• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الفصل السادس: عهد الحديبية: نتائج وآثار

آثار ونتائج عهد الحديبية:

ثم إن سورة الفتح وكذلك تصريحات رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ونصوص عهد الحديبية بالذات، أظهرت: أن الإسلام قد حقق في الحديبية أموراً هامة وأساسية جداً، لا مجال للتعرض لها في كتاب كهذا، فلا بد من الاقتصار على الإلماح السريع إلى بعضها، فنقول:
1 ـ إن السورة قد اعتبرت ما جرى في الحديبية فتحاً مبيناً. وصرح بذلك الرسول «صلى الله عليه وآله»، وقد أظهرت الوقائع هذا الأمر بصورة جلية أيضاً.
2 ـ قد نسبت السورة هذا الفتح إلى الله سبحانه، بمعنى: أن الله تعالى هو الذي هيأ لهذا الفتح. حيث يتضح لمن رصد حركة الأحداث: أنه «صلى الله عليه وآله» لو استجاب لرغبة أصحابه لما حصل على هذا الفتح العظيم, الذي أوجب دخول المنطقة بأسرها في الإسلام من دون قتال, وأظهر ظلم قريش وعدوانيتها، وأظهر ضعفها, وسماحة الإسلام, ونبل مقاصده, وجلَّى مكامن القوة فيه, وعرَّف الناس بالبون الشاسع بين حقيقة أهداف المسلمين, والمشركين, ثم هم مع ذلك كله قد رجعوا سالمين، ومن دون أية خسائر تذكر..
3 ـ لقد أوضحت الآيات: أن من جملة ما حققه صلح الحديبية هو: أن الله تعالى قد جعل الأمور باتجاه أرغم قريشاً على اتخاذ موقف من شأنه أن يسقط مزاعمها في حق رسول الله «صلى الله عليه وآله»؛ فإن الصلح قد ركز القناعة: بأن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يكن يسعى في قطع الأرحام, ولم يكن يمارس العدوان والبغي, وأنه إنما يطالب بالكف عن الظلم وعن البغي, وأنه الوصول، الودود، الرحيم, الرضي, الذي يتعامل بالصفح والعفو حتى عن أعدى أعدائه...
وهذا هو ما أشار إليه قوله تعالى: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ..﴾ فقد هيأ الصلح قريشاً للإقرار: بأن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يكن مذنباً في حقها, بل هي سوف تبرّئه من الذنب، حتى حين تسير الأمور باتجاه لا ترضاه، أو باتجاه ما ترى أنه لا يخدم مصالحها الخاصة.
وبعد.. فإننا نستطيع أن نفهم الكثير من نتائج هذه الهدنة من ملاحظة نفس الشروط التي وضعت في وثيقة الصلح، ومن هذه النتائج والفوائد:
ألف ـ أن الصلح قد أفسح المجال أمام الكثير من المشركين والمسلمين للتلاقي في مكة وفي المدينة وغيرهما، وطرح القضايا فيما بينهم على بساط البحث، والتقى الأصدقاء والأهل، وذوو الأرحام ببعضهم، وبذلوا لهم النصيحة، من موقع المحبة والإخلاص والصدق.
وقد أسهم كل ذلك: في اتضاح كثير من الأمور التي كانت مبهمة لدى المشركين فيما يختص بحقائق الإسلام، وما يسعى إليه المسلمون. وتكونت لدى الكثيرين منهم قناعات جديدة سهلت عليهم الدخول في هذا الدين, أو هي على الأقل قد أسهمت في تخفيف حدة العداء له, والتقليل من مستويات التشنج ضده.
ب ـ يضاف إلى ذلك: أن الكثيرين من المشركين قد شاهدوا عن قرب أحوال النبي «صلى الله عليه وآله», وربما بعض معجزاته، وعاينوا حسن سيرته، وحميد طريقته، وجميل أخلاقه الكريمة، وعرفوا الكثير عن طبيعة تعاطيه مع القضايا، وأدركوا: أن ما يسعى إليه ليس هو التسلط على الآخرين، واكتساب الامتيازات على حسابهم، بل هو يريد: أن يحقق لهم المزيد من الرفعة والشوكة, والكرامة والعزة..
وهذا أمر لم يعرفوه ولم يألفوه في زعمائهم، الذين يريدون: أن يتخذوا مال الله دولاً، وعباد الله خولاً..
فلا بد أن تميل نفوسهم إلى الإيمان, ويبادر خلق منهم إلى الإسلام ويزداد الآخرون له ميلاً([1]).
وكان ذلك أعظم الفتح, فقد دخل الإسلام في تينك السنتين مثل ما دخل فيه قبل ذلك، بل أكثر([2]).
بل لقد روي عن الإمام الصادق «عليه السلام» أنه قال: « فما انقضت تلك المدة (وهي سنتا الهدنة) حتى كاد الإسلام يستولي على أهل مكة»([3]).
ج ـ إن شروط الصلح: قد مكنت من إظهار الإسلام في مكة، بعيداً عن أي ضغوط حتى النفسية منها, فلم يعد أحد يمنع أحداً من الدخول في الإسلام, فدخل فيه من أحب. ولم يعد الداخل في هذا الدين يخشى الاضطهاد, والأذى, بل هو قد أصبح آمناً حتى من ممارسة بعض الضغوط النفسية ضده, حيث لم يعد التعيير به مسموحاً بمقتضى المعاهدة..
ولو أن النبي «صلى الله عليه وآله» اختار طريق الحرب، فإن ضرراً بالغاً سوف يلحق بهؤلاء المسلمين المستضعفين؛ لأن قريشاً سوف تشتد عليهم، ولربما قتلت الكثير منهم، كما أن جيوش المسلمين لا تعرف المسلم من غير المسلم منهم، خصوصاً مع ما هم عليه من التقية والتستر، كما أنهم لا يعرفون من أصبح له ميل ورغبة في الدخول في هذا الدين، لكنه غير قادر على المبادرة إلى ذلك في هذا الوقت، بل يكون مجبراً على مجاراة أهل الشرك، والتظاهر بحرب المسلمين معهم.. وهذا سوف ينتهي بقتل عدد كبير من هؤلاء أيضاً..
فكان الصلح سبباً في حفظ هؤلاء، وأولئك، وهو صلح سعت إليه قريش نفسها، وظهر إعزاز الله تعالى لأوليائه، ولدينه.
د ـ إن هذا العهد, قد جعل المسلمين في مأمن من جانب قريش, فتفرغوا لنشر الإسلام في سائر القبائل, ليصبح المحيط الإسلامي أكثر اتساعاً, ويتم التحول من حالة حصار للإسلام في المدينة, وضواحيها القريبة, إلى حالة حصار لقريش في مكة, بل حصارهم في بعض زواياها, وكان الإسلام ينتشر في مكة بسرعة, فيدخل كل بيت, وشمل كل القبائل والشعَب والأفخاذ.
