إستخلف على المدينة وخرج!!:
قيل: إنه «صلى الله عليه وآله» استخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر([1]).
وقيل: استخلف رسول الله «صلى الله عليه وآله» على المدينة أبا رهم كلثوم بن حصين الغفاري([2]).
ويقال: ابن أم مكتوم. وبه جزم الدمياطي([3]).
وخرج رسول الله «صلى الله عليه وآله» يوم الأربعاء بعد العصر، لعشر خلون من شهر رمضان، ونادى مناديه: «من أحب أن يصوم فليصم، ومن أحب أن يفطر فليفطر». وصام رسول الله «صلى الله عليه وآله»([4]). فما حل عقدة حتى انتهى إلى الصلصل.
وخرج في المهاجرين والأنصار، وطوائف من العرب، وقادوا الخيل، وامتطوا الإبل، وقدم رسول الله «صلى الله عليه وآله» أمامه الزبير بن العوام في مائتين من المسلمين([5]).
ولما بلغ رسول الله «صلى الله عليه وآله» البيداء قال، فيما رواه محمد بن عمر عن أبي سعيد الخدري: «إني لأرى السحاب يستهل بنصر بني كعب»([6]).
وقدم «صلى الله عليه وآله» بمائة جريدة من خيل، تكون أمام المسلمين. فلما كانوا بين العرج والطلوب أتوا بعين من هوازن، فاستخبره رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فأخبره أن هوازن تجمع له (وقد أجابتهم ثقيف، وقد بعثوا إلى الجرش ـ وهو مكان في اليمن ـ فعملوا الدبابات والمنجنيق) فقال: «حسبنا الله ونعم الوكيل».
فأمر رسول الله «صلى الله عليه وآله» خالد بن الوليد أن يحبسه، لئلا يذهب فيحذر الناس، وقد أسلم حين فتح مكة، ثم خرج مع المسلمين إلى هوازن، فقتل في أوطاس.
ولما بلغ «صلى الله عليه وآله» قديداً([7]) لقيته سُليم هناك، فعقد الألوية والرايات، ودفعها إلى القبائل([8]).
ونقول:
إن لنا بعض الملاحظات حول ما تقدم، نجملها فيما يلي:
عشرة آلاف مقاتل:
ثم إن هناك من يقول ـ كابن إسحاق ـ: إن من شهد الفتح من المسلمين عشرة آلاف([9])، ونحو من أربع مائة فارس، ولم يتخلف من المهاجرين والأنصار عنه أحد([10]).
وهناك من يقول: إنهم كانوا اثني عشر ألفاً([11]).
وجمع: بأن العشرة آلاف خرج بها من نفس المدينة، ثم تلاحق الألفان([12]).
ونقول:
قد يقال: إننا نشك في صحة كلا هذين الرقمين.. فإن المسلمين لم يكونوا قد بلغوا إلى الحد الذي يستطيعون معه ان يجهزوا هذا المقدار من الرجال للحرب، ثم يبقى في بلادهم من يحرسها، من غارة أهل الأطماع.
ويشير إلى ذلك: أنه «صلى الله عليه وآله» لم يستطع أن يجهز لخيبر أكثر من ألف وخمسمائة مقاتل، ثم جهز لمؤتة ـ كما يقولون ـ ثلاثة آلاف.. مع أن تجهيز العشرة آلاف كان في مؤتة أيسر منه في فتح مكة، إلا إن كان «صلى الله عليه وآله» قد استنفر العرب من البلاد، فنفروا معه مسلمهم وكافرهم، لأنهم أيقنوا: أنه يريد الخير لهم، وأن في الخروج معه منافع تهمهم، خصوصاً بعد أن ظهر ضعف قريش في تصدياتها له..
فإذا نفر الناس من سائر القبائل معه، فإن من بقي منهم في البلاد لا يخشى منه، وقد كان «صلى الله عليه وآله» عارفاً بالمنطقة وبمن يسكنها من القبائل..
