• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الفصل العاشر: الكيد السياسي في حديث الإفك

  الإفك والسياسة:
إن ملاحظة حديث الإفك بدقة تعطي: أن هذا الحديث يهدف إلى تحقيق عدة أهداف سياسية معينة، ومدروسة..
ونحن نشير منها إلى ما يلي:

  الإفك والسياسة:
إن ملاحظة حديث الإفك بدقة تعطي: أن هذا الحديث يهدف إلى تحقيق عدة أهداف سياسية معينة، ومدروسة..
ونحن نشير منها إلى ما يلي:

1 ـ ابن حضير وابن عبادة:

إن أول ما يطالعنا في حديث الإفك هو: موقف أسيد بن حضير، الذي تقول عنه عائشة: «وكان أسيد رجلاً صالحاً في بيت من الأوس عظيم» كما تقدم.. وأسيد هذا يدَّعون له: أنه أحد الثلاثة الذين لم يكونوا يلحقون في الفضل، هو وابن معاذ، وعباد بن بشر([1]).
وقالت عنه: إنه كان من أفاضل الناس([2]).
وكان أبو بكر يكرمه، ولا يقدم أحداً من الأنصار عليه، ويقول: لا خلاف عنده([3]).
وكان ابن خالة أبي بكر، وكان في الذين جاؤوا مع عمر لإحراق بيت علي إن لم يبايع([4]).
وكان أول من بايع أبا بكر، حسداً لسعد بن عبادة([5]). وله في بيعة أبي بكر أثر عظيم([6]).
هذا هو أسيد بن حضير، وهذه هي مواقفه، وهذه هي مكانته عندهم، مع أنه هو الذي كذبه رسول الله «صلى الله عليه وآله» صراحة في بعض القضايا على ما رواه ابن سعد([7]).
وعلى هذا.. وإذ قد عرفنا منزلة ابن حضير عندهم، وأثره في تثبيت حكمهم، فالمقابلة في حديث الإفك بين أسيد، وجعله يتخذ جانب النبي «صلى الله عليه وآله» والحق، وبأنه رجل صالح، ومن بيت في الأوس عظيم، وبين سعد بن عبادة، الذي وصف بأنه كان قبل ذلك رجلاً صالحاً!! وبأنه منافق يجادل عن المنافقين!
وسعد: هو المنافس لأبي بكر في الخلافة، والمغاضب للخلفاء، والمقتول غيلة في الشام وقد اغتالته السياسة ـ على حد تعبير طه حسين ـ ثم إعطاؤه في حديث الإفك دور العداء للنبي «صلى الله عليه وآله»، والمجانبة للحق، إن هذه المقابلة، تكون حينئذٍ طبيعية، ولها مبرراتها المقبولة، ومن منطلقات سياسية عميقة الجذور، وبعيدة الأغوار، لا تكاد تخفى على الناقد البصير، والمتتبع الخبير، ومن أمعن النظر وتدبر في مرامي الأهواء، وعثرات وشطحات الميول.

2 ـ بين الأوس والخزرج:

ثم.. هناك المقابلة بين قبيلتي الأوس، التي هي قبيلة أسيد بن حضير وقبيلة الخزرج، التي هي قبيلة سعد بن عبادة.
فقبيلة أسيد تقوم لنصرة الحق وتأييد النبي «صلى الله عليه وآله»، أما الخزرج، فتتحمس لزعيمها سعد، فتشاركه في النفاق، وفي الجدال عن المنافقين على حساب النبي «صلى الله عليه وآله»، والحق، والدين.
وأولئك قد بلغوا الغاية في التقوى والورع والصلاح.. وهؤلاء.. قد بلغوا الغاية في قلة الدين، وعدم مراعاة مقام النبوة والرسالة.
نعم، لقد بلغ الفريقان الغاية، هذا في باطله، وذاك في حقه، فكان التشاتم، والتضارب بينهما بالأيدي والنعال.. حتى لقد كان من الممكن أن ينتهي الأمر إلى سل السيوف، وإزهاق النفوس.. والكل لا يحترمون النبي «صلى الله عليه وآله»، الذي كان يسكتهم، وهو لا يزال قائماً على المنبر.
وكل ذلك من بركات: نفاق سعد بن عبادة طبعاً.. إن ذلك لعجيب حقاً!! وأي عجيب!!