فما حققه «صلى الله عليه وآله» في هذا الصلح أضعاف أضعاف ما تحقق في حروبه الدفاعية مع قريش وسواها, حسبما تقدم.
ويكفي للتدليل على ذلك، أنهم يقولون: إن النبي «صلى الله عليه وآله», قد بعث بعد الحديبية سراياه وبعوثه في مهمة الدعوة إلى الله تعالى, فلم تبق كورة ولا مخلاف في اليمن والبحرين, واليمامة إلا وفيها رسل النبي «صلى الله عليه وآله», والناس يدخلون في دين الله أفواجاً([4]).
وإذا كان قد جاء إلى الحديبية بألف وأربع مائة أو نحو ذلك, فإنه جاء بعد سنتين فقط بعشرة آلاف مقاتل, وفتح الله له مكة, ودخلها من غير قتال([5]).
هـ ـ دخول النبي «صلى الله عليه وآله» مكة في العام التالي, وأداء مناسك العمرة, من دون قتال..
وهذا يمثل اعترافاً من قريش بقوة الإسلام, وبأن للمسلمين الحق في ممارسة شعائر دينهم حتى في مكة, وبأنها كانت ظالمة لهم في حرمانهم من هذا الحق.
كما أن ذلك يعطي الآخرين مزيداً من الجرأة على التعامل مع المسلمين, وليس لقريش أن تعترض على أحد في ذلك, أو أن تمارس ضده أية ضغوط, لأن ذلك سوف يفهم على أنه بغي, وابتزاز لا مبرر له.. ولا بد أن يسقط ذلك هيبتها, ويسوق الناس إلى المقارنة بين طريقتها في التعامل, وبين طريقة أهل الإسلام, وتكون النتيجة هي المزيد من التعاطف معهم ضدها..
هذا بالإضافة إلى أن هذا النصر قد أعطى المسلمين شحنة روحية, وزادهم ثقة بأنفسهم, وتصميماً على المطالبة بحقوقهم, ووطد الآمال بالوصول إليها والحصول عليها, وإن طال السرى..
و ـ إن النبي «صلى الله عليه وآله» كان يملك الجيش المتحمس، والقادر والمستعد لكل التضحيات..
وهو مع ذلك قد رجع عن إتمام عمرته، وأحل ونحر البدن في موضعه، مقابل وعد أعطي له بأن يعود إلى مكة في العام التالي معتمراً، وزائراً، ومعظماً للبيت، لكي يمكن المسلمين والمشركين من الاجتماع بأهلهم وذويهم.
وذلك من شأنه أن يعرف الناس عملياً: أن جميع ما كانت تبثه قريش من إشاعات عن أنه «صلى الله عليه وآله» لا يعظم البيت، وأنه يسعى لإفساد حياة الناس، ويريد قطع الأرحام، هو محض افتراء لا واقع له، والشواهد كلها على خلافه.
فها هو الجيش القادر والمستعد لدخول مكة عنوة، وها هي قريش في غاية الضعف والوهن، ولا يلومه أحد لو أنه سدد الضربة القاضية لها. فإنها كانت ولا تزال تسعى جاهدة لاستئصال شأفته، وإعفاء آثاره، ومحوها من الوجود والحياة..
وها هو رسول الله «صلى الله عليه وآله» يؤثر الرجوع عنها رغم ذلك كله، رغبة في حقن الدماء وإيثاراً لتعظيم البيت، وسعياً في صلة الأرحام، وفي تخفيف آلام الناس.
ز ـ إن قريشاً قد رأت كيف أن عدداً من ملوك العرب والعجم كانوا بعد الحديبية يخطبون ودَّ رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ورأت أن باذان عامل كسرى قد دخل في الإسلام، وأسلم أيضاً عدد من ملوك العرب والعجم، وأرسل الملوك، مثل المقوقس وملك الحبشة وغيرهما الهدايا إلى إليه «صلى الله عليه وآله».
كما أن أبا سفيان قد رأى تعظيم قيصر ملك الروم لكتاب رسول الله «صلى الله عليه وآله»..
فأسهم ذلك كله في ترسيخ هيبته «صلى الله عليه وآله» لدى قريش، واضطرها إلى أن تخفف من غلوائها. ووجدت نفسها مضطرة للاستسلام له في فتح مكة حتى دخلها من دون قتال..
ح ـ إن ثمرات هذا الصلح قد بدأت بالظهور في لحظة إبرامه، حيث إنه لما كتب فيه: «وأن من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل». تواثبت خزاعة، وقالوا: «نحن في عقد محمد وعهده»..
وتواثبت بنو بكر، فقالوا: «نحن في عقد قريش وعهدهم».
وخزاعة كانت تعيش مع قريش في مكة ومحيطها، وكانت عيبة نصح لرسول الله «صلى الله عليه وآله»، فلم تعد قريش ـ التي ظهر أن الحرب قد أكلتها وأوهنت قواها ـ وحدها في مكة، بل أصبح شركاء محمد «صلى الله عليه وآله» وحلفاؤه يعيشون معها، وليس لها أحد في المدينة يجهر بالتحالف، أو يعترف بالشراكة لها، أو بالتعاون معها..
هذا بالإضافة إلى: أنها تضطر بمقتضى الصلح إلى رفع اليد عن مصادرة حرية حتى من أسلم من أبنائها، وأصبح لهم الحق في أن يعيشوا معها دون أن تتمكن من إلحاق أي أذى بهم.
وبذلك يكون معسكر الشرك قد انقسم على نفسه بصورة أعمق وأوثق، وأوضح وأصرح. وأصبح هذا الانقسام محمياً بالعهود والمواثيق..
فإذا انضم ذلك إلى ما نتج عن وساطة الحليس، وعمرو بن مسعود، حيث رجع ابن مسعود بمن معه إلى الطائف، واتخذ الحليس موقفاً صارماً من قريش، فإن الأمر يصبح أشد خطورة عليها ، وزادها مسير النبي «صلى الله عليه وآله» إلى الحديبية، وكذلك عقده وعهده معها وهناً على وهن.
ط ـ وقد رضي المشركون بالفوز بانتصار وهمي، وشكلي، حين سجلوا على أنفسهم عهداً، وأعطوا وعداً لرسول الله «صلى الله عليه وآله» يقضي بنقض كل قراراتهم السابقة، ويشير إلى: أن كل تلك الحروب التي شنتها ضده «صلى الله عليه وآله» والمسلمين طيلة السنوات الست السابقة كانت ظالمة وبلا فائدة ولا عائدة..
فإنها قد اعترفت: بأن للنبي «صلى الله عليه وآله» الحق في زيارة البيت وأداء المناسك، فلماذا شنت عليه كل تلك الحروب؟! وأدخلت كل تلك المصائب والبلايا على الناس؟! وخلقت هذا الكم الكبير من العداوات بين القبائل والفئات المختلفة؟!.
