• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الفصل الثاني عشر: قضية مارية بين الأخذ والرد

مع الأجواء الطبيعية لقضية مارية:

لقد رأينا: أن النصوص عند جميع المسلمين تكاد تكون متفقة على صورة قضية الإفك على مارية.
ورأينا أيضاً: أن ما رواه الحاكم في مستدركه، والسيوطي عن ابن مردويه، وغير ذلك مما تقدم، يؤكد على أن عائشة قد غارت من مارية، ونفت شبه إبراهيم بأبيه «صلى الله عليه وآله»، رغم إصرار النبي «صلى الله عليه وآله» على خلافها، ورغم أنه كان أشبه الخلق به «صلى الله عليه وآله» كما في الرواية عن الطبراني.
مما يعني: أنها كانت تسعى لإثارة الشبهة في انتسابه إليه «صلى الله عليه وآله» والإيحاء بحصول خيانة من مارية رحمها الله، كما أن إصرارها على رفض قول رسول الله في تأكيده لشبهه به يستبطن التكذيب والأذى له «صلى الله عليه وآله». وكان الحامل لها على ذلك هو غيرتها الشديدة، حسب اعتراف عائشة نفسها.

شواهد على إلقاء الشبهة:

ومما يجعلنا نطمئن إلى صحة ذلك الحوار، وأن عائشة قد حاولت أن تلقي شبهة على طهارة مارية هو ما قالته عائشة نفسها عن حالتها مع مارية:
«..ما غرت على امرأة إلا دون ما غرت على مارية، وذلك أنها كانت جميلة جعدة، وأعجب بها رسول الله «صلى الله عليه وآله».
إلى أن قالت: وفرغنا لها، فجزعت، فحولها رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى العالية، فكان يختلف إليها هناك، فكان ذلك أشد علينا. ثم رزقه الله الولد وحرمناه..»([1]).
لكن عند السمهودي ـ كما تقدم ـ : حتى قذعنا لها، والقذع الشتم كما أشرنا إليه هناك.
وعن أبي جعفر: «..وكانت ثقلت على نساء النبي «صلى الله عليه وآله»، وغرن عليها، ولا مثل عائشة»([2]).
ويقول ابن أبي الحديد المعتزلي عن موقف عائشة حين موت إبراهيم «عليه السلام»: «..ثم مات إبراهيم فأبطنت شماتة، وإن أظهرت كآبة..»([3]).
وبعد كل ما تقدم، نعرف: أن أم المؤمنين قد ساهمت في إثارة الشكوك والشبهات حول مارية، وولدها إبراهيم.

شراكة حفصة:

ولعلنا نستطيع أن نفهم أيضاً من رواية السيوطي عن ابن مردويه: أن حفصة أيضاً قد شاركت في تأليب رأي النبي «صلى الله عليه وآله» ضد مارية، وأن النبي «صلى الله عليه وآله» قد حرّم مارية على نفسه، بعد المحاورة التي جرت بينه وبين عائشة، وبعد جزعهما، وعتاب حفصة له في شأنها.
ويفهم أيضاً من رواية الحاكم أن تكثير الناس على مارية قد كان بعد المحاورة المشار إليها بين النبي «صلى الله عليه وآله» وعائشة.

سبب تحريم مارية:

وكل ذلك يجعلنا نطمئن إلى: أن سبب تحريم مارية هو ما ذكر من الشبهات حولها، لا مجرد أنه وطأها في بيت حفصة أو عائشة.
ولا سيما بملاحظة: أن آيات التحريم، في سورة التحريم، تدل على: أن ما ارتكبوه كان أمراً عظيماً جداً، لا مجرد قول حفصة: «يا رسول الله في بيتي، وعلى فراشي»، فإن هذا كلام طبيعي، وليس فيه أي إساءة أدب، أو خروج عن الجادة، ولا يستحق هذا التأنيب العظيم الوارد في الآيات.
وعلى هذا فإن الظاهر هو: أن آيات تحريم مارية التي في سورة التحريم قد نزلت في معالجة الشبهات التي أثارتها عائشة وحفصة حول مارية حينما حرمها النبي «صلى الله عليه وآله» على نفسه لذلك، وأما آية الإفك، فنزلت في الإفك عليها أيضاً.

