بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين .
من طبيعة الأيام أنها حبلى بالأحداث ، وأنها لا تنتهي من ولادة حدث إلا وتعيش ولادة أحداث جديدة أُخرى .
وعلى مدى الأيام شهدت الإنسانية أحداثاً ساخنة ، قد لا يستطيع الإنسان إحصاءها ، وقد ذهب ذكرها أدراج الرياح ، ولم يبق منها أثر. ولكن ثمّ حدث وقع سنة ( 61 ) للهجرة ، لا زال صداه يدوّي في الآفاق ، وأخباره تتناقلها الأجيال ، وتتعاطف معها الشعوب ... .
تُرى ما هو ذلك الحدث ، وما الذي جرى فيه ؟
إنه يوم عاشوراء ، حيث برز الإيمان بكل تجلياته في قبال الكفر والنفاق بكل أشكاله .
ولم يُخلّد يوم عاشوراء في وجدان البشرية إلا بفضل قائد جبهة الحق والإيمان الإمام الحسين (عليه السلام) ؛ منار الهدى والاستقامة ، ومعدن العلم والحكمة ، وتجلي الخير والبركة ، ورمز البطولة والشجاعة ... إذ نهض بكل وجوده بوجه طغيان بني أُمية بعد أن استشرى فسادهم ، وعمّ ظلمهم وأذاهم ، وشاع انحرفهم عن نهج الرسالة ... .
وبذلك أماط (عليه السلام) كل الحجب التي تستّر بها بنو أُمية في سبيل إغواء المسلمين ، وفرض سلطانهم عليهم ... فأبان قبح سيرتهم ، وضلالة نهجهم ، وشؤم أهدافهم ... وكان بذلك قد دق جرس الإنذار على أقصى درجاته ، محذّراً من أخطار كبيرة تحيط بالأُمة ، بحيث لا يمكن السكوت عليها ، أو غض النظر عنها .
وتبعاً لذلك لم يسمح الإمام الحسين (عليه السلام) لنفسه أن يقف مكتوف الأيدي دون أن يظهر كلمته ، فأعلنها نهضة عارمة زلزلت عرش الطغيان .
ويخطئ من يتصور أن نهضة عاشوراء حدث تاريخي بحت ، له أُطره الزمانية والمكانية في غابر الزمان . والحق أن هذه النهضة لم تتحدد بإطار زماني ولا مكاني ، وإنما امتدّت مع الزمن لتجعل منه كل يوم عاشوراء ؛ كما أنها شملت كل أرجاء المعمورة ، مما صدق عليها القول : كل أرض كربلاء . إذ أن صوت الإمام الحسين (عليه السلام) بقي يدوّي في كل زمان وفي كل مكان، يدعو إلى نصرة الحق والدفاع عن المظلومين ... .
وبهذا جعل الإمام الحسين (عليه السلام) من يوم عاشوراء وأرض كربلاء منعطفاً كبيراً في مسيرة البشرية . لذا تجد أن كل من أعلن طغيانه قد وقف أمامه من يتحداه ، مستلهماً من عاشوراء دروساً ، ومن كربلاء تجارب ، فينغص عليه نشوته ، دون أن يخشى من بطشه وإرهابه ، لأنه يرى الموت في مواجهة الظالمين سعادة ، والعيش معهم برماً.
وقد آلى الطغاة على أنفسهم أن يخنقوا صوت الإمام الحسين (عليه السلام) وهو في رمسه ، حتى أنهم منعوا الناس من زيارته ، بل وهدموا قبره ... ومع ذلك لم يقدروا على محو ذكره ، ولا إماتة نهجه ... .
ولعل أول من بادر إلى ذلك وتصور أنه قد تمكن من خنق صوت الحسين (عليه السلام) وإلى الأبد هو الطاغية يزيد بن معاوية ، يوم قُدّم بين يديه رأس الحسين (عليه السلام) شهيداً ، وراح ينكت على ثناياه بقضيب خيزران .
غير أن السيدة زينب بنت الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهما السلام) كشفت عن خطأ ما ذهب إليه يزيد ، وأن ظنه ليس إلا وهماً ، فقالت له : (( فكد كيدك ، واسع سعيك ، وناصب جهدك ؛ فو الله لا تمحو ذكرنا ، ولا تميت وحينا ، ولا تدرك أمدنا ... )) (1) .
وقد أثبتت الأيام صحة ما نطقت به السيدة زينب (عليها السلام) ، فمنذ أن ضمّت أرض كربلاء جسد الإمام الحسين (عليه السلام) راحت تتفاخر بفضلها وتتشامخ بعزتها ، لتقف في وجه كل عواصف الطغاة ، لتعلن عن كونها لا زالت تحمل راية الإمام الحسين (عليه السلام) المناهضة للظلم والاعتداء ، والمخالفة للفسوق والفساد ، والمعارضة للكفر والنفاق ... وكأنها تصرخ بقول الإمام الحسين (عليه السلام) : (( هيهات منا الذلة )) (2) .