إن نفس هذا الاعتراف والعهد يجعل نفس هذا التأخير إلى العام المقبل أيضاً بلا معنى، بل هو يدخله في دائرة العدوان أيضاً، لأن مبرراته المعلنة هي: أنهم يريدون إرضاء عنجهيتهم، وتنفيس كربتهم.
ي ـ إن هذا الشرط الذي نفر منه المسلمون كان إنجازاً عظيماً لهم لو تدبروا فيه، فإن من يُرِيدْ الفرار إلى المشركين يكنْ فراره رحمة للمسلمين؛ لأن وجوده بين المسلمين بعد أن ارتد عن الدين، ونكص على عقبيه، ليس فقط سيكون بلا فائدة ولا عائدة، بل سيكون مضراً لهم، فيما لو سعى في إثارة الشبهات بين الضعفاء من الناس، أو إذا مارس التجسس على المسلمين، وعرَّف المشركين بنقاط ضعفهم، أو أعلمهم بطبيعة تحركاتهم وبتدبيراتهم في المواقع التي يجب أن تبقى طي الكتمان عنهم..
وأما المسلم الذي يريد الخروج إلى المسلمين فيمنعه المشركون، فإن وجوده بين المشركين ـ وهو متمسك بدينه ـ سيكون مفيداً جداً؛ لأنه وهو بينهم لا بد أن يمارس شعائر دينه، وربما تسنح له فرص كثيرة لطرح قضية الإيمان مع الكثيرين ممن يتصلون به، أو يبذلون جهداً لإقناعه بالتخلي عن دينه والعودة إلى ما كان عليه.. وقد يوفقه الله تعالى لإقناع بعضهم، أو لإثارة تساؤلات لديهم..
ولعل هناك من يلمس في سلوكه الرسالي، ما يجعله مهيئاً لاختيار الإيمان على الشرك..
ولعله لأجل ذلك وسواه قال «صلى الله عليه وآله»: «نعم.. إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاء منهم إلينا فسيجعل الله له فرجاً ومخرجاً»([6]).
ك ـ إنه بعد أن أصبح المسلمون في راحة من جهة قريش، راسل «صلى الله عليه وآله» الملوك من حوله.. فأرسل كتب الدعوة إلى الإسلام إلى كسرى، وقيصر، والمقوقس، وغيرهم. وكان ذلك بعد الحديبية في السنة السادسة أو السابعة بعد الهجرة([7]).
وهذا يفسح المجال للشعوب لتتسامع بأنباء بعثته، وتلتفت إلى دعوته، كما إن ذلك يؤكد هيبته في كل المحيط الذي يعيش فيه.
ل ـ إنه في ظل صلح الحديبية انطلق النبي «صلى الله عليه وآله» إلى يهود خيبر الذين كانوا وما يزالون يعلنون الحرب على الإسلام والمسلمين، وينشئون التحالفات مع أعدائهم ويحرضون ويتآمرون، ويثيرون المشكلات الكبيرة والخطيرة، كلما سنحت لهم الفرصة، وواتاهم الظرف.
وكان اليهود أكبر قوة ضاربة ومتماسكة في منطقة نقطة الارتكاز للوجود الإسلامي، فقد كانوا قادرين على تجهيز عشرة آلاف مقاتل من اليهود في المنطقة، فزحف إليهم النبي «صلى الله عليه وآله» في ألف وأربع مائة مقاتل..
وهو أمر لم يكن متيسراً له «صلى الله عليه وآله» قبل الحديبية، فإنه لم يكن يستطيع أن يخلي المدينة من أهلها ليقود جيشاً يجمع فيه كل القوى المقاتلة، ويترك المدينة من دون قوة تدافع عنها؛ لأن قوى الشرك كانت تنتظر تلك اللحظة لكي تنقض على عاصمة الإسلام وقلبه النابض.
وقد منع عهد الحديبية قريشاً من مهاجمتها، ومن أن تمد يد العون ليهود خيبر، ولغيرهم. وكانت سائر القبائل القريبة أضعف وأهون من أن يُخشى منها أمر من هذا القبيل. لأنها تعرف العواقب الوخيمة التي تنتظرها لو سارت في هذا الاتجاه.
وانتصر المسلمون على اليهود وأسقطوا كبرياءهم في المنطقة كلها: في خيبر, وفدك, ووادي القرى وتيماء.. وغير ذلك..
م ـ ثم هناك الانطلاقة الكبرى إلى خارج المحيط الذي كان يعيش فيه المسلمون، وذلك في غزوة مؤتة التي أظهر فيها ثلاثة آلاف جندي أعظم البطولات في مواجهة جيش يضم عشرات الألوف, الأمر الذي أعطى للدولة البيزنطية انطباعاً حاسماً وقوياً عن بسالة الإنسان المسلم, وأفهمهم: أنهم مقدمون على تحولات ومتغيرات كبيرة, قد يكون لها أعظم الأثر على مستقبل حياتهم السياسية، والدينية والاجتماعية.. وغيرها..
ن ـ إن قريشاً قد اضطرت إلى الاعتراف بقوة المسلمين, وأنها أصبحت متكافئةً معها, وأنها قوة لها حضورها, ولا بد أن تتعامل معها معاملة الند للند. ولولا أنها رأت فيها ذلك، لم تقدم على عقد الصلح معها.
وقبل الحديبية لم تكن قريش على استعداد للاعتراف بهذا التكافؤ, بل ظلت تعتبر المسلمين حالة تمرد شاذة، لا بد من السيطرة عليها, وإخضاعهـا, ولا يجوز أن يسمح لها ـ بوصفها شرذمة خارجة عن القانون ـ: بأن تبقى على ما هي عليه, بل لا بد من إنزال أقصى الضربات بها, والتخلص منها بصورة, أو بأخرى.
 س ـ والغريب في الأمر هنا: أن المشركين بعد مدة يسيرة يقدمون التماساً, ويوسِّطون لدى النبي «صلى الله عليه وآله» وسطاء ليرضى بإعفائهم من الشرط الذي اعتبروه نصراً لهم, واعتبره المسلمون إعطاءً للدنية من دينهم..
فإن أبا بصير عتبة بن أسيد, وأبا جندل، وثلاث مائة من المسلمين وأكثرهم من الذين حبسهم المشركون في مكة قد تسللوا منها، ولكنهم لم يأتوا إليه «صلى الله عليه وآله»، لعلمهم بأنه سوف يردهم إلى مكة، بل ذهبوا إلى سيف البحر، فكانوا لا تمر عير لقريش إلا أخذوها، وقتلوا من فيها.
فأرسلت قريش أبا سفيان إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» يسألونه ويتضرعون له بأن يبعث إلى أبي جندل ليأتي إليه، وإن كل من أتى منهم إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» فهو له..
ولتفصيل ما جرى نقول:

أبو بصير يقتل آسريه، ويعتصم بالساحل:

روى عبد الرزاق، والإمام أحمد، وعبد بن حميد، والبخاري، وأبو داود، والنسائي، عن المسور بن مخرمة، والبيهقي، عن ابن شهاب الزهري([8]): أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» لما قدم المدينة من الحديبية أتاه أبو بصير عتبة بن أَسِيد ـ بوزن أمير ـ بن جارية الثقفي، حليف بني زهرة مسلماً، قد أفلت من قومه، فسار على قدميه سعياً.
فكتب الأخنس بن شريق، وأزهر بن عبد عوف الزهري إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» كتاباً، وبعثا خنيس بن جابر، من بني عامر بن لؤي، استأجراه ببكر، ابن لبون، وحملاه على بعير، وكتبا يذكران الصلح الذى بينهم، وأن يرد إليهم أبا بصير، فخرج العامري ومعه مولى له يقال له: كوثر دليلاً، فقدما بعد أبي بصير بثلاثة أيام، فقرأ أبي بن كعب الكتاب على رسول الله «صلى الله عليه وآله» فإذا فيه:
قد عرفت ما شارطناك عليه، وأشهدنا بينك وبيننا، من رد من قدم عليك من أصحابنا، فابعث إلينا بصاحبنا.
فأمر رسول الله «صلى الله عليه وآله» أبا بصير أن يرجع معهما، ودفعه إليهما فقال: يا رسول الله، تردني إلى المشركين يفتنونني في ديني؟
فقال: «يا أبا بصير إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر. وإن الله تعالى جاعل لك ولمن معك من المسلمين فرجاً ومخرجاً».
فقال: يا رسول الله، تردني إلى المشركين؟!!
قال: «انطلق يا أبا بصير، فإن الله سيجعل لك فرجاً ومخرجاً».
فخرج معهما، وجعل المسلمون يسرون إلى أبي بصير: يا أبا بصير، أبشر، فإن الله جعل لك فرجاً ومخرجاً، والرجل يكون خيراً من ألف رجل، فافعل وافعل: يأمرونه بقتل الذين معه.
وقال له عمر: أنت رجل، ومعك السيف، فانتهيا به عند صلاة الظهر بذي الحليفة، فصلى أبو بصير في مسجدها ركعتين، صلاة المسافر، ومعه زاد له من تمر يحمله، يأكل منه. ودعا العامري وصاحبه ليأكلا معه، فقدما سفرة فيها كسر، فأكلوا جميعاً، وقد علق العامري سيفه في الجدار وتحادثا.
ولفظ عروة: فسل العامري سيفه ثم هزه فقال: لأضربن بسيفي هذا في الأوس والخزرج يوماً إلى الليل.
فقال له أبو بصير: أصارم سيفك هذا؟
قال: نعم.
قال: ناولنيه أنظر إليه إن شئت، فناوله إياه، فلما قبض عليه ضربه به حتى برد.
قال ابن عقبة: ويقال: بل تناول أبو بصير السيف بفيه، وصاحبه نائم، فقطع إساره، ثم ضربه به حتى برد، وطلب الآخر، فجمز مذعوراً مستخفياً.
وفي لفظ: وخرج كوثر هارباً يعدو نحو المدينة، وهو عاض على أسفل ثوبه قد بدا طرف ذكره، والحصى يطير من تحت قدميه من شدة عدوه، وأبو بصير في أثره، فأعجزه. وأتى رسول الله «صلى الله عليه وآله» وهو جالس في أصحابه بعد العصر، فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله» حين رآه: «لقد رأى هذا ذعراً. فلما انتهى إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» قال: «ويحك ما لك»؟
قال: قتل والله صاحبكم صاحبي، وأفلت منه ولم أكد. وإني لمقتول.
واستغاث برسول الله «صلى الله عليه وآله»، فأمنه، وأقبل أبو بصير فأناخ بعير العامري. ودخل متوشحاً سيفه. فقال: يا رسول الله قد وفت ذمتك، وأدى الله عنك، وقد أسلمتني بيد العدو، وقد امتنعت بديني من أن أفتن.
فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: «ويل أمه مسعر حرب»!!([9]).
وفي لفظ: «محش حرب، لو كان معه رجال»!!([10]).
وفي لفظ: «له أحد»!.
قال عروة، ومحمد بن عمر: وقدَّم سلب العامري لرسول الله «صلى الله عليه وآله» ليخمسه، فقال: «إني إذا خمسته رأوني لم أوف لهم بالذي عاهدتهم عليه. ولكن شأنك بسلب صاحبك، واذهب حيث شئت».
وفي الصحيح: أن أبا بصير لما سمع قول رسول الله «صلى الله عليه وآله»: «ويل أمه مسعر حرب لو كان معه أحد»! عرف أنه سيرده. فخرج أبو بصير، ومعه خمسة كانوا قدموا معه مسلمين من مكة حين قدم على الرسول «صلى الله عليه وآله»، فلم يكن طلبهم أحد حتى قدموا سيف البحر.