دور عمر في قضية مارية تبرئة أو اتهاماً:

ولقد احتمل بعض العلماء: أن عمر أيضاً قد شارك في إثارة الشبهات حول مارية بالإضافة إلى حفصة وعائشة، ومستنده في ذلك ما عند الطبراني وغيره، حيث ذكروا رواية تضمنت أن ظهور براءة مارية كان على يد عمر، لا علي «عليه السلام»، وأنه لما رجع إلى الرسول، قال له «صلى الله عليه وآله»: «ألا أخبرك يا عمر: إن جبرائيل أتاني فأخبرني، أن الله عز وجل قد برأ مارية وقريبها مما وقع في نفسي، وبشرني: أن في بطنها مني غلاماً، وأنه أشبه الخلق بي، وأمرني أن أسميه إبراهيم..»([4]).
فقد احتمل المظفر استناداً إلى هذه الرواية: أن لعمر بن الخطاب شأناً في اتهام مارية، وإلا.. فلماذا يخصه الرسول «صلى الله عليه وآله» بهذه المقالة؟!([5]).

من الذي برأ مارية:

ولكننا بدورنا نقول: إن هذه الرواية محل إشكال، لأن الروايات متفقة ومتضافرة على أن براءة مارية كانت على يد علي «عليه السلام»، وهذه تقول: بل كانت على يد عمر.
وأجاب العسقلاني عن ذلك باحتمال: أن يكون رسول الله «صلى الله عليه وآله» قد أرسل عمر أولاً، فأبطأ في العودة، لأنه لما رآه ممسوحاً اطمأن وتشاغل ببعض الأمر، فأرسل «صلى الله عليه وآله» علياً بعده، ورجع علي «عليه السلام»، فبشره «صلى الله عليه وآله» بالبراءة، ثم جاء عمر بعده فبشره بها([6]).
ولكن هذا التوجيه منه يحتاج إلى إثبات، وعلى الأقل إلى شواهد تؤيده، كما أن تلكؤ عمر في إخباره للنبي «صلى الله عليه وآله»، حتى يذهب علي «عليه السلام»، ويكشف الأمر مرة ثانية، ويرجع، بعيد عن التصرف الطبيعي في مناسبات حادة، تثير الأزمات بدرجة غير عادية كهذه المناسبة.
إذن.. فبملاحظة التشابه بين هذه الرواية، وبين ما يرد عن علي «عليه السلام»،
وبملاحظة: أن تبرئة علي «عليه السلام» لها مجمع عليها، ولا شك فيها، فإننا لا يمكن أن نصدق هذه الرواية: فإن عمر لم يذهب إلى مأبور، ولا شارك في تبرئة مارية.
فقولهم: إن النبي «صلى الله عليه وآله» قال له: ألا أخبرك يا عمر الخ.. ـ إن صح ـ فهو ابتداء كلام معه، وحينئذ فيحتاج ما ذكره المظفر إلى الجواب.

براءة مارية:

لقد مر علينا آنفاً: أن الرسول «صلى الله عليه وآله» يخبر عمر بن الخطاب بأن جبرائيل قد أخبره أن الله تعالى قد برأ مارية.
وقد يمكن أن يفهم من ذلك: أن هذا يؤيد كون آيات الإفك قد نزلت في شأن مارية.. وأن الله تعالى قد برأها بواسطتها، وإلا فما معنى تبرئة الله تعالى لها فيما سوى ذلك؟ إذ إن براءتها قد ثبتت على يد علي «عليه السلام»، فتبرئة الله تعالى لها، لا بد أن تكون بنحو آخر، غير ما فعله علي «عليه السلام»، وليس هو إلا نزول آيات الإفك في شأنها.