ولم ينفك المؤمنون عن مراودة هذه الأرض لزيارة مرقد سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) ، الذي يشم منه رائحة الجنة .
ولا تعجب من ذلك ، فقد روي عن إسحاق بن عمار ، قال : سمعت أبا عبدالله - الإمام جعفر الصادق - (عليه السلام) يقول : (( موضع قبر الحسين (عليه السلام) منذ دفن روضة من رياض الجنة )) (3) .
وقال (عليه السلام) أيضاً : (( موضع قبر الحسين (عليه السلام) ترعة من ترع الجنة )) .
ولم يفتأ المؤمنون يلثمون قبر الإمام الحسين (عليه السلام) بشفاههم ، ليستشفوا بتربته ويتقربوا إلى الله عز وجل بالدعاء عند قبره ، حيث هنالك تضمن الإجابة ، كما ورد عن محمد بن مسلم ، قال : سمعت أبا جعفر - الإمام محمد الباقر - وجعفر بن محمد - الإمام الصادق - (عليهما السلام) يقولان : (( إن الله عوّض الحسين (عليه السلام) من قتله أن الإمامة من ذريته ، والشفاء في تربته ، وإجابة الدعاء عند قبره ؛ ولا تُعدّ أيام زائريه جائياً وراجعاً من عمره )) (4) .
لذا لم يمنعهم مانع من اقتحام الصعاب ، وركوب المخاطر من أجل الظفر بزيارة الإمام الحسين (عليه السلام) . ورغم كل المحاولات الفاشلة من قبل الحكومات الظالمة لإبعاد الناس عن هذا المزار الشريف صار الناس يتوافدون لزيارته من كل فج عميق ، متحمّلين مشاكل الطريق وصعوبات السفر وكل خطر مرتقب ... .
وقد اعتاد الناس زيارته (عليه السلام) دون أن يدرك الكثير منهم فضائل زيارته ، وما له من ثواب عظيم .
ولأجل أن يزداد زائر الإمام الحسين (عليه السلام) معرفة بذلك بادرنا إلى تأليف هذا الكتاب ، حيث جمعنا فيه طائفة من الأحاديث والروايات الواردة عن النبي وأهل بيته (عليه وعليهم السلام) الدالة على ذلك . وقد عمدنا إلى ذكرها من دون أي شرح أو بيان ، ليأخذها القارئ كما هي من فم النبي وأهل بيته (عليه وعليهم السلام) ، وهي بلا أدنى شك أحلى بياناً ، وأجمل أدباً ، وأقرب فهماً .
ولا تعجب حينما تقرأ النصوص التي أوردناها في فضل زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) ، حيث تجدها متنوعة في الثواب ؛ فمنها ما يعادل غفران الله وفضل كثير، وأيضاً في كرامة الله وحفظ الله ، وكذلك أمان من الفقر وقضاءالحوائج ... كما أنها متعددة في حجم الثواب ؛ فمنها ما يعادل الحج مرة ، واثنين وثلاث حتى عدّ الألف . وكذلك الأمر بالنسبة إلى العمرة ، وما إلى ذلك .
عندها قد يخطر على بالك بأن هذه النصوص يعتريها شيء من التضارب والاختلاف ، ولكنك إذا تأملتها بصورة أدق وجدتها تحكي حقيقة ناصعة رغم تفاوت نوع الثواب وحجمه .
ومن حقك أن تسأل : كيف ذلك ؟
الجواب : أن كل واحدة من الروايات والأحاديث تنطبق على أفراد دون غيرهم ، وذلك حسب تفاوتهم في درجات معرفة حق الإمام وحرمته وولايته ، ومستوى الإيمان والتقوى ، ومدى تحمله للمشقة في ذلك ، فتجد أحدهم لا يظفر من زيارته إلا اللمم من الثواب ، وآخر يعود بثواب عظيم .
وإلى هذا أشار العلامة الشيخ محمد باقر المجلسي في قوله : لعل اختلاف هذه الأخبار في قدر الفضل والثواب محمولة على اختلاف الأشخاص والأعمال ، وقلة الخوف والمسافة وكثرتهما ؛ فإن كل عمل من أعمال الخير يختلف ثوابها باختلاف مراتب الإخلاص والمعرفة والتقوى وساير الشرايط التي توجب كمال العمل ، على أنه يظهر من كثير من الأخبار أنهم كانوا يراعون أحوال السائل في ضعف إيمانه وقوته ، لئلا يصير سبباً لإنكاره وكفره ، وأنهم كانوا يكلّمون الناس على قدر عقولهم (5) .