ولم يكن ليجرؤ أحد من أي قبيلة على مهاجمة المدينة إذا كان لدى رسول الله «صلى الله عليه وآله» طائفة من تلك القبيلة تقاتل معه، إذ إن ذلك سوف يسهِّل على النبي «صلى الله عليه وآله» الظفر بمن يقوم بأي تحرك من هذا القبيل ومعاقبته، لأن نفس أهل تلك القبيلة سيكونون أعواناً وأنصاراً له على الخارجين عليه، حتى إذا كانوا من قبائلهم، فكيف إذا كانوا من غيرها.
يضاف إلى هذا كله: أنه لابد أن يبقى في المدينة قوة قادرة على حمايتها من هجوم فئات صغيرة، لو فرض أن أحداً يجرؤ على القيام بشيء من ذلك.
تأويلات وتفاصيل:
وقد ذكروا هنا: بعض التفاصيل التي قد لا تملك من الدقة ما يكفي للاعتماد عليها، فقد قالوا:
أنه «صلى الله عليه وآله» كان في عشرة آلاف. أي باعتبار من لحقه في الطريق من القبائل، كبني أسد، وسليم، ولم يتخلف عنه أحد من المهاجرين والأنصار.
وكان المهاجرون سبع مائة، ومعهم ثلاث مائة فرس.
وكانت الأنصار أربعة آلاف، ومعهم خمس مائة فرس.
وكانت مزينة ألفاً، وفيها مائة فرس ومائة درع.
وكانت أسلم أربع مائة، ومعها ثلاثون فرساً.
وكانت جهينة ثمان مائة، ومعها خمسون فرساً([13]).
وعن ابن عباس: من بني سليم سبع مائة، وقيل: ألف. ومن غفار أربع مائة، ومن أسلم أربع مائة ومن مزينة ألف وثلاث مائة، وسائرهم من قريش والأنصار، وحلفائهم، وطوائف من العرب، من بني تميم، وقيس، وأسد([14]).
ونقول:
إن هذا يثير لدى الباحث أكثر من سؤال. فمتى صار المهاجرون سبع مائة؟
وكيف أصبح الأنصار أربعة آلاف؟ في حين أنه لم يستطع أن يجند منهم ومن المهاجرين وممن حولهم من الأعراب أكثر من ألف وخمس مائة مقاتل إلى ألف وثمان مائة، فراجع: حرب خيبر والحديبية وغيرهما..
إلا إن كان سكان المدينة يتكاثرون كما يتكاثر بعض فصائل الحيوان؟
ولماذا كان من المهاجرين ثلاث مائة فرس، وهم سبع مائة رجل فقط، وكان من الأنصار خمس مائة فرس وهم أربعة آلاف؟
فهل كان المهاجرون أكثر مالاً من الأنصار؟
وكيف حصلوا على هذه الثروات، ولم يحصل الأنصار على مثلها؟! وهم يعيشون في بلد واحد، ويجاهدون عدوهم معهم. مع كون المهاجرين قد قدموا إلى المدينة بدون أموال، حتى تكفل الأنصار بهم، وشاركوهم في أموالهم وبيوتهم؟!
أم أن المهاجرين كانوا مهتمين بأمر الجهاد أكثر من الأنصار؟!
ويلاحظ: أن هذه النسبة من الأفراس مع المهاجرين قد بقيت متفوقة فيهم على جميع الفئات والقبائل الأخرى.. إذ لا مجال للمقايسة بينهم وبين جهينة، التي كانت ثمان مائة، ومعها خمسون فرساً فقط.. وكانت أسلم أربع مائة، ومعها ثلاثون فرساً فقط.. وكانت مزينة ألفاً وفيها مائة فرس فقط..
فما هذا التفاوت بين المهاجرين وكل هذه الفئات؟!
ألا يشير ذلك إلى أن هذه كانت أرقاماً سياسية، وليست واقعية؟!