3 ـ علي :

أما علي أمير المؤمنين «عليه السلام»، فهو أيضاً لا يجـوز أن ينسى، بل لا بد أن يعطى ـ وقد واتتهم الفرصة ـ نصيبه الأوفى في هذا الأمر.. وها هو الوليد بن عبد الملك، وأخوه هشام يقولان: إنه هو الذي تولى كبر الإفك، وتفصيل ذلك:
أ ـ لقد قال الزهري: إن الوليد بن عبد الملك قال له: الذي تولى كبره منهم، علي؟
قلت: لا. ولكن حدثني سعيد بن المسيب، وعروة، وعلقمة، وعبيد الله، كلهم عن عائشة، قال: الذي تولى كبره عبد الله بن أُبي([8]).
زاد في الدر المنثور: «فقال لي: ما كان جرمه؟
قلت: حدثني شيخان من قومك: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: أنهما سمعا عائشة تقول: كان مسيئاً في أمري»([9]).
وفي حلية أبي نعيم، من طريق ابن عيينة عن الزهري: كنت عند الوليد بن عبد الملك، فتلا هذه الآية: {..وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، فقال: نزلت في علي بن أبي طالب.
قال الزهري: أصلح الله الأمير، ليس الأمر كذلك، أخبرني عروة، عن عائشة.
قال: وكيف أخبرك؟
قلت: أخبرني عروة عن عائشة، أنها نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول([10]).
ولابن مردويه من وجه آخر، عن الزهري: كنت عند الوليد بن عبد الملك ليلة من الليالي، وهو يقرأ سورة النور مستلقياً، فلما بلغ هذه الآية: {إِنَّ الذِينَ جَاؤُوا بِالإفك عُصْبَةٌ مِّنكُمْ..} حتى بلغ: {..وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ} جلس.
ثم قال: يا أبا بكر، من الذي تولى كبره منهم؟ أليس علي بن أبي طالب؟!
قال: فقلت في نفسي: ماذا أقول؟ لئن قلت لا، لقد خشيت أن ألقى منه شراً، ولئن قلت: نعم، لقد جئت بأمر عظيم.
قلت في نفسي: لقد عودني الله الصدق خيراً.
قلت: لا.
قال: فضرب بقضيبه على السرير، ثم قال: فمن؟ فمن؟ حتى ردد ذلك مراراً.
قلت: لكن عبد الله بن أُبي([11]).
ب ـ وأخرج يعقوب بن شيبة في مسنده، عن الحسن بن علي الحلواني، عن الشافعي، قال: حدثنا عمي، قال: دخل سليمان بن يسار على هشام بن عبد الملك، فقال له: يا سليمان، الذي تولى كبره من هو؟!
قال: عبد الله بن أُبي.
قال: كذبت، هو علي.
قال: أمير المؤمنين أعلم بما يقول.
فدخل الزهري فقال: يا ابن شهاب من الذي تولى كبره؟!
قال: ابن أُبي.
قال: كذبت، هو علي.
فقال: أنا أكذب لا أبا لك. والله لو نادى مناد من السماء: أن الله أحل الكذب لما كذبت.. حدثني عروة، وسعيد، وعبيد الله، وعلقمة، عن عائشة: أن الذي تولى كبره هو عبد الله بن أُبي. فذكر قصته مع هشام.
وقد جاء في آخرها، قول هشام: نحن هيجنا الشيخ، أو ما بمعناه. وأمر فقضى عنه ألف ألف درهم([12]).
فالوليد بن عبد الملك إذن، وكذلك هشام بن عبد الملك يريدان تأكيد الفرية على أمير المؤمنين «عليه السلام»، إلى درجة أنهم قد افتروا عليه: أنه هو الذي تولى كبر الإفك.
كما أن عائشة قد ذكرت: أن علياً «عليه السلام» كان مسيئاً في شأنها، كما تقدم في الرواية التي ذكرها البخاري ـ حسب رواية النسفي وغيره عنه ـ حول ما جرى بين الزهري وبين الوليد، حيث قال الزهري: قلت: لا.
ولكن أخبرني رجلان من قومك: أبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث: أن عائشة قالت لهما: كان علي مسيئاً في شأنها([13]).
قال العسقلاني: ذكر عياض: أن النسفي رواه عن البخاري بلفظ مسيئاً، قال: وكذلك رواه أبو علي بن السكن، عن الفربري، وقال الأصيلي بعد أن رواه بلفظ مسلماً: كذا قرأناه، والأعرف غيره([14]).
وكذلك نقله في الدر المنثور، عن البخاري كما تقدم، وعن ابن المنذر، والطبراني وابن مردويه، والبيهقي.
ورواه عبد الرزاق أيضاً بلفظ «مسيئاً»، وكذلك أخرجه الإسماعيلي وأبو نعيم في المستخرجين.
ويقوي الرواية التي فيها: «مسيئاً» ما في رواية ابن مردويه بلفظ: إن علياً أساء في شأني، والله يغفر له. انتهى([15]).
وقال العسقلاني أيضاً: إن عائشة قد نسبت علياً إلى الإساءة في شأنها([16]).
وذلك كله يشير إلى: أن رواية البخاري قد حرفت من قبل النساخ، للتقليل من بشاعة هذا الأمر، وفظاعته، وحفاظاً على عائشة، والوليد، والزهري، ومن لف لفهم.
وأيضاً حفاظاً على كرامة البخاري نفسه، إذ ليس من السهل تكذيب القرآن من خلال توجيه هذه الفرية لعلي، الذي أذهب الله عنه الرجس وطهره تطهيراً.. وهو مع الحق، والحق معه يدور معه حيث دار.
واللافت هنا: أنهم في حين يصرون على تأكيد الفرية على أمير المؤمنين «عليه السلام» فإنهم لا يجرؤون على القول: بأن علياً «عليه السلام» قد جلد، بل يقولون بكل وضوح وإصرار: لم يجلد علي «عليه السلام» مع من جلد، ولم يحده النبي معهم بالاتفاق!! رغم أن عائشة، والوليد، وهشاماً يصرون على نسبة الإساءة إليه، وعلى أنه ممن قذفها، وعلى أنه تولى كبره في ذلك!! نعوذ بالله؟!! فلماذا عفا عنه النبي «صلى الله عليه وآله» إذن؟! وهل للنبي «صلى الله عليه وآله» أن يعفو عن حد من حدود الله؟! حتى لو كان مستحقه هو صهره وابن عمه!!