ولما بلغ سهيل بن عمرو قتل أبي بصير العامري اشتد عليه، وقال: ما صالحنا محمداً على هذا.
فقالت قريش: قد برئ محمد منه، قد أمكن صاحبكم منه فقتله بالطريق، فما على محمد في هذا؟
فأسند سهيل ظهره إلى الكعبة وقال: والله لا أؤخر ظهري حتى يودى هذا الرجل.
قال أبو سفيان بن حرب: إن هذا لهو السفه، والله لا يودى ـ ثلاثاً ـ وأنى قريش تديه، وإنما بعثته بنو زهرة؟
فقال الأخنس بن شريق: والله ما نديه، ما قتلناه، ولا أمرنا بقتله، قتله رجل مخالف؛ فأرسلوا إلى محمد يديه.
فقال أبو سفيان بن حرب: لا، ما على محمد دية ولا غرم، قد برئ محمد. ما كان على محمد أكثر مما صنع. فلم تخرج له دية.
فأقام أبو بصير وأصحابه بسيف البحر، وقال ابن شهاب: بين العيص وذي المروة من أرض جهينة، على طريق عيرات قريش.
قال محمد بن عمر: لما خرح أبو بصير لم يكن معه إلا كف تمر، فأكله ثلاثة أيام، وأصاب حيتاناً قد ألقاها البحر بالساحل فأكلها. وبلغ المسلمين الذين قد حبسوا بمكة خبر أبي بصير، فتسللوا إليه.
قال محمد بن عمر: كان عمر بن الخطاب هو الذي كتب إليهم بقول رسول الله «صلى الله عليه وآله» لأبي بصير: «ويل أمه محش حرب لو كان له رجال»، وأخبرهم أنه بالساحل.
وانفلت أبو جندل بن سهيل بن عمرو الذي رده رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى المشركين بالحديبية، فخرج هو وسبعون راكباً ممن أسلموا فلحقوا بأبي بصير، وكرهوا أن يقدموا على رسول الله «صلى الله عليه وآله» في هدنة المشركين، وكرهوا الثواء بين ظهراني قومهم، فنزلوا مع أبي بصير.
ولما قدم أبو جندل على أبي بصير سلم له الأمر، لكونه قرشياً. فكان أبو جندل يؤمهم. واجتمع إلى أبي جندل ـ حين سمع بقدومه ـ ناس من بني غفار، وأسلم، وجهينة، وطوائف من الناس، حتى بلغوا ثلاثمائة مقاتل ـ كما عند البيهقي عن ابن شهاب ـ لا تمر بهم عير لقريش إلا أخذوها، وقتلوا من فيها، وضيقوا على قريش، فلا يظفرون بأحد منهم إلا قتلوه.
ومما قاله أبو جندل بن سهيل في تلك الأيام:
أبـلـغ قريشـاً عـن أبي  جـنـــدل         أنـا بـذي المــروة في  الســاحـــل
في مـعـشــر تخـفــق  رايــاتهــم        بالبيض فـيـهــا والـقـنـا الـذابـل
يـأبــون أن تـبـقـى لهـم  رفـقــة         من بـعـد إسـلامـهــم  الــواصل
أو يجـعـل الله لهــم مخــرجـــــاً         والحـق لا يـغـلــب  بــالـبـاطـل
فـيـسـلـم المـــرء بـــإســـلامه           ويـقـتــل المـــرء ولم يـــأتـــــل
فأرسلت قريش إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» أبا سفيان بن حرب، يسألونه ويتضرعون إليه: أن يبعث إلى أبي بصير وأبي جندل ومن معهم.
وقالوا: من خرج منا إليك فأمسكه، فهو لك حلال، غير محرج أنت فيه.
وقالوا: فإن هؤلاء الركب قد فتحوا علينا باباً لا يصلح إقراره.
فكتب رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى أبي بصير وأبي جندل يأمرهما: أن يقدما عليه. ويأمرا من معهما ممن اتبعهما من المسلمين أن يرجعوا إلى بلادهم وأهليهم، فلا يتعرضوا لأحد مر بهم من قريش وعيراتها.
فقدم كتاب رسول الله «صلى الله عليه وآله» على أبي بصير وهو يموت. فجعل يقرؤه، ومات وهو في يديه، فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجداً.
 وقدم أبو جندل على رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ومعه ناس من أصحابه. ورجع سائرهم إلى أهليهم، وأمنت بعد ذلك عيرات قريش.
قال عروة: فلما كان ذلك من أمرهم، علم الذين كانوا أشاروا على رسول الله «صلى الله عليه وآله» أن يمنع أبا جندل من أبيه بعد القضية: أن طاعة رسول الله «صلى الله عليه وآله» خير لهم فيما أحبوا وفيما كرهوا من رأي من ظن أن له قوة هي أفضل مما خص الله تعالى به رسوله «صلى الله عليه وآله» من الفوز والكرامة.
ولما دخل رسول الله «صلى الله عليه وآله» عام القضية، وحلق رأسه قال: «هذا الذي وعدتكم»([11]).