استمرار آثار الاتهام:

هذا.. ويبدو أن الشك في شأن مارية قد استمر إلى حين وفاة إبراهيم ابن رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وأنه قد كان ثمة من يصر على الاتهام، ولو بالخفاء.
ولعل عائشة التي يقول المعتزلي: إنها أظهرت كآبة، وأبطنت شماتة، كان يهمها هذا الأمر أكثر من غيرها. ولذا نجد النبي «صلى الله عليه وآله» حتى حين موت ولده إبراهيم يؤكد على: أن إبراهيم هو ولده.
فقد روي في صحيح مسلم: أنه «..لما توفي إبراهيم قال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: إن إبراهيم ابني وإنه مات في الثدي، وإن له لظئرين تكملان رضاعه في الجنة..»([7]).
فليس لقوله «صلى الله عليه وآله»: «إن إبراهيم ابني» مبرر إلا أن يقال: إنه أراد أن يقوم بمحاولة أخيرة، لدفع كيد الإفكين، وشك الشاكين.

كلام السيد المرتضى:
وأشكل السيد المرتضى وغيره على الرواية الأخيرة، من روايات الإفك على مارية: بأنه كيف جاز لرسول الله «صلى الله عليه وآله» الأمر بقتل رجل على التهمة بغير بينة، ولا ما يجري مجراها؟
وعلى حد تعبير ابن حزم: «كيف يأمر رسول الله «صلى الله عليه وآله» بقتله دون أن يتحقق عنده ذلك الأمر، لا بوحي، ولا بعلم صحيح، ولا بينة، ولا بإقرار؟!
وكيف يأمر «عليه السلام» بقتله في قصة، بظن قد ظهر كذبه بعد ذلك وبطلانه؟!
وكيف يأمر «عليه السلام» بقتل امرئ قد أظهر الله تعالى براءته بعد ذلك بيقين لا شك فيه؟!
وكيف يأمر «عليه السلام» بقتله، ولا يأمر بقتلها، والأمر بينه وبينها مشترك؟!».
وقد أجاب ابن حزم بقوله: «لكن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قد علم يقيناً أنه بريء، وأن القول كذب، فأراد «عليه السلام» أن يوقف على ذلك مشاهدة، فأمر بقتله لو فعل ذلك الذي قيل عنه، فكان هذا حكماً صحيحاً في من آذى رسول الله «صلى الله عليه وآله». وقد علم «عليه السلام» أن القتل لا ينفذ عليه لما يظهر الله تعالى من براءته».
ثم ذكر قصة اختلاف امرأتين في مولود، وتحاكمهما إلى داود، فحكم به للكبرى، فخرجتا على سليمان، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينهما.
فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله، هو ابنها، فقضى به للصغرى.
ثم قال: «إن سليمان لم يرد قط شق الصبي بينهما، وإنما أراد امتحانهما بذلك، وبالوحي فعل هذا بلا شك، وكان حكم داود للكبرى على ظاهر الأمر، لأنه كان في يدها، وكذلك فعل رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ما أراد قط إنفاذ قتل ذلك المجبوب، لكن أراد امتحان علي في إنفاذ أمره، وأراد إظهار براءة المتهم وكذب التهمة عياناً. وهكذا لم يرد الله تعالى إنفاذ ذبح إسماعيل بن إبراهيم «عليهما السلام» إذ أمر أباه بذبحه، لكن أراد الله تعالى إظهار تنفيذه لأمره»([8]).
وليت ابن حزم قال: إنه «صلى الله عليه وآله» أراد إظهار طاعة علي «عليه السلام» كما هو حال إبراهيم حين أمره الله بذبح ولده اسماعيل.
وأجاب السيد المرتضى «رحمه الله تعالى»:
بأن من الجائز أن يكون القبطي معاهداً، وأن النبي كان قد نهاه عن الدخول إلى مارية، فخالف وأقام على ذلك، وهذا نقض للعهد، وناقض العهد من أهل الكفر مؤذن بالمحاربة، والمؤذن بها مستحق للقتل.
وإنما جاز منه «صلى الله عليه وآله» أن يخير بين قتله والكف عنه، وتفويض ذلك إلى علي «عليه السلام»، لأن قتله لم يكن من الحدود والحقوق، التي لا يجوز العفو عنها، لأن ناقض العهد إذا قدر عليه الإمام قبل التوبة له أن يقتله، وله أن يعفو عنه.
وأشكل أيضاً: بأنه كيف جاز لأمير المؤمنين «عليه السلام» الكف عن القتل، ومن أي جهة آثره لما وجده أجب، وأي تأثير لكونه أجب فيما استحق به القتل، وهو نقض العهد؟!
وأجاب: بأنه كان له «عليه السلام» أن يقتله مطلقاً حتى مع كونه أجب لكنه «عليه السلام» آثر العفو عنه، من أجل إزالة التهمة والشك الواقعين في أمر مارية، ولأنه أشفق من أن يقتله، فيتحقق الظن، ويلحق بذلك العار([9]).
أما نحن فنقول:
إن الجواب على الإشكال الأول محل تأمل، ذلك للشك في كون مأبور معاهداً، فقد صرحوا: بأن مأبوراً قد أسلم في المدينة.
إلا أن يقال: إنه أسلم بعد قضية مارية.
ولكن ذلك يحتاج إلى إثبات ليمكن اعتماد جواب السيد المرتضى «رحمه الله».
على أننا نقول: إن من القريب جداً: أن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يكن أمره بالقتل على الحقيقة، وإنما كان ذلك مقدمة لإظهار البراءة الواقعية لمارية، فأراد علي «عليه السلام» أن يظهر للناس قصد النبي هذا، فسأله بما يدل عليه، وأجابه «صلى الله عليه وآله» بذلك أيضاً.
ولعل هذا الاحتمال، أولى مما ذكره السيد المرتضى: لأن ما ذكره السيد يحتاج إلى إثبات المعاهدة لمأبور، ولا مثبت لها..
أما هذا، فهو موافق للسنة الجارية في أمور مثل هذه يحتاج الأمر فيها إلى الكشف واليقين، ورفع التهمة، لا سيما وأن آيات الإفك إنما دلت على البراءة الشرعية، فتحتاج إلى ما يدل على البراءة الواقعية أيضاً.
ويؤكد هذه البراءة الواقعية: أن مأبوراً ـ كما يقولون ـ كان أخاً لمارية، وكان شيخاً كبيراً([10]).
وقال النووي في مقام الجواب عن الإشكال المتقدم: «قيل: لعله كان منافقاً، ومستحقاً للقتل بطريق آخر، وجعل هذا محركاً لقتله بنفاقه، وغيره، لا بالزنى.. وكف عنه علي رضي الله عنه اعتماداً على أن القتل بالزنى، وقد علم انتفاء الزنى..»([11]).
ولكن قد فات النووي: أن عقوبة الزنى ليست هي القتل أيضاً، وإنما هي الجلد أو الرجم.
إلا أن يقال: إن ذلك هو حكم من يعتدي على حرمات رسول الله «صلى الله عليه وآله».
وخلاصة الأمر: أن دعوى نفاقه تبقى بلا دليل، فلا يمكن الاعتماد عليها، فما أجبنا به نحن هو الأظهر والأولى.
بل إننا حتى لو سلمنا: أنه كان منافقاً ظاهر النفاق، فإن قتله له في هذه المناسبة لأجل نفاقه سيوجب تأكد تهمة الفاحشة والزنى على مارية، وهذا خلاف الحكمة منه «صلى الله عليه وآله»، وفيه ضرر عظيم على الدعوة وعلى قضية الإيمان كلها.
فكان لا بد من إظهار كذب تلك التهمة بصورة محسومة، ثم يعاقب على نفاقه بالصورة التي يستحقها.

