترجمته في: تاريخ بغداد للخطيب: ج 5 ص 379، وفيات الأعيان: ج 4 ص 269 ترجمة رقم: 608، الأعلام للزركلي: ج 7 ص 46.
(2) الفصول المختارة للشيخ المفيد: ص 50 - 55.
المناظرة السادسة والثلاثون: مناظرة الشيخ المفيد مع أبي بكر الباقلاني وبعض المعتزلة في حكم القياس
- الزيارات: 300