مصير أبي بصير:

إن من الأمور التي تؤلم الإنسان وتؤذي روحه هو أن يبذل جهداً مضنياً، حتى إذا رأى: أنه قد حصل على مبتغاه ابتلي بفقده، فكيف إذا استبدل بضده، فإن المصيبة عليه ستكون أعظم، والألم سوف يكون أشد..
وبمقدار ما يكون ذلك الشيء الذي يسعى له ثميناً وعزيزاً، وغالياً لديه، بمقدار ما تتعذب روحه لفقده، وتعظم مصيبته فيه، فكيف إذا كان أثمن وأغلى ما في الوجود عليه، وأعز عليه من كل عزيز، وهومستعد لأن يبذل من أجله ماله، وولده، وحتى روحه التي بين جنبيه، فكيف يمكن لنا أن نتصور حاله حين يفقده، بعد أن وجده؟!
وهذا بالذات هو ما جرى لأبي بصير الذي أفلت من قومه، وجاء إلى المدينة سعياً على قدميه، والآمال العِذاب تراود خاطره، بأن يملك حريته، ويكون مع أهله وأحبابه، حيث العزة والكرامة، والمحبة، والقلوب الصافية، والعاطفة المتوهجة، وحيث يكون مع رسول الله «صلى الله عليه وآله»، خير الخلق، وأشرف الكائنات..
ولم تدم فرحته ثلاثة أيام حتى حلَّت به الكارثة، فقد وصل كتاب قريش، يطالب بإرجاعه إليها، ليواجه السجن، والقيد والذل، والعذاب، والأذى النفسي، والمهانة، والفتنة في الدين وما إلى ذلك..
فأمره رسول الله «صلى الله عليه وآله» بأن يرجع مع الرسولين، ودفعه إليهما.. وقال له نفس الكلمات التي كان قالها لأبي جندل حين سلَّمه لأبيه سهيل بن عمرو، حين كتابة صلح الحديبية.

أبو بصير يقتل آسره:

ويذهب أبو بصير مع آسريه، ويسير معهما على طريق العذاب والآلام، وهو يرى أن آسريه محاربون له ولدينه، ومعتدون على حريته وعلى كرامته، وهو لم يعقد معهم عهداً يعطيهم الحق بقهره وظلمه، وبالعدوان عليه.. ويرى أن له كل الحق بدفع السوء عن نفسه، وأن لا يمكنهم من إلحاق الأذى به.
كما أنه ليس لمحاربه وآسره أن يغفل الاحتياط لنفسه، وأن يطالب بالأمان من ناحيته.. فإذا قصر في حفظ نفسه، وظفر به عدوه فلا يلومن إلا نفسه، فأبو بصير لم يعتد على آسره ولم يظلمه حتى حين يباشر قتله، بل هو قد مارس حقه الطبيعي بالدفاع عن نفسه.

النبي يجير المشرك:

وقد كانت إجارة النبي «صلى الله عليه وآله» لذلك الهارب من أبي بصير، تفضلاً منه «صلى الله عليه وآله» وكرماً، فإن الأمر يرجع إليه في أن يستجيب له أو لا يستجيب.. ولكن النبي «صلى الله عليه وآله» لا يخيب من أمله، ويطلب معونته، حتى لو كان مخالفاً لدينه، وساعياً في إلحاق الأذى به..

