• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الفصل الرابع: منزل الرسول وجوار أم هاني

أين نزل النبي في مكة؟!:

روي عن ابن عباس أنه قال: دخل رسول الله «صلى الله عليه وآله» مكة يوم الإثنين([1]).
وعن أبي جعفر قال: كان أبو رافع قد ضرب لرسول الله «صلى الله عليه وآله» قبة بالحجون (أي عند شعب أبي طالب) من أدم، فأقبل رسول الله «صلى الله عليه وآله» حتى انتهى إلى القبة، ومعه أم سلمة، وميمونة زوجتاه([2]).
وعن أسامة بن زيد أنه قال: يا رسول الله! أنَّى تنزل غداً؟ تنزل في دارك؟
قال: «وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دار»؟
وكان عقيل ورث أبا طالب هو وأخوه طالب، ولم يرثه جعفر ولا علي، لأنهما كانا مسلمين، وكان عقيل وطالب كافرين، أسلم عقيل بعد([3]).
وعن أبي هريرة: أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قال: «منزلنا إن شاء الله تعالى ـ إذا فتح الله ـ بخيف بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر».
يعني بذلك: المحصب.
وذلك أن قريشاً وكنانة تحالفت على بني هاشم وبني المطلب أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم رسول الله «صلى الله عليه وآله»([4]).
وعن أبي رافع قال: قيل للنبي «صلى الله عليه وآله»: ألا تنزل منزلك من الشعب؟
فقال: «وهل ترك لنا عقيل منزلاً»؟
وكان عقيل قد باع منزل رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ومنزل إخوته من الرجال والنساء بمكة، فقيل لرسول الله «صلى الله عليه وآله»: فانزل في بعض بيوت مكة غير منازلك.
فأبى رسول الله «صلى الله عليه وآله» وقال: «لا أدخل البيوت».
ولم يزل رسول الله «صلى الله عليه وآله» مضطرباً بالحجون لم يدخل بيتاً، وكان يأتي المسجد لكل صلاة من الحجون([5]).
وعن عطاء: لما هاجر رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى المدينة لم يدخل بيوت مكة، فاضطرب بالأبطح، في عمرة القضية، وعام الفتح، وفي حجته([6]).

هذا منزلنا يا جابر:

عن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: كنت ممن لزم رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فدخلت معه يوم الفتح، فلما أشرف رسول الله «صلى الله عليه وآله» من أذاخر، ورأى بيوت مكة، وقف عليها، فحمد الله وأثنى عليه، ونظر إلى موضع قبته، فقال:
«هذا منزلنا يا جابر، حيث تقاسمت قريش علينا في كفرها».
قال جابر: فذكرت حديثاً كنت سمعته منه قبل ذلك بالمدينة: « منزلنا إذا فتح الله علينا مكة في خيف بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر».
وكنا بالأبطح، وجاه شعب أبي طالب، حيث حصر رسول الله «صلى الله عليه وآله» وبنو هاشم ثلاث سنين([7]).
ونقول:
إننا هنا نشير إلى الأمور التالية:

الحكمة في اختيار موضع النزول:

قال الصالحي الشامي:
«الحكمة في نزول النبي «صلى الله عليه وآله» بخيف بني كنانة، الذي تقاسموا فيه على الشرك، أي تحالفوا فيه على إخراج النبي «صلى الله عليه وآله» وبني هاشم إلى شعب أبي طالب، وحصروا بني هاشم وبني المطلب فيه، كما تقدم ذلك في أبواب البعثة، ليتذكر ما كان فيه من الشدة، فيشكر الله تعالى على ما أنعم عليه من الفتح العظيم، وتمكنه من دخول مكة ظاهراً على رغم من سعى في إخراجه منها، ومبالغة في الصفح عن الذين أساؤوا، ومقابلتهم بالمن والإحسان، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء»([8]).
غير أننا نقول:
إن الأمر لا يقتصر على ما ذكر آنفاً، فهناك أمور أخرى نشير إليها في الفقرات التالية:

النبي يصل الماضي بالحاضر:

قد عرفنا فيما سبق: أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قد نزل في نفس الموقع الذي حصره فيه أهل الكفر هو وسائر بني هاشم، حينما تظاهروا عليه وعليهم بالإثم والعدوان، وقد مكثوا فيه حوالي ثلاث سنوات يقاسون الآلام، ولا يقدرون على الاتصال بأحد من الناس، إلا خفية، وقد مُنِعَ الناس من إقامة أية صلة بهم، حتى صلة البيع والشراء لأبسط الأشياء، فضلاً عن منعهم الناس من مجالستهم، ومن التزوج منهم، والتزويج إليهم، وما إلى ذلك.
وها هو «صلى الله عليه وآله» قد عاد إلى مكة، ومعه أكثر من عشرة آلاف مقاتل.. وأصبح محاصروه بالأمس هم أسراه، وطبيعي أن يتوقعوا محاصرتهم من قبله، جزاءً لهم على ما كسبت أيديهم.
نعم، لقد أصبح من لم يكن أحد يجرؤ على الاقتراب منه، أو يقيم معه أية صلة ولو عابرة، موضع الحفاوة والتكريم، والتبجيل والتعظيم، ويتلهف الناس للاقتراب منه، والتماس البركة به، وبكل شيء ينسب إليه، ويتمنون أن تشملهم منه نظرة أو لفتة، حتى لو كانت عابرة..
بل إن أعداءه بالأمس، الذين تشهد تلك الشعاب التي نزل فيها على شدة ظلمهم له، وبغيهم عليه، يتوافدون إليه في نفس المكان الذي اضطهدوه فيه بالأمس، لتقديم فروض الولاء، والتفنن فيما يزجونه إليه من مدح وثناء. فيتذكرون ما ارتكبوه في حقه، وفي حق الشيوخ والأطفال والنساء من صحبه وأهله، فهل يخجلون من أنفسهم؟! أو هل يندمون؟! وهل يتوبون إلى الله ويستغفرون؟!
وهل يفيدهم ذلك في إعادة النظر والمقارنة بين ما كانوا عليه، وما آلت أمورهم إليه؟! فيضعون الأمور في نصابها، ويتأكد لديهم أن الله هو الراعي، والحامي، والمدبر لنبيه، والمعين والناصر لعباده وأوليائه..

أين نزل رسول الله ؟!:

وقال الصالحي الشامي أيضاً:
«لا مخالفة بين حديث نزوله «صلى الله عليه وآله» بالمحصب، وبين حديث أم هانئ: أنه «صلى الله عليه وآله» نزل في بيت أم هانئ. لأنه «صلى الله عليه وآله» لم يقم في بيت أم هانئ، وإنما نزل به حتى اغتسل وصلى، ثم رجع إلى حيث ضربت خيمته عند شعب أبي طالب. وهو المكان الذي حصرت فيه قريش المسلمين قبل الهجرة كما تقدم»([9]).

إرث عقيل لأبي طالب دون علي وجعفر:

وعن إرث عقيل لأبي طالب دون علي وجعفر نقول:
إن هذا الكلام لا يمكن أن يصح:
أولاً: لأننا قدمنا في هذا الكتاب الكثير الكثير من الدلائل والشواهد على إيمان أبي طالب «عليه السلام».. وقد كتب في إثبات إيمانه عشرات المؤلفات، بأقلام العلماء من السنة والشيعة، بالإضافة إلى بحوث كثيرة جداً كتبت حول هذا الموضوع.
ثانياً: إن المسلم يرث الكافر بلا ريب، ولكن الكافر لا يرث المسلم، فعلي «عليه السلام» يرث أبا طالب، لأنهما كانا مسلمين، ولا يرثه عقيل لأنه كان كافراً حين موت أبي طالب المؤمن.. فراجع كتابنا: «ظلامة أبي طالب»، ففيه بعض ما يفيد في هذا المجال.
إن قلتَ: لعلهم قد جروا في هذا الإرث على أحكام الجاهلية وقوانينها..
قلتُ:
ألف: إن الذين ذكروا هذا الأمر لا يقصدون بكلامهم أحكام الجاهلية.
ب: لم يكن لأهل الجاهلية أحكام وقوانين في هذا الأمر، بل كان هناك ظلمٌ وتعدٍ على المؤمنين، فلو فرضنا: أن عقيلاً كان قوياً بحيث استطاع أخذ أموال النبي «صلى الله عليه وآله» وعلي وجعفر «عليهما السلام»، فهل كان قوياً إلى حد أنه يأخذ حصة أخواته وأخيه طالب، الذين لم يكونوا قد أسلموا بعد، حسب قول هؤلاء الرواة؟!
ولماذا رضي سائر أقارب النبي «صلى الله عليه وآله» وعلي وجعفر «عليهما السلام» بتسلط خصوص عقيل على أموال أبيه، وعلى أموال ابن عمه ـ أعني رسول الله «صلى الله عليه وآله» ـ دونهم.
ثالثاً: إن عقيلاً لم يبع خصوص ما ورثه هو من أبيه، بل باع أيضاً منزل رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ومنزل إخوته من الرجال والنساء، كما صرحت به النصوص المتقدمة.
فإن كان علي وجعفر «عليهما السلام» قد أسلما، وسلمنا جدلاً أنهما لا يرثان ـ وسلمنا على مضض أيضاً بموت أبي طالب على الشرك ـ فإن رسول الله «صلى الله عليه وآله» لم يكن من ورثة أبي طالب.. فلماذا يبيع عقيل أملاكه، ولماذا رضي العباس من عقيل بأن يفعل ذلك، والعباس أقرب إلى النبي «صلى الله عليه وآله» منه، فكيف لم يعترض عليه؟!
كما أن أم هاني أخت علي «عليه السلام» كانت هي وأخواتها ـ كما يزعمون ـ على الشرك أيضاً، فلماذا باع عقيل منزلها ومنازل ورباع أخواتها؟! ولماذا باع منزل طالب أيضاً؟!
فلماذا لم يمنعوه من إتمام هذا البيع، ولماذا تركوا أهل مكة يشترون من هذا البائع ما ليس له؟!
رابعاً: كان بإمكان النبي «صلى الله عليه وآله» أن ينزل في أحد بيوت مكة على سبيل العارية، أو الشراء، فلماذا لم يفعل ذلك؟!
بل لقد كان يمكنه أن ينزل في بيت عمه العباس، أو في أي بيت آخر من بيوت المؤمنين الذين كانوا في مكة، وما أكثرهم!! وسيدخل ذلك عليهم السرور بلا ريب.
وقد نزل على أبي أيوب حين هاجر «صلى الله عليه وآله» إلى المدينة مدة شهر أو أشهر أو سنة.
خامساً: إن قول الرسول «صلى الله عليه وآله»: «لا أدخل البيوت» ثم لم يدخل بيتاً أبداً لا في عمرة القضاء، ولا في عام الفتح، ولا في حجة الوداع، يشير إلى أن الأمر ليس لأجل عدم وجود بيت ينزل فيه، بل هو يتعدى ذلك ليكون قراراً إلهياً نبوياً، وقد بدا بمثابة قاعدة يلتزم بها..
وأما دخوله بيت أم هاني فلم يكن دخول سكنى، بل دخول تكريم لها ولأخيها علي «عليه السلام».

الإخبار بالغيب عن موضع نزوله :

إن الحديث المتقدم عن اختيار موضع نزوله «صلى الله عليه وآله» في مكة يدل على أن القرار بذلك لم يكن وليد ساعته، بل يدخل ضمن خطة كانت قد رسمت منذ وقت طويل، حيث إنه «صلى الله عليه وآله» كان قد أخبر جابراً بذلك في المدينة، قبل مدة، فلما سمعه جابر يذكر ذلك في مكة تذكَّر ما كان في المدينة.
وإذا كان «صلى الله عليه وآله» لا ينطق عن الهوى، ولا يفعل إلا ما يريده الله سبحانه، ويرضاه، فالنتيجة هي أن ذلك لا بد من أن يكون من مفردات السياسة الإلهية في تربية أهل الإيمان، وتقديم العبر والعظات للناس جميعاً، مؤمنهم وكافرهم، فيقيم الحجة على الكافر ليكبته بها، ويرسخ يقين المؤمن ليسعده به، ويبعث فيه نفحة أخرى من الوعي للحقائق ويثبِّته بالقول الثابت والصادق.