4 ـ عائشة:

وعائشة قد ربحت أيضاً، وكان لها حصة الأسد، حيث نزل في حقها طائفة من الآيات القرآنية.
ولا سيما مثل قوله تعالى: {..وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} ونظائر هذه الآية، مما يفهم منه المدح العظيم للتي رميت بالإفك حتى قال ابن الأثير: «ولو لم يكن لعائشة من الفضائل إلا قصة الإفك، لكفى بها فضلاً، وعلو مجد، فإنها نزل فيها من القرآن ما يتلى إلى يوم القيامة»([17]).
وهذا وسام عظيم، وشرف باهر، هي بأمس الحاجة إليه ولا بد لها من الحصول عليه، لدعم الموقف السياسي لها في مقابل علي، وأهل البيت «عليهم السلام»، وليبطل مفعول آيات سورة التحريم، التي نزلت في أحد مواقف عائشة، التي لا تحسد عليها.

5 ـ ذنب مسطح:

ثم هناك مسطح، الذي زج في حديث الإفك لأمرين:
أولهما: إظهار فضل أبي بكر، لتنزل فيه آية قرآنية تقرضه، وتمدحه.
وثانيهما: إنه قد حضر حرب صفين إلى جانب علي أمير المؤمنين «عليه السلام».
ثم نالته درجة تخفيف، لقرابته من أبي بكر، كما هو معلوم من الروايات.