لا يزال المقصد مجهولاً:
وقالوا: لما نزل رسول الله «صلى الله عليه وآله» العرج، والناس لا يدرون أين توجه «صلى الله عليه وآله»، إلى قريش، أو إلى هوازن، أو إلى ثقيف. فهم يحبون أن يعلموا.
فجلس في أصحابه بالعرج، وهو يتحدث، فقال: كعب بن مالك: آتي رسول الله «صلى الله عليه وآله» فأعلم لكم علم وجهه.
فجاء كعب بن مالك فبرك بين يدي رسول الله «صلى الله عليه وآله» على ركبتيه، ثم قال:
قضـيـنـا من تهـامـة كــل ريـب وخـيـبر ثـم أحمـيـنــا الـسـيـوفـا
نسائلهـا ولـو نطقـت لقـالـــت قـواضـبـهـن دوسـا أو ثـقـيـفــا
فلسـت بحـاضـر إن لم تـروهــا بـسـاحــة داركـم مـنـهـا ألـوفـا
فـنـنـتـزع الخــيـام بـبـطـن وج ونـترك دوركـم مـنـهـا خـلـوفـا
فتبسم رسول الله «صلى الله عليه وآله» ولم يزد على ذلك.
فجعل الناس يقولون: والله ما بين لك رسول الله «صلى الله عليه وآله» شيئاً، ما ندري بمن يبدأ بقريش، أو ثقيف، أو هوازن؟!([15]).
وكان عيينة بن حصن في أهله بنجد، فأتاه الخبر: أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» يريد وجهاً، وقد تجمعت العرب إليه، فخرج في نفر من قومه حتى قدم المدينة، فوجد أنه «صلى الله عليه وآله» قد خرج قبله بيومين.. فسلك يسأل عن مسيره، فبلغ إلى العرج، ثم وصل النبي «صلى الله عليه وآله» بعده إلى هناك..
فقال عيينة: يا رسول الله، بلغني خروجك، ومن يجتمع إليك، فأقبلت سريعاً ولم أشعر، فأجمع قومي، فيكون لنا جلبة كثيرة. ولست أرى هيأة الحرب، ولا أرى ألوية ولا رايات! فالعمرة تريد؟ فلا أرى هيأة الإحرام! فأين وجهك يا رسول الله؟!
قال: حيث يشاء الله.
وذهب وسار معه. ووجد الأقرع بن حابس بالسقيا في عشرة من قومه. فساروا معه، فلما نزل قديداً عقد الألوية، وجعل الرايات.
فلما رأى عيينة القبائل تأخذ الرايات والألوية عض على أنامله، فقال أبو بكر: علام تندم؟
قال: على قومي ألا يكونوا نفروا مع محمد. فأين يريد محمد يا أبا بكر؟
قال: حيث يشاء الله.
فدخل رسول الله «صلى الله عليه وآله» مكة يومئذٍ بين الأقرع وعيينة([16]).
وذكر الواقدي: أنه لما نزل «صلى الله عليه وآله» قديداً لقيته سليم، وهم تسعمائة على الخيول جميعاً، مع كل رجل منهم رمحه وسلاحه.
ويقال: إنهم ألف([17]).
فقالت سُليم: يا رسول الله، إنك تقصينا، وتستغشُّنا، ونحن أخوالك ـ أم هاشم بن عبد مناف، عاتكة بنت مرة، بن هلال، بن فالح، بن ذكوان، من بني سليم ـ فقدمنا يا رسول الله حتى تنظر كيف بلاؤنا، فإنَّا صُبُرٌ عند الحرب، صُدُقٌ عند اللقاء، فرسان على متون الخيل.
قال: ومعهم لواءان وخمس رايات، والرايات سود.
فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: سيروا! فجعلهم في مقدمته.
وكان خالد بن الوليد مقدمة النبي «صلى الله عليه وآله» حين لقيته بنو سليم بقديد، حتى نزلوا مر الظهران وبنو سليم معه.