النبي لا يجيب أبا بصير:

وقد لاحظنا: أنه حين قال أبو بصير للنبي «صلى الله عليه وآله»: وفت ذمتك، لم يجبه «صلى الله عليه وآله» بشيء، لا سلباً ولا إيجاباً. إذ لا مجال للإجابة بالنفي؛ لأن ذلك غير واقعي، وليس من المصلحة الإجابة بالإيجاب، حتى لا تسيء قريش فهم القضية، وتتخذ ذلك ذريعة لاتهامه «صلى الله عليه وآله» بما هو بريء منه..

ويل أمه مسعر حرب، لو كان معه رجال:

ولكن النبي «صلى الله عليه وآله» أطلق كلاماً عاماً، يصف فيه أبا بصير، دون أن يتمكن أحد من اتخاذه ذريعة لتسجيل مؤاخذة مباشرة عليه، حيث ذكر «صلى الله عليه وآله»: أن أبا بصير قادر على أن يسعر حرباً لو كان معه رجال.
وهو وإن كان وصفاً له بأمر عام يمكن أن يستفاد منه الإغراء بأمر من هذا القبيل.. ويمكن المناقشة والتشكيك القوي في أن يكون قد قُصد ذلك منه فإنه لم يحدد زمان ومكان هذه الحرب التي يحب أن يسعرها هذا الرجل..
ولكن لأبي بصير أن يفهم: أن نفس إطلاق النبي «صلى الله عليه وآله» لهذا الكلام، وبهذه الطريقة لا بد أن يكون له مغزى ويتضمن توجيهاً خفياً عليه أن يعرفه، وأن يسعى لتحقيقه.. وهو:
أن عليه أن يجد رجالاً، وأن يسعر حرباً على أعدائه وأن يخلص نفسه من الورطة التي هو فيها..

النبي ’ يقبل خمس السلب:

وقد صرحت النصوص المتقدمة: أن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يرض أن يأخذ خمس سلب ذلك القتيل، موضحاً له أن سياسته هي أن لا يعطي قريشاً ما ينفعها في توجيه أي تهمة له، فقال:
«إني إذا خمسته رأوني لم أوف لهم بالذي عاهدتهم عليه، ولكن شأنك بسلب صاحبك، واذهب حيث شئت».
وبذلك يكون قد أعلمه: أن عمله كان مشروعاً، فإنه «صلى الله عليه وآله» لم يقل له: لا خمس عليك فيه، بل أفهمه: أن الخمس ثابت في هذا السلب، ولكن ليس من المصلحة أن يأخذه منه.. لأن قريشاً سوف تدفع بالأمور باتجاه توجيه التهمة الصريحة لرسول الله «صلى الله عليه وآله» بأنه وراء قتل الرجل، وأنه هو الآمر بذلك.

قريش تعيش الإرباك والانقسام:

وبالرجوع إلى خلافات قريش في دية المقتول، نخرج بالنتائج التالية:
1 ـ إن قريشاً لم تستطع أن تدي ذلك القتيل، ولم تتفق على رأي في من يجب أن يديه.
2 ـ إن قريشاً بمن فيها أبو سفيان قد برأت النبي «صلى الله عليه وآله» من أن يكون هو المطالب بدفع الدية. ولم يستطع أحد منهم أن يدفع هذا القول، أو أن يسجل تحفظاً عليه.
مما يعني: أن أسلوب النبي «صلى الله عليه وآله» في التعامل مع هذا الأمر كان غاية في الدقة والحكمة.
3 ـ إن قريشاً حتى وهي تواجه مشكلة تمس كبرياءها، وترى أنها تمثل عدواناً عليها، قد تعاملت مع تلك المشكلة بالمنطق القبلي، الذي يكرس الحقد والانقسام العشائري، خصوصاً حين يقول أبو سفيان: أنَّى قريش تديه، وإنما بعثته بنو زهرة؟

أسلم وغفار وجهينة مع أبي جندل:

وقد كانت قبائل أسلم، وغفار، وجهينة، تسكن حول المدينة، وهي قبائل من الأعراب، كان فيهم طائفة من المنافقين، أخبر عنها القرآن الكريم بقوله: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ..﴾([12]).
ويلاحظ: أن من هذه القبائل أشخاصاً انضموا إلى أبي جندل، ونحسب أن ذلك لكونهم وجدوا الفرصة سانحة للحصول على المال، من التجارات التي يصادرها أبو جندل، حيث ظهر لهم: أنه قد اتخذ موقعاً حساساً على طريق قوافل قريش التجارية..
واللافت: أن سائر القبائل لم ينفر من أفرادها ما يدعو إلى الإشارة إليها بالبنان كما كان الحال بالنسبة للقبائل الثلاث التي سلف ذكرها..