6 ـ حسان:

وحسان بن ثابت يتهم أولاً.. ثم نجد محاولات جادة لتبرئته، وإعادة الاعتبار له، ولا نكاد نشك في أن عثمانيته، وانحرافه عن علي، وعدم بيعته له قد كان لذلك كله دور كبير في تبرئته.
ولعله إنما اتهم بهذا الأمر من أجل إثارة الشبهة في مصداقية ما قاله من الشعر في علي «عليه السلام»، وبيعته يوم الغدير، والنص عليه صلوات الله وسلامه عليه في ذلك اليوم.. مما لعله أثار حفيظة أم المؤمنين ومحبيها، فأسرت لهم، ومنهم عروة بن الزبير ابن أختها، أو فقل: أسرّ واضع الرواية ـ وهو الأنسب ـ إلى خاصته، ومن يثق به، بتوجيه التهمة له ليمثل ذلك صفعة قوية له، ثم اشتهر ذلك وذاع.
ولكن ظهور انحراف حسان عن علي «عليه السلام»، وامتناعه عن بيعته، وعن تأييده قد شفع له، فكان السعي لتبرئته، وإبعاد الشبهات عنه..
حتى إن عائشة قالت: بل لم يفعل شيئاً، بعد أن كانوا قد ذكروا أنه قد جلد الحد، بل جعلوه هو الذي تولى كبر الإفك!!
بل لعل نفيهم الحد من الجميع قد كان إكراماً له: إذ من أجل عين ألف عين تكرم!!
وربما يكون الذين زجوا باسم حسان بالأمر بسبب: شعره في الغدير وفي أمير المؤمنين قد فعلوا ذلك بدون علم أم المؤمنين، التي أرادت أن تكافئه على موقفه السلبي من علي «عليه السلام» بعد ذلك، فوقع الاختلاف واضطرت إلى التدخل لإنقاذ الموقف.

7 ـ أسامة:

ثم هناك دور أسامة، في مقابل علي «عليه السلام»، فقد ذكرت الرواية: أن موقفهما في المشورة على النبي «صلى الله عليه وآله» كان على طرفي نقيض، فادَّعت أن أسامة يشير على النبي «صلى الله عليه وآله» ببراءتها، مع أنه لم يزد على أن أظهر عدم علمه بشيء من أمرها، كما تقدم.
أما علي أمير المؤمنين «عليه السلام»، فإن المقابلة بين موقفه وموقف أسامة، تريد أن توحي بأنه «عليه السلام» قد أشار بغير ما يعلم. أي أنه مع علمه ببراءتها قد أشار على النبي «صلى الله عليه وآله» بطلاقها!!.
وقد تقدم: أنها نسبت علياً «عليه السلام» إلى الإساءة في شأنها..
ولا نكاد نرتاب: في أن الهدف من وراء ذلك، هو الإمعان في توجيه الإهانة والاتهام إلى علي «عليه السلام». علي الذي كان دائماً الشجا المعترض في حلقهم جميعاً، حتى إن عائشة كانت لا تستطيع ـ كما يقول ابن عباس ـ أن تذكر علياً بخير أبداً([18]).
وإذا عرفنا: أن موقف أسامة كان يتصف بالتذبذب.. بل لقد كان منحرفاً عن علي «عليه السلام»، حيث لم يبايعه، ولم يشترك معه في أي من حروبه([19])، ولم يعطه علي «عليه السلام» من العطاء([20]).
إذا عرفنا ذلك.. فإننا نعرف سر المقابلة المذكورة بين الموقفين لأسامة ولعلي «عليه السلام» تجاه عائشة التي حاربت علياً، وأزهقت في حربها له الآلاف من الأرواح البريئة المسلمة.
ونعرف أيضاً: سر جعلهم أسامة حِبّ رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ومستشاره الذي لا يعدوه، وهو لما يبلغ الحلم.. ثم تكون إشارته موافقة للحق وللضمير على عكس ما أشار به غيره حتى علي «عليه السلام».