ويقال: إنهم قد طووا ألويتهم وراياتهم، وليس معهم لواء ولا راية معقودة.
فقالوا: يا رسول الله، اعقد لنا وضع رايتنا حيث رأيت.
فقال: يحمل رايتكم اليوم من كان يحملها في الجاهلية!
ونادى عيينة بن حصن، فقال: أنا عُيَيْنة، هذه بنو سُلَيْم قد حضرت بما ترى من العدّة والعَدَد والسّلاح، وإنّهم لأحلاس الخيل، ورجال الحرب، ورماة الحدق.
فقال العباس بن مَرْدَاس: أقصر أيها الرجل، فوالله إنك لتعلم أنّا أفرس على متون الخيل، وأطعن بالقنا، وأضرب بالمشرفية منك ومن قومك، فقال عُيَيْنة : كذبتَ ولؤمتَ، نحن أولى بما ذكر منك، قد عرفته لنا العرب قاطبة.
فأومأ إليهما النبي «صلى الله عليه وآله» بيده حتى سكتا .
ونقول:
إن علينا أن نشير هنا إلى الأمور التالية:
توضيح عن المقدمة:
قد يُتَوَهَّم: أن النص المتقدم قد ذكر أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد جعل بني سُليم في مقدمته، مع أنهم يقولون: إن الذي كان على المقدمة إلى أن دخل النبي «صلى الله عليه وآله» مكة هو خالد بن الوليد، وهذا لا يتلاءم مع ذاك.
ويزول هذا التوهم بالكامل في النص المذكور آنفاً، حيث قال: إنه «صلى الله عليه وآله» قد جعل بني سليم في مقدمته، أي أنه قد ضمهم إلى الرجال الذين كانوا بقيادة خالد، فصار خالد أميراً على المجموع، وبما أنه كان لكل قبيلة حامل لوائها، فقد حمله عيينة بن حصن.
إلى أين يا رسول الله؟!:
إن الإنسان مهما كان دينه، وأيَّاً كانت ميوله لَيَقف خاشعاً أمام عظمة رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ومبهوراً وعاجزاً عن إدراك دقة تدبيره، مذعناً لصوابية كل حركة وكل سكون، وكل لفتة، وإشارة و.. و..
وبديهي: أن الناس إذا أدركوا أن ثمة حرصاً على إخفاء شيء، فإنهم يجهدون لاستكناه حقيقته، والوقوف على واقعه، واستشراف دقائقه وتفاصيله.
فإذا كانت ألوف من الناس تلاحق هذا الأمر، وتبحث عنه، وتريد كشفه، والوقوف على كنهه بكل حرص واندفاع.
وإذا كان هذا الأمر يعنيهم كلهم أفراداً وجماعات.
وإذا كان يفترض فيهم هم أن يشاركوا في صنع نفس هذا الحدث..
وإذا كانت قد بدأت بعض التسريبات تظهر منذ اللحظة الأولى التي تفوَّه الرسول «صلى الله عليه وآله» فيها بأنه يريد سفراً، حيث قال لعائشة: «جهزينا، وأخفي أمرك».
ثم جرى بين عائشة وأبيها، ثم بين أبي بكر ورسول الله «صلى الله عليه وآله» ما قدمناه فيما سبق.
وإذا كانت هذه التسريبات قد دعت النبي بَدْأً إلى التحفظ على مسالك المدينة في سهولها وجبالها، ووضع الحرس عليها، وضبطها.
وإذا كانت الاحتمالات والتكهنات بدأت تؤتي ثمارها على شكل رسائل تحذير لقريش، حيث تجلى ذلك في قصة حاطب بن أبي بلتعة.
وإذا كانت قصة حاطب قد انتهت على ذلك النحو المثير لكل الناس الذين حضروا وشاهدوا أو سمعوا بما جرى، حيث نودي بالناس: «الصلاة جامعة»، فاجتمعوا في المسجد، ثم كان ما كان..