وهناك ثَمّ من يقف إزاء عظيم ثواب زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) متحيراً ، فيتساءل متعجباً : هل من المعقول أن ينال الإنسان بزيارة واحدة لقبر الإمام الحسين (عليه السلام) كل ذلك ؟
نقول له : نعم ، ينال ذلك بكل يقين ، لأنه من عطاء ربك الذي لا تفنى خزائنه ، ولا ينفد ما عنده ، ولا يزيده كثرة العطاء إلا جوداً وكرماً ، وما كان عطاء ربك محظوراً.
أما إذا نظرت إلى عظيم ثواب ما يناله زائر الإمام الحسين (عليه السلام) من منظارك الشخصي وقدراتك الذاتية ؛ مهما كنت كريماً ومعطاءً ، ومهما كان حبك وولاؤك للإمام الحسين (عليه السلام) إلا أنك ستجد نفسك لا تطيق قبول تلك الفضائل ، عندها تتولّد عندك حالة الشك في صحة تلك الأخبار . وهذه الحالة تقودك إلى التكذيب بما جاء جملة وتفصيلاً .
وليس هذا بأمر جديد ، وإنما قد أُصيب به آخرون ، حتى في زمن أئمة الهدى (عليهم السلام) .
وقد شكا من هذا الأمر ذريح المحاربي ، إذ قال : قلت لأبي عبدالله - الإمام جعفر الصادق - (عليه السلام) : ما ألقى من قومي ومن بنيّ إذا أنا أخبرتهم بما في إتيان قبر الحسين (عليه السلام) من الخير، إنهم يكذبوني ويقولون : إنك تكذب على جعفر بن محمد ؟ قال الإمام الصادق (عليه السلام) : يا ذريح ، دع الناس يذهبوا حيث شاؤوا . والله ، إن الله ليباهي بزائر الحسين (عليه السلام) (6) .
من هنا يجدر بنا أن ننظر إلى فضائل زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) وثوابها من منظار رحمة الله الواسعة ، لا من منظارنا الشخصي .
وهنا لابد من القول : إن كل ما تقرؤه من روايات وأحاديث ، بالتأكيد ليست كلمات دعائية وعبارات تشجيعية لا تخلو من المبالغة وإنما هي كلمات الصادقين ، وعبارات المتقين ، الذين لا ينطقون عن الهوى .. فإذا ما تيقنت من هذا ضمنت لنفسك عظيم الثواب وجليل الفضائل ، لأنها لا تكون إلا من أتاها وقلبه مطمئن بها ومسلم لها .
ولنا كلمة أخرى ، وهي أن هذه الفضائل المخصصة لزوار الإمام الحسين (عليه السلام) بالتأكيد إنما هي جاءت لتهذيب النفس وبناء الشخصية الإيمانية ، لا أن يتخذها ذريعة لارتكاب المحارم واقتراف الذنوب والدخول في نفق المنكرات .
كلا ، يخطئ من يتصور أن زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) ستنقذه من العقاب الإلهي في حال إصراره على الذنوب والخطايا ، وإنما من تاب وآمن أُولئك لهم حسن الثواب .
وعليه لابد أن نتخذ من زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) مدرسة لبناء شخصياتنا وتربية أنفسنا ، وفق ما رسمه لنا الإمام الحسين (عليه السلام) في كلماته وسيرته الوضّاءتين . أما أن نطوف بحضرته ، وأن نحضر عند قبره فقط ، هذا لا يكفي أبداً ، وإنما يجدر بنا أن نتأدّب بآدبه ، وأن نسير بسيرته ، وأن نقتدي بهداه ؛ كأن نقيم الصلاة ونؤتي الزكاة ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونطيع الله ورسوله ، وأن نحقق في أنفسنا حالة التولي والتبري ، فنكون سلماً لمن سالمه وحرباً لمن حاربه ، وولياً لمن والاه وعدواً لمن عاداه .
نرجو أن يكون هذا الكتاب سبباً للمزيد من الاشتياق إلى زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) ، وخير وسيلة للاستزادة من الثواب ، كما نسأله تعالى أن يتقبل منا هذا الجهد المتواضع بأحسن قبوله ، وأن يكتبنا عنده من زوار الإمام الحسين (عليه السلام) إن شاء الله تعالى .
طالب خان
15 / ربيع الأول / 1425 هـ
************************************
1- بحار الأنوار ، الشيخ محمد باقر المجلسي 45/135 .
2- الاحتجاج ، الشيخ أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي 2/300 .
3- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال ، الشيخ محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي /120 .
4- وسائل الشيعة ، الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي 10/329 - 330 .
5- بحار الأنوار ، الشيخ محمد باقر المجلسي 98 / 44 .
6- كامل الزيارات ، الشيخ جعفر بن محمد بن قولويه / 143 .
مقدّمة
- الزيارات: 298