8 ـ زيد بن ثابت:

وتذكر الروايات: أنه «صلى الله عليه وآله» قد استشار زيد بن ثابت، بدل أسامة، أو معه.. ولا يختلف حال زيد عن حال أسامة في الموقف السياسي، فإن عثمانيته كانت معروفة ومشهورة، وهو لم يشهد مع علي «عليه السلام» شيئاً من حروبه، وكان كاتباً للخلفاء قبل علي([21]).
ولأن هوى عثمان كان في قراءته، فقد منع الحجاج قراءة غيره، وفرض قراءته، كما ذكره الإسكافي في رده على عثمانية الجاحظ([22]).
إذن.. فلا بد أن يجعل له في هذا الأمر نصيب، وأن تجعل آراؤه وأقواله موافقة للحق وللقرآن، تماماً على عكس آراء وأقوال أمير المؤمنين «عليه السلام» بزعمهم.

9 ـ اتهام إخوة زينب:

ثم هناك إصرار روايات الإفك على اتهام حمنة بنت جحش، حيث لم يكن إلى اتهام أختها سبيل، لأن أختها زينب كانت تنافس عائشة في بيت النبي «صلى الله عليه وآله» ـ كما تقول ـ ولها التقدم عليها في كثير من الشؤون، ونزل تزويجها من السماء([23]). ولم يكن لحمنة شافع، فلم تجد أحداً يدافع عنها، أو يكذب التهمة الموجهة إليها.. وذلك أيضاً هو سر اتهام أخويها: عبد الله، وعبيد الله ابني جحش.

10 ـ ضرائر عائشة:

ثم بذلت محاولة لإشراك ضرائر عائشة في ذلك، كما يفهم من قول أم رومان المتقدم.. ثم أدركتهن درجة تخفيف، وربما بسبب أنهم ـ بعد ذلك ـ رأوا أن من غير المناسب توسيع جبهة المعارضة لعائشة، ولا سيما إذا أراد من ينتسب إلى سائر زوجاته «صلى الله عليه وآله» أن ينتصروا لمن تتصل بهم بسبب أو نسب، أو لأن زمان المعارضة كان قد مضى وذهب، فلا حاجة إلى فتح جدال جديد معهن. ولهذا فقد اكتفوا بكلام أم رومان المتقدم.
أما زينب، فقد كانت قد توفيت وذهبت أيامها، وليس ثمة من ينتصر لها.
وشدد الأمر على حمنة.. لأن أختها ما كان أحد من زوجات النبي «صلى الله عليه وآله» يساميها غيرها.. على حد تعبير عائشة، ولأنها هي التي نزل تزويجها من السماء، دون سائرهن!! كما ألمحنا إليه.

11 ـ التعذير والتبرير:

ثم هناك من يجد في حديث الإفك العذر والمبرر لمواقف عائشة العدائية من أمير المؤمنين، وأهل بيته «عليهم السلام».. إذ بعد أن أشار «عليه السلام» بطلاقها، كما يزعمون، وتولى ضرب بريرة، في محاولة لانتزاع إقرار منها ضد عائشة، كما يدَّعون.. فإن من الطبيعي أن يجعلوا ذلك هو المبرر لأن ـ بعد هذا ـ تحقد عليه عائشة، وتتأكد نفرتها منه، وكراهيتها له.
إذن.. فيجوز للعقاد، ولابن أبي الحديد([24]) أن يجعلوا من مشورة علي غير الموفقة ـ على حد تعبير العقاد ـ مبرراً لحقد عائشة على علي «عليه السلام»، وتخف بذلك تبعة وبشاعة الجريمة التي ارتكبتها في حرب الجمل، التي قتل فيها الألوف من أبرياء المسلمين، حيث يمكن إلقاء قسط كبير من التبعة على عاتق علي «عليه السلام» نفسه.
ولكن.. وبعد أن تحقق أن حديث الإفك لا أساس له من الصحة.. وإنما هو مجعول لأهداف سياسية معينة.. فلسنا ندري ما هو الموقف الذي سوف يتخذه أولئك الذين يهمهم تبرير الأمر الواقع، على أساس عدم التعرض لتحقق النص التاريخي صدقاً أو كذباً.. وإنما يأخذونه على علاته، ويشرعون في تبريره وتوجيهه، وإظهاره على أنه حقيقة مسلمة، لا ريب فيها، ولا شك يعتريها؟!