وإذا كان عشرة آلاف مقاتل قد بدأوا يتحركون باتجاه المقصد..
وإذا كانوا قد ساروا أياماً وليالي عديدة نحوه..
فإننا لابد أن نتوقع: أن الأمور قد اتضحت لكل أحد، وأسفر الصبح لذي عينين..
ولكن المفاجأة الهائلة والعظيمة هي: أن تسير هذه الألوف المؤلفة على هيأتها ووفق ما هو مرسوم في تدبير الجيوش، وفي كيفية سيرها نحو العدو، حيث الطلائع تقدم، تبث الأرصاد.. وتؤخذ عيون العدو، ويستفاد من المعلومات التي لديها، ثم يحتفظ بهم للوقت المناسب..
إن المفاجأة هي: أن هذا الجيش يسير باتجاه مقصده، ويصل إلى قديد (وهي قرية جامعة قريب مكة)([18])، ولا يزال يجهل الجهة التي يقصدها، والفئة التي سيناجزها القتال.
رغم أن محاولات بذلت في السقيا لاستنطاق رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ولكنها تبوء بالفشل..
فهل يمكن أن نضع هذا الإنجاز في مجال الاستطلاع والحفاظ على السرية إلا في عداد المعجزات، وخوارق العادات، التي لا يقدر عليها إلا نبي، أو وصي نبي؟!
لا بد من جواب:
ويبقى أن نشير إلى أن كل هذا الذي ذكرناه لا يعفينا من الإجابة على سؤال: كيف لنا أن نتصور جمعاً يزيد على عشرة آلاف مقاتل، يجتمعون من مختلف البلاد والقبائل، ويسيرون أياماً وليالي إلى أن يصلوا إلى قديد، ثم لا يعرفون مقصدهم، ويستمر جهلهم بوجهة سيرهم، وبحقيقة العدو الذي يقصدونه..
ويمكن أن نجيب على ذلك: بأن بعض النصوص المتقدمة قد صرحت: بأن الناس كانوا متحيرين بين ثلاثة احتمالات، هي: مكة، وثقيف، وهوازن.
وهذه الخيارات كلها تحتاج لمثل هذا الجمع العظيم من المقاتلين. كما أنها كلها تقع في منطقة واحدة، وفي أمكنة متقاربة، والطريق من المدينة إليها هي نفس هذه الطريق التي سلكها «صلى الله عليه وآله» إلى قديد. وإنما تتميز الطرقات إلى تلك المناطق بدءاً من سرف، التي كانت تبعد عن مكة أميالاً يسيرة([19]).
وربما يكون من أسباب تعزيز احتمال أن يكون القصد إلى هوازن، وصرف نظر الناس عن مكة: أنه «صلى الله عليه وآله» قد أخذ عيناً لهوازن، فأقر له أنهم يجمعون الجموع لحربه؛ فيأمر خالداً بحبس ذلك العين، خوفاً من أن يذهب ويحذِّر الناس([20]).
حيث يشاء الله:
وقد أظهرت قضية كعب بن مالك، وتوسله بالشعر في محاولة معرفة الوجه الذي يريده النبي«صلى الله عليه وآله» في سفره ذاك أظهرت مدى اهتمام الناس بمعرفة هذا الأمر.. رغم أن كعباً لم يفلح في استخراج السر من النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله».
والذي زاد في حيرتهم: أنه «صلى الله عليه وآله» لم يخرج بهذه الألوف على هيئة الحرب، فهو لم يعقد ألوية، ولا رفع رايات، ولا رتب هذا الجيش العرمرم ترتيباً قتالياً..
ولكنه كان يرسل الطلائع.. ويأخذ رصد هوازن الذي وجده في طريقه، ويستجوبه، ثم يأمر بحبسه، ولا يتركه يرجع إلى من وراءه لينذرهم به..
ومن جهة ثانية: فإنه «صلى الله عليه وآله» لم يخرج على هيئة من يريد العمرة، فلم يحرم ولم يسق البدن كما فعل في الحديبية، وعمرة القضاء..