مناقشات العلامة الطباطبائي رحمه الله:

وقد ناقش العلامة الطباطبائي «رحمه الله» موضوع الإفك على مارية في رواية القمي «رحمه الله» بمناقشتين:
أولاهما: أن قضية مارية لا تقبل الانطباق على الآيات التي نزلت في الإفك، ولا سيما قوله: {إِنَّ الذِينَ جَاؤُوا بِالإفك} الآية.
وقوله: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ} الآية..
وقوله: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ..} الآية.
فمحصل الآيات: أنه كان هناك جماعة مرتبط بعضهم ببعض، يذيعون الحديث، ليفضحوا النبي «صلى الله عليه وآله». وكان الناس يتداولونه لساناً عن لسان، حتى شاع بينهم، ومكثوا على ذلك زماناً، وهم لا يراعون حرمة النبي «صلى الله عليه وآله» وكرامته من الله.. وأين مضمون الروايات من ذلك؟
اللهم إلا أن تكون الروايات قاصرة في شرحها للقصة.
ثانيتهما: أن مقتضى القصة، وظهور براءتها إجراء الحد على الإفكين، ولم يجر.. ولا مناص عن هذا الإشكال، إلا بالقول بنزول آية القذف بعد قصة الإفك بزمانٍ.
والذي ينبغي أن يقال ـ بالنظر إلى إشكال الحد الوارد على الصنفين ـ يعني ما روته العامة، من أن الإفك كان على عائشة، وما رواه القمي وغيره ـ حسبما بيناه ـ: أن آيات الإفك قد نزلت قبل آية حد القذف، ولم يشرَّع بنزول آيات الإفك إلا براءة المقذوف، مع عدم قيام الشهادة، وتحريم القذف.
ولو كان حد القاذف مشروعاً قبل حديث الإفك، لم يكن هناك مجوز لتأخيره مدة معتداً بها، وانتظار الوحي، ولا نجا منه قاذف منهم.
ولو كان مشروعاً مع آيات الإفك لأشير فيها إليه، ولا أقل باتصال آيات الإفك بآية القذف، والعارف بأساليب الكلام لا يرتاب في أن قوله: {إِنَّ الذِينَ جَاؤُوا بِالإفك} الآيات.. منقطعة عما قبلها.
ولو كان على من قذف أزواج النبي «صلى الله عليه وآله» حدان، لأشير إلى ذلك في خلال آيات الإفك بما فيها من التشديد، واللعن، والتهديد بالعذاب على القاذفين.
ويتأكد الإشكال على تقدير نزول آية القذف، مع نزول آية الإفك، فإن لازمه أن يقع الابتلاء، بحكم الحدين، فينزل حكم الحد الواحد([12]).
ولنا هنا كلمة:
هذا مجمل كلام العلامة الطباطبائي في المقام.
وقد رأينا أنه «رحمه الله» قد أجاب هو نفسه عن كلا المناقشتين في المقام بما فيه مقنع وكفاية، فيبقى حديث إفك مارية سليماً من الإشكال، بخلاف حديث الإفك على عائشة، فإن ما تقدم في هذا البحث لا يدع مجالاً للشك في كونه إفكاً مفترى.
ونزيد نحن هنا: أن ما ذكره العلامة الطباطبائي من أن رواية مارية قاصرة في شرحها للقصة، صحيح. ولعل ذلك يرجع إلى أن الاتجاه السياسي كان يفرض أن لا تذكر جميع الحقائق المتعلقة بهذا الموضوع، لأنه يضر بمصلحة الهيئة الحاكمة، أو من يمت إليها بسبب سياسي، أو نسب أو غيره..
وأيضاً: فإننا إذا أضفنا من ذكرتهم روايات عائشة في جملة الإفكين، إلى من ذكرتهم، أو لمحت إليهم الروايات الأخرى، ولا سيما أولئك الآخرون الذين لم يعرفهم عروة بن الزبير.. فإن المجموع يصير طائفة لا بأس بها، ويصدق عليهم أنهم عصبة.
ولا سيما بملاحظة: أن بعض روايات الإفك على مارية قد ذكرت: أن هذه القضية قد شاعت وذاعت وتناقلتها الألسن وكثر عليها في هذا الأمر.
وأما بالنسبة لمناقشته الثانية ـ أعني موضوع إجراء الحد ـ فجوابه الأول هذا محل نظر إذ قد تقدم: أن سورة النور قد نزلت جملة واحدة.
ولذا فإن الظاهر هو: أن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يقم الحد على الإفكين، وهو ما صرح به أبو عمر بن عبد البر من أنه لم يشتهر جلد أحد.
ويتأكد ذلك: إذا كان ثمة مفسدة كبرى تترتب على إقامته، تهدد كيان الدولة الإسلامية، وبناء المجتمع الإسلامي، أو تترتب عليه أخطار جسيمة على مستقبل الدعوة بشكل عام.
ولهذا الأمر نظائر كثيرة في السيرة النبوية، فالنبي «صلى الله عليه وآله» لا يقتل ابن أُبي رغم استحقاقه للقتل، في كثير من الموارد، وذلك حتى لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه. مما يصير سبباً في امتناع الناس عن الدخول في الإسلام، وهو لا يزال في أول أمره، أو خروج أصحاب النفوس الضعيفة منه.
وكذلك هو لا يقتل خالد بن الوليد، رغم ما ارتكبه في بني جذيمة، حيث قتلهم قتلاً قبيحاً، وهم مسلمون موحدون، يقيمون الصلاة..
بل إن الحكومات الغاصبة تمارس نفس هذا الأسلوب، فإن أبا بكر لم يقتل خالد بن الوليد، ولم يقم عليه حد الزنا في قضية مالك بن نويرة، وذلك حفاظاً على حكومته وقوتها في قبال علي «عليه السلام» صاحب الحق الشرعي بنص الكتاب الحكيم وبتنصيب الرسول الكريم «صلى الله عليه وآله» .
إلى كثير من الشواهد الأخرى على ذلك.
هذا كله، لو فرض: أن آية حد القذف قد نزلت مباشرة مع آيات الإفك، أو قبلها، كما هو الظاهر.
وأما إذا كان قد تأخر نزولها ـ وهو أمر غير مقبول، لما قدمناه في مطاوي البحث ـ فلا يكون ثمة إشكال على رواية مارية أصلاً. نعم يبقى الإشكال في روايات الإفك على عائشة التي تقول: إن الإفكين قد جلدوا حداً، أو حدين، أو وجىء في رقابهم!! كما تقدم.