12 ـ من هم المتهمون؟!

وأما القاذفون.. الذين تحدثت عنهم رواية الإفك المزعوم فهم اثنان خزرجيان، هما:
1 ـ عبد الله بن أُبي.
2 ـ وحسان بن ثابت.
ويظهر: أن ذنبهما هو أنهما من قبيلة سعد بن عبادة، المنافس لأبي بكر في الخلافة، حسبما تقدم، وقرب آل عبادة خصوصاً قيس بن سعد من علي «عليه السلام».
وأما ذنب حسان فهو مدحه لعلي صلوات الله وسلامه عليه، وإشادته بيوم الغدير.
3 ـ علي «عليه السلام»، وهو ذلك الرجل الذي لم تكن لتصفو له قلوب الأمويين، والزبيريين، وعائشة. التي لم تكن تستطيع أن تذكره بخير أبداً، كما قدمنا.
4 ـ ومسطح، وذنبه: أنه شهد مع علي «عليه السلام» صفين. كما أن اتهامه هو الذي يمكّنهم من ادعاء نزول الآيات في فضل أبي بكر، الذي كان بأمس الحاجة إلى إدعاءات من هذا القبيل.
5 ـ وحمنة، وسائر أبناء جحش، الذين لم نعرف لهم ذنباً، إلا أن أختهم زينب، التي زوجها الله رسوله، ونزلت في ذلك آيات قرآنية خالدة، وليس لعائشة مثل هذه الفضيلة..

براءة.. وتخفيف:

ثم يبرؤ من هؤلاء: حسان فقط. وترضى عنه عائشة كل الرضا، لعثمانيته، وانحرافه عن علي «عليه السلام». وتحكم له بالجنة، وتقول: إنه لم يقل شيئاً.
ويخفف ذنب مسطح، إذ قد تصارع فيه عاملان متضادان: شهوده صفين إلى جانب علي «عليه السلام»، وقرابته من أبي بكر؛ فكان هذا الجمع العجيب هو الحل، فهو يعفى من الحد، لقرابته من أبي بكر.
ويقال: إنه لم يأفك، بل أعجبه الأمر، وضحك له، ويبقى في حظيرة الاتهام بهذا المقدار لشهوده مع علي «عليه السلام» حرب صفين، ولتنزل الآية القرآنية في أبي بكر فيما يرتبط بالإنفاق عليه.
وتكون الخلاصة هي: أن كل المواقف غير المشرفة تنسب إلى خصوم عائشة، وخصوم الجهاز الحاكم عموماً.
أما المواقف المشرفة، فهي خاصة بالموالين لهم، والمتعاطفين معهم، حتى إذا ما نسب إلى هؤلاء شيء في وقت ما، نراهم يسارعون إلى بذل محاولات تبرئته بكل وسيلة، كما كان الحال بالنسبة لحسان، حينما اتضح لهم انحرافه عن علي «عليه السلام».
وأما الآخرون: علي «عليه السلام» وابن عبادة، ومسطح، وغيرهم فالتهمة عليهم باقية.
وهؤلاء الخصوم فقط هم الذين تبقى التهم ثابتة عليهم، وهم الذين لا حمية لهم ولا صلاح عندهم.
أما ابن حضير، وحسان، وزيد بن ثابت العثماني النزعة، وأسامة نظيره، فهم أهل الحمية والإنصاف، والصلاح والفلاح!!