وهذا معناه: أنه لا يقصد مكة في مسيره ذاك..
ويسأله عيينة بن حصن عن مقصده في مسيره، ويصرح له بحيرته في الأمر، فيجيبه «صلى الله عليه وآله» بقوله: حيث يشاء الله.
بل إنه «صلى الله عليه وآله» حتى حين بلغ قديداً، وعقد الرايات والألوية، وعرف عيينة وغيره أن المهمة قتالية، وليست شيئاً آخر.. قد أبقاه في حيرة من أمره، فسأل أبا بكر: فأين يريد محمد يا أبا بكر؟!.
قال: حيث يشاء الله([21]).
وهي إجابة واقعية، إذ لم يكن المسؤول بأعلم من السائل، فإن أبا بكر أيضاً لم يكن يعلم بمقصد رسول الله «صلى الله عليه وآله».. ولعل الناس قد بقوا على ترددهم حتى وصلوا إلى مر الظهران، وأخذوا أبا سفيان ومن معه.
إستنفار العرب:
قد ذكرنا فيما سبق: أن الظاهر هو: أنه «صلى الله عليه وآله» قد استنفر العرب إلى مكة، مسلمهم وكافرهم..
وقد يمكن الإستشهاد على ذلك بالنص المتقدم الذي يقول: إن عيينة بن حصن قد سمع ـ وهو بنجد ـ : أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» يريد وجهاً، وقد تجمعت العرب إليه..
فعبارة تجمعت العرب إليه، يشير إلى أن هذا التجمع قد شمل المسلم وغيره.
ولعل استنفار النبي «صلى الله عليه وآله» للعرب قد أفهمهم: أن ثمة أمراً خطيراً لابد لهم من مواجهته، كذلك الذي جرى في غزوة مؤتة..
وقد أشرنا إلى ذلك فيما سبق.
وربما يكون مجيء عيينة بن حصن بمجرد سماعه بالأمر شاهداً آخر على ذلك..
سُليم تريد الحظوة عند النبي :
وقد ظهر من كلام بني سليم: أنهم كانوا يسعون لتكون لهم الحظوة عند النبي «صلى الله عليه وآله»، ويريدون الفوز بثقته من خلال أفعالهم ومواقفهم المؤثرة التي تشهد لهم بصحة ما يدَّعونه.
وقد صرحوا في كلامهم: بأن النبي «صلى الله عليه وآله» كان يستغشهم ويقصيهم، رغم أنهم أخواله، بسبب عاتكة بنت مرة، فإنها أم هاشم بن عبد مناف..
ولا يمكن الأخذ بظاهر كلامهم هذا إلا بتقدير: أن يكون «صلى الله عليه وآله» قد رأى في تصرفات بني سُليم غشاً يوجب الإقصاء والحذر، فإن هذا هو مقتضى الحزم.
كما أنه لا بد من ملاحظة: أن هذا الإقصاء لم يتخذ أسلوب التنفير، المؤسس للكره، وللعقدة، بل كان إقصاءً يدعوهم إلى مراجعة حساباتهم، ويزيد من رغبتهم في إصلاح أمرهم معه «صلى الله عليه وآله». حتى إنهم لينفرون إليه حين يستنفر العرب، وهم مصممون على أن يزيلوا هذه الصبغة عن أنفسهم، بأفعالهم قبل أقوالهم..
وقد أفسح لهم النبي «صلى الله عليه وآله» المجال للوفاء بتعهداتهم، حيث جعلهم مقدمة له.. كما صرحت به الرواية.
وقد أظهروا بعضاً من الأدب مع رسول الله «صلى الله عليه وآله» حين طووا ألويتهم، وطلبوا منه «صلى الله عليه وآله» أن يعقدها لهم، وأن يضعها حيث يشاء..
فجعل عليهم عيينة بن حصن كما تقدم..
الفصل السادس: على طريق مكة
- الزيارات: 192