([1]) طبقات ابن سعد ج8 ص153 والإصابة ج4 ص405 ووفاء الوفاء للسمهودي ج3 ص826 ولتراجع: البداية والنهاية ج3 ص303 و 304.
([2]) طبقات ابن سعد ج1 قسم1 ص86 والسيرة الحلبية ج3 ص309.
([3]) شرح النهج للمعتزلي ج9 ص195.
([4]) دلائل الصدق ج3 قسم2 ص26 عن كنز العمال ج6 ص118 والرواية موجودة في مجمع الزوائد ج9 ص162 والسيرة الحلبية ج3 ص312 و 313 والإصابة ج3 ص335 عن ابن عبد الحكم في فتوح مصر، وكنز العمال ج14 ص97 عن ابن عساكر بسند حسن.
([5]) دلائل الصدق ج3 قسم2 ص26.
([6]) الإصابة ج3 ص335.
([7]) صحيح مسلم (ط مشكول) ج7 ص77 وفتح الباري ج3 ص140 وتاريخ الخميس ج2 ص146 وكنز العمال ج14 ص98 عن أبي نعيم.
([8]) المحلى ج11 ص413 و 414.
([9]) راجع أمالي السيد المرتضى ج77 ـ 79.
([10]) طبقات ابن سعد ج8 ص153 والإصابة ج4 ص405 وج3 ص334.
([11]) النووي على مسلم، هامش القسطلاني ج10 ص237.
([12]) الميزان ج15 ص104 و 105.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page