([1]) الإستيعاب بهامش الإصابة ج1 ص55 وليراجع الإصابة ج1 ص49.
([2]) الإصابة ج1 ص49.
([3]) أسد الغابة ج1 ص92 والإصابة ج1 ص49.
([4]) الإمامة والسياسة ج1 ص11 وقاموس الرجال ج2 ص88 عنه، وعن الواقدي.
([5]) قاموس الرجال ج2 ص88 عن الطبري.
([6]) أسد الغابة ج1 ص92.
([7]) طبقات ابن سعد ج4 قسم2 ص38.
([8]) فتح الباري ج7 ص336 وقد تقدم نقله عن البخاري، في أوائل هذا البحث.
([9]) الدر المنثور ج5 ص32، عن البخاري، وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي، وستأتي مصادر أخرى.
([10]) فتح الباري ج7 ص336.
([11]) فتح الباري ج7 ص336 والسيرة الحلبية ج2 ص302 والمعجم الكبير ج23 ص97.
([12]) فتح الباري ج7 ص337 والسيرة الحلبية ج2 ص302 و 303 وسير أعلام النبلاء ج5 ص229.
([13]) صحيح البخاري المطبوع بهامش فتح الباري ج7 ص336 وليراجع إرشاد الساري ج6 ص343 والدر المنثور ج5 ص32 عن البخاري وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي.
([14]) راجع: فتح الباري ج7 ص336 وإرشاد الساري ج6 ص343.
([15]) راجع: فتح الباري ج7 ص336 وإرشاد الساري ج6 ص343.
([16]) فتح الباري ج7 ص357.
([17]) أسد الغابة ج5 ص504.
([18]) راجع: مسند أحمد بن حنبل ج6 ص288 و 38 والجمل للشيخ المفيد (ط سنة 1413هـ) ص158 والسـنـن الكـبـرى ج1 ص3 والإحسـان ج8 ص198  = = والمستدرك على الصحيحين ج3 ص56 وطبقات ابن سعد (ط سنة 1405هـ) ج2 ص231 و 232.
وراجع: صحيح البخاري (ط سنة 1401هـ دار الفكر، بيروت) ج1 ص162 وصحيح مسلم (بشرح النووي) ج4 ص138 و 139 والصوارم المهرقة ص105 والإرشاد للمفيد ص194 وتاريخ الأمم والملوك (ط ليدن) ج1 ص1801  وسبل الهدى والرشاد ج11 ص175.
([19]) أسد الغابة ج1 ص65.
([20]) راجع: قاموس الرجال ج1 ص468 و472.
([21]) أسد الغابة ج2 ص222 وقاموس الرجال ج4 ص239 و 240، وغير ذلك..
([22]) راجع: قاموس الرجال ج4 ص239 و 240.
([23]) وإن كانت قد بذلت محاولة لجعل تزويج عائشة أيضاً من السماء، حيث أتاه جبرائيل ـ كما تقول هي ـ بسراقة من حرير.. ولكن موقف زينب أحكم وأقوى، لوجود نص قرآني في قضيتها، لا يمكن المراء والجدل فيه لأحد.
([24]) راجع: شرح النهج للمعتزلي ج14 ص23 وج9 ص194 فما بعدها، وكتاب: الصديقة بنت الصديق، للعقاد.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
رمضان
الأدعية
المحاضرات
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

30 رمضان

وفاة الخليفة العباسي الناصر لدين الله

المزید...

23 رمضان

نزول القرآن الكريم

المزید...

21 رمضان

1-  شهيد المحراب(عليه السلام). 2- بيعة الامام الحسن(عليه السلام). ...

المزید...

20 رمضان

فتح مكّة

المزید...

19 رمضان

جرح أميرالمؤمنين (عليه السلام)

المزید...

17 رمضان

1 -  الاسراء و المعراج . 2 - غزوة بدر الكبرى. 3 - وفاة عائشة. 4 - بناء مسجد جمكران بأمر الامام المهد...

المزید...

15 رمضان

1 - ولادة الامام الثاني الامام الحسن المجتبى (ع) 2 - بعث مسلم بن عقيل الى الكوفة . 3 - شهادة ذوالنفس الزكية ...

المزید...

14 رمضان

شهادة المختار ابن ابي عبيدة الثقفي

المزید...

13 رمضان

هلاك الحجّاج بن يوسف الثقفي

المزید...

12 رمضان

المؤاخاة بين المهاجرين و الانصار

المزید...

10 رمضان

1- وفاة السيدة خديجة الكبرى سلام الله عليها. 2- رسائل أهل الكوفة إلى الامام الحسين عليه السلام . ...

المزید...

6 رمضان

ولاية العهد للامام الرضا (ع)

المزید...

4 رمضان

موت زياد بن ابيه والي البصرة

المزید...

1 رمضان

موت مروان بن الحكم

المزید...
012345678910111213
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page