ذل قريش:

وقد ألمحنا فيما سبق: إلى أن ما فعله أبو جندل وأبو بصير، قد أوقع قريشاً في مأزق حقيقي، وجدت أن إرسال الكتب والرسائل لا يفيد في إخراجها منه.
كما أن إرسال أناس عاديين لا يكفي في ذلك، فاضطرت إلى إرسال أحد قادتها الكبار، الذي عرف بشدة الطغيان والجحود، وبجمع الجموع، وقيادة الجيوش لحرب الرسول «صلى الله عليه وآله»، وهو أبو سفيان بن حرب، أرسلته إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» لتطمئن إلى انحلال العقدة، والخروج من الأزمة.
واللافت هو: أن طلب قريش من الرسول «صلى الله عليه وآله» لم يكن طلباً عادياً، بل كان طلب الضارع الملح، الذي يظهر المزيد من المسكنة والضعف، لاستجلاب رضاه «صلى الله عليه وآله»، وهي التي كانت تسعى في استئصال شأفته، وخضد شوكته.
وقد كان تدخُّله هذا تفضلاً منه، ونبلاً وكرماً، فهو «صلى الله عليه وآله» يساعد حتى عدوه الذي طالما شن عليه الحروب، وقتل الخلصاء والأصفياء، وسعى في طمس هذا الدين، وإبطال جهود جميع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين يساعد على حفظ السلام، وبسط جناح الأمن، مع أنه «صلى الله عليه وآله» لم يكن مطالباً، لا من ناحية أدبية، ولا من ناحية سياسية، ولا بأي ميزان عرفه الناس آنئذٍ، بدفع هؤلاء المظلومين عما يطالبون به، وما يسعون إليه، فإن هؤلاء الذين أُخذوا بكظم قريش لم يأتوا إليه، ولم ينطلقوا من عنده، ولا كان عملهم تنفيذاً لأوامر صدرت منه، وإنما هي مبادرة منهم لم تنص المعاهدة بمسؤوليته عن أي شيء تجاهها.




([1]) السيرة الحلبية ج3 ص ومكاتيب الرسول ج3 ص94 وشرح صحيح مسلم للنووي ج12 ص140 وسبل الهدى والرشاد ج5 ص80 والسيرة النبوية لدحلان ج2.
([2]) تاريخ الأمم والملوك ج2 ص283 والنص والإجتهاد ص183 ومكاتيب الرسول ج3 ص94 وعن فتح الباري ج5 ص257 والبداية والنهاية ج4 ص194 والسيرة النبوية لابن كثير ج3 ص324 وسبل الهدى والرشاد ج5 ص64 والكامل في التاريخ ج2 والسيرة النبوية لدحلان ج2.
([3]) البحار ج20 ص363 وإعلام الورى ص61 ومناقب آل أبي طالب ج1 ص175 ومكاتيب الرسول ج3 ص94 وإعلام الورى ج1 ص205 والكافي ج8 ص326 وقصص الأنبياء للراوندي ص344.
([4]) راجع: مكاتيب الرسول ج3 ص95.
([5]) راجع: البداية والنهاية ج5 ص351 والطبقات الكبرى ج2 ص134 والمناقب لابن شهرآشوب ج2 ص24 والكامل في التاريخ ج2 ص90 والسيرة النبوية لابن هشام ج3 ص787 ومستدرك الوسائل ج4 ص81 والدر المنثور ج6 ص408 والسيرة النبوية لابن كثير ج3 ص541.
([6]) راجع: السيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج2 ص679 والكافي ج8 ص326 ومكاتيب الرسول ج3 ص92 وعن فتح الباري ج5 ص253 وسبل الهدى والرشاد ج5 ص54 وعن صحيح البخاري ج5 ص357 ومسند أحمد ج4 ص328 والسنن الكبرى للبيهقي ج9 ص220 و 227 والمصنف لعبد الرزاق (9720) وجامع البيان ج26 ص59 و 63 وتفسير القرآن العظيم ج7 ص324 وأخرجه: أبو داود في الجهاد باب (167) والسيوطي في الدر المنثور ج6 ص78 والسيرة النبوية لدحلان ج2.
([7]) راجع: مكاتيب الرسول (ط دار صعب) ج1 ص113 عن الطبقات الكبرى ج1 ص258 و 259 وعن الكامل في التاريخ ج2 ص80 وعن تاريخ الأمم والملوك ج2 ص288 وتاريخ أبي الفدا ج1 ص148 والتنبيه والإشراف ص225.
([8]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص61 وقال في هامشه: أخرجه البخاري ج5 ص329 في الشروط, وأبو داود في الجهاد باب 167 وأحمد ج4 ص331 والبيهقي في الدلائل ج4 ص107 وفي السنن ج9 ص221 وعبد الرزاق في المصنف (9720) وانظر: البداية والنهاية ج4 ص176.
([9]) مسعر حرب، أي: موقدها، انظر المعجم الوسيط ج1 ص432 والبحار ج20 ص336 ومسند أحمد ج4 ص331 وعن صحيح البخاري ج3 ص183 وعن سنن أبي داود ج1 ص63 والمصنف لعبد الرزاق ج5 ص341 والمعجم الكبير ج20 ص15 وإرواء الغليل ج1 ص59 ومجمع البيان ج9 ص199 وجامع البيان ج26 ص131 وتفسير القرآن العظيم ج4 ص214 والدر المنثور ج6 ص78 وإكمال الكمال ج1 ص59 وج2 ص3 وتاريخ مدينة دمشق ج12 ص13 وج57 ص230 وأسد الغابة ج3 ص360 وسير أعلام النبلاء ج3 ص346 وتاريخ الأمم والملوك ج2 ص284 والبداية والنهاية ج4 ص201 والسيرة النبوية لابن كثير ج3 ص335 وسبل الهدى والرشاد ج5 ص62.
([10]) راجع: سبل الهدى والرشاد ج5 ص62 وتاريخ الأمم والملوك ج2 ص284 والبحار ج20 ص336 و 363 والسنن الكبرى للبيهقي ج9 ص227 وأسد الغابة ج5 ص150 والسيرة النبوية لابن هشام ج3 ص788 وعن عيون الأثر ج2 ص131.
([11]) راجع: سبل الهدى والرشاد ج5 ص61 ـ 63 والبحار ج20 ص141 وشرح النهج للمعتزلي ج12 ص60 وج15 ص25.
([12]) الآية 101 من سورة التوبة.

 


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page