لا ينزل النبي بيوت مكة:

كأن هؤلاء الناس حين يذكرون امتناع النبي «صلى الله عليه وآله» عن النزول في بيوت مكة، يريدون الإيحاء بأن السبب في ذلك: أنه لم يكن له «صلى الله عليه وآله» بيت ينزل فيه، لأن عقيلاً كان قد باع الرباع والمنازل.
والحقيقة هي: أن هذا يدخل في سياق تزوير الحقائق الذي طالما شاهدناه في المواضع المختلفة.. إذ عدم وجود بيت يملكه النبي «صلى الله عليه وآله» لا يعني أن يتخذ قراراً بعدم دخول أي بيت من بيوت مكة، ولو كضيف على عمه العباس إن لم يكن يريد شراء بيت فيها.. تماماً كما جرى له «صلى الله عليه وآله» حينما هاجر إلى المدينة، فإنه نزل على أبي أيوب الأنصاري.. وبقي عنده شهراً، أو سبعة أشهر، أو سنة([10]).
ولنفترض: أن عقيلاً قد باع البيوت، لكن أم هاني كان لها بيت تسكن فيه، وبيت عمه العباس لا يزال على حاله، ولم يبعه عقيل، وكذلك بيوت سائر بني هاشم. ألم يكن يمكنه أن ينزل في أحدها؟! ألم يكن العباس وغيره من المؤمنين الذين كانوا في مكة، وما أكثرهم، في غاية اللهفة لنيل هذا الشرف العظيم؟! وهو نزول النبي «صلى الله عليه وآله» في بيوتهم، وإذا كان «صلى الله عليه وآله» قد أكرم أم هاني، فأكل عندها.. فلماذا لا يكرمها بالنزول في بيتها أياماً يسيرة؟!
فإن كانت لا تزال على شركها، ولا يريد أن تكون لها منة عليه، فلماذا أكل وصلى واغتسل عندها؟!([11]) ألا يدل ذلك على أنها كانت مسلمة؟!
والخلاصة: إن ذلك كله يدل على أن ما يذكرونه من الاستناد إلى ما فعله عقيل من بيع البيوت والرباع لم يكن هو السبب في اتخاذ هذا القرار.

النبي لا يدخل دور مكة:

وفي سياق آخر نقول:
بالنسبة لما تقدم: من أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» لا يدخل دور مكة، لا في الفتح ولا في عمرة القضاء، ولا في حجة الوداع: فقد روي عن الإمام الصادق «عليه السلام» أنه كره المقام بمكة، وذلك أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» أُخرج عنها، والمقيم بها يقسو قلبه([12]).
وروي أيضاً عن الإمام الصادق «عليه السلام» أنه قال: «إذا قضى أحدكم نسكه فليركب راحلته، وليلحق بأهله، فإن المقام بمكة يقسي القلب»([13]).
وعن الإمام الصادق «عليه السلام»: أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» نهى أهل مكة أن يؤاجروا دورهم، وأن يعلقوا عليها أبواباً. وقال: {سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ}([14]).
وفي حديث آخر: لم يكن ينبغي أن يصنع على دور مكة أبواباً، لأن للحاج أن ينزل في دورهم في ساحة الدار، حتى يقضوا مناسكهم.
وإن أول من جعل لدور مكة أبواباً معاوية»([15]).
وعن جعفر بن عقبة، عن أبي الحسن الرضا «عليه السلام»: إن علياً «عليه السلام» لم يبت بمكة بعد أن هاجر منها حتى قبضه الله عز وجل إليه.
قال: قلت: ولم ذلك؟
قال: يكره أن يبيت بأرض هاجر منها رسول الله «صلى الله عليه وآله». وكان يصلي العصر ويخرج منها ويبيت بغيرها([16]).
ولسنا بحاجة إلى التذكير: بأن امتناع رسول الله «صلى الله عليه وآله» من المبيت بمكة لم يكن استجابة لحنق شخصي فرض عليه هذا القرار، بل هو ـ كما أشرنا إليه ـ قرار يرضاه الله ويريده، وهو من مظاهر طاعة الله سبحانه.. وقد كان «صلى الله عليه وآله» قد ذكر هذا القرار وهو في المدينة قبل الفتح، وقد ذكره مرة أخرى في مكة..
وفي جميع الأحوال نقول:
إن التحدي الذي واجهه الرسول الأكرم «صلى الله عليه وآله» لم يكن لشخصه، إنما هو لنبوته ولرسوليته، ولذلك أُخرج من مكة.
وحين فتح مكة، فإن أهلها انقادوا له لأنه قوي، لا مجال لمقاومته، ولم تقبل قلوبهم نبوته ورسوليته، إلا على سبيل الإقرار اللساني.. ولذلك احتاج إلى أن يتألفهم على هذا الدين، ويصبر على الكثير من الأذايا والبلايا التي أوصلوها إليه بنحو أو بآخر. وكان كثير منهم يتخذ سبيل النفاق، فهو يظهر الإسلام، ثم يكيد له ولأهله الحقيقيين المخلصين.
أي أن محمداً «صلى الله عليه وآله» كرسول، لم يدخل مكة بعد.. بل ما جرى هو مجرد نسيم هب على مكة، لا بد من العمل على أن يتحول إلى ريح تقل سحاباً ثقالاً بماء الحق والصدق الذي ينعش الأرواح، وتحيا به النفوس..
فدخول النبي «صلى الله عليه وآله» إلى منازل يستولي عليها أولئك الذين حاربوه لربما يستتبع الكثير من التخمينات والحيثيات التي تثير مخاوف أهل مكة وشكوكهم، ولكنه إذا لم يدخل منزلاً، واكتفى بخيمة تنصب له، فإن ذلك سوف يطمئنهم إلى أن هذا النبي «صلى الله عليه وآله» لا يريد المقام في البلاد ولا يرغب في الهيمنة على العباد، وإنما يريد أن يفسح الطريق أمام الناس للتعرف على الإسلام، وأن يمنع أعداءه من التعرض له بفنون من المكر والكيد ليمنعوه من الوصول إلى العقول والقلوب..
إنه لا يريد أموالاً، ولا بلاداً، ولا داراً، ولا عقاراً، بل يريد لهم العيش الرغيد والسعيد في بلادهم وديارهم، وبين أهلهم، فهو حتى في أحرج ساعة تواجههم، يقدم لهم الدليل تلو الدليل على أنه لا مطمع له بشيء من دنياهم، وأنه يتعامل معهم بالإنصاف، وبالرحمة، والإيثار، لا بمنطق المنتصر الحانق الذي يتعامل بالنقمة، ويريد أخذ الثار.

تكريم النبي لأم هاني:

عن ابن عباس قال: إن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قال لأم هانئ يوم الفتح: «هل عندك من طعام نأكله»؟
قالت: ليس عندي إلا كسر يابسة، وإني لأستحي أن أقدمها إليك.
فقال: «هلمِّي بهنّ» فكسَّرهنَّ في ماء.
وجاءت بملح فقال: «هل من أدم»؟.
فقالت: ما عندي يا رسول الله إلا شيء من خل.
فقال: «هلميه»، فصبَّه على الطعام، وأكل منه، ثم حمد الله، ثم قال: «نعم الأدم الخلّ، يا أم هانئ لا يفقر بيت من أدمٍ فيه خلّ»([17]).
ونقول:
ما أروع وأجمل هذا التكريم النبوي العفوي، وما أجلّ هذه المبادرة للإعلان عن صافي المودة، وجميل الوفاء والإخاء لامرأة فاضلة ونبيلة، يريد أن يعلن للناس كلهم، وللأجيال اللاحقة، بعظيم احترامه وتقديره لها ولفضلها ونبلها، فيخصها بشرف لم ينله أحد من رجالات مكة وعظمائها، فيدخل منزلها، ويصلي ويأكل عندها.. ويعاملها بعفوية ظاهرة، ومودة طافحة بالإجلال والتعظيم، والمودة والتكريم..
وقد تجلت وحدة الحال في قوله «صلى الله عليه وآله» لها: هل عندك من طعام نأكله؟!
ولم يكن لديها إلا كسر يابسة من خبز، وإلا شيء من خلٍّ، جعله «صلى الله عليه وآله» إداماً.. ثم أثنى على هذا الإدام، وبيَّن أن له قيمة كامنة في عمق ذاته، فقال: «نعم الإدام الخل».
ثم شفع ذلك ببشارة نبوية، من شأنها أن تدخل السرور والرضا على قلب هذه المرأة الجليلة، فقال: «يا أم هاني، لا يفقر بيت من أدم فيه خلّ».

علي وأم هاني:

وفي الروايات حديث عن إجارة أم هاني لرجلين من المشركين، وقبول النبي «صلى الله عليه وآله» ذلك منها. ونحن نذكر أولاً هذه النصوص، ثم نشير إلى بعض ما يمكن أن يقال حولها، فنقول:
بلغ علياً «عليه السلام»: أن أم هاني بنت أبي طالب آوت ناساً من بني مخزوم، منهم: الحارث بن هشام، وقيس بن السائب، (وعند الواقدي عبد الله بن ربيعة)، فقصد «عليه السلام» نحو دارها مقنَّعاً بالحديد، فنادى: «أخرجوا من آويتم».
فجعلوا يذرقون كما تذرق الحبارى، خوفاً منه.
فخرجت إليه أم هانئ ـ وهي لا تعرفه ـ فقالت: يا عبد الله، أنا أم هانئ، بنت عمِّ رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وأخت علي بن أبي طالب، إنصرف عن داري.
فقال أمير المؤمنين «عليه السلام»: «أخرجوهم».
فقالت: والله لأشكونَّك إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله».
فنزع المغفر عن رأسه، فعرفته، فجاءت تشتد حتى التزمته، وقالت: فديتك، حلفت لأشكونك إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله».
فقال لها: «إذهبي، فبري قسمك، فإنه بأعلى الوادي».
قالت أم هانئ: فجئت إلى النبي «صلى الله عليه وآله» وهو في قبة يغتسل، وفاطمة «عليها السلام» تستره، فلما سمع رسول الله «صلى الله عليه وآله» كلامي، قال: «مرحباً بك يا أم هانئ وأهلاً».
قلت: بأبي أنت وأمي، أشكو إليك ما لقيت من علي «عليه السلام» اليوم.
فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: «قد أجرتُ من أجرتِ».
فقالت فاطمة «عليها السلام»: «إنما جئت يا أم هانئ تشتكين علياً «عليه السلام» في أنه أخاف أعداء الله وأعداء رسوله»؟!
فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: «قد شكر الله لعلي «عليه السلام» سعيه، وأجرتُ من أجارت أم هانئ، لمكانها من علي بن أبي طالب»([18]).
وعند الواقدي: أن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يكن حين تكلمت أم هانئ مع فاطمة «عليها السلام»..
ثم جاء رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فأجار لأم هاني من أجارت، ثم طلب من فاطمة «عليها السلام» أن تسكب له غسلاً، فاغتسل، ثم صلى ثمان ركعات([19]).
وعن الحارث بن هشام قال: لما دخل رسول الله «صلى الله عليه وآله» مكة، دخلت أنا وعبد الله بن أبي ربيعة دار أم هانئ، ثم ذكر: أن النبي «صلى الله عليه وآله» أجاز جوار أم هانئ.
قال: فانطلقنا، فأقمنا يومين، ثم خرجنا إلى منازلنا، فجلسنا بأفنيتها لا يعرض لنا أحد، وكنا نخاف عمر بن الخطاب، فوالله إني لجالس في ملاءة مورَّسة([20]) على بابي ما شعرت إلا بعمر بن الخطاب، فإذا معه عدة من المسلمين، فسلم ومضى.
وجعلت أستحي أن يراني رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وأذكر رؤيته إياي في كل موطن مع المشركين، ثم أذكر بره ورحمته وصلته، فألقاه وهو داخل المسجد، فلقيني بالبشر، فوقف حتى جئته فسلمت عليه، وشهدت بشهادة الحق، فقال: الحمد لله الذي هداك ، ما كان مثلك يجهل الإسلام.
قال الحارث: فوالله ما رأيت مثل الإسلام جُهل([21]).
وعن أم هانئ ـ رضي الله عنها ـ قالت: لما كان عام يوم الفتح فرَّ إليَّ رجلان من بني مخزوم فأجرتهما، قالت: فدخل عليَّ عليٌّ فقال: أقتلهما.
قالت: فلما سمعته يقول ذلك أغلقت عليهما باب بيتي، ثم أتيت رسول الله «صلى الله عليه وآله» وهو بأعلى مكة، فلما رآني رسول الله «صلى الله عليه وآله» رحَّب وقال: «ما جاء بك يا أم هانئ».
قالت: قلت: يا رسول الله، كنت أمنت رجلين من أحمائي، فأراد علي «عليه السلام» قتلهما.
فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: «قد أجرنا من أجرت».
ثم قام رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى غسله، فسترته فاطمة «عليها السلام»، ثم أخذ ثوباً فالتحف به، ثم صلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» ثمان ركعات سبحة الضحى ([22]).
لكن في الحلبية وغيرها: فوجدته يغتسل من جفنة فيها أثر العجين، وفاطمة ابنته تستره بثوب، فسلمت عليه، فقال: من هذه؟
إلى أن قال: وفي الرواية الأولى: فلما اغتسل أخذ ثوبه وتوشح به، ثم صلى ثماني ركعات من الضحى.
ثم أقبل علي، فقال: مرحباً يا أم هاني، ما جاء بك؟.
فأخبرته الحديث.
فقال: «أجرنا من أجرت الخ..» ([23]).
وقيل: إن الرجلين هما: الحارث بن هشام، وزهير بن أمية بن المغيرة([24]).
وعنهما: أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» اغتسل يوم فتح مكة في بيتها، وصلى ثمان ركعات، قالت: لم أره صلى صلاة أخف منها، غير أنه يتم ركوعها وسجودها([25]).
وأطلقوا على صلاته هذه اسم «صلاة الفتح». وكان الأمراء يصلونها إذا فتحوا بلداً. ولا يفصل بينهما. وتصلى بغير إمام.
قال السهيلي: ولا يجهر فيها بالقراءة([26]).
وسموها أيضاً صلاة الضحى، وصلاة الإشراق، وقد اختلفوا في أمرها بين منكر ومثبت. فراجع([27]).
وعن معاوية بن وهب، قال: لما كان يوم فتح مكة ضُربت على رسول الله «صلى الله عليه وآله» خيمة سوداء من شعر بالأبطح، ثم أفاض عليه الماء من جفنة يرى فيها أثر العجين، ثم تحرى القبلة ضحى، فركع ثمان ركعات، لم يركعهما رسول الله «صلى الله عليه وآله» قبل ذلك ولا بعد ([28]).
وأما الحديث عن أنها «رحمها الله» قد ذهبت إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» وهو بأعلى مكة، فوجدته يغتسل وفاطمة «عليها السلام» تستره([29]). ويؤيده ما روي عنها: من أن أبا ذر ستره لما اغتسل([30]). فيحمل على أن ذلك قد تكرر منه. ويحتمل أن يكون نزل في بيتها بأعلى مكة، وكانت هي في بيت آخر في مكة، فجاءت إليه فوجدته يغتسل الخ..([31]).
ونقول:
إننا نعلق على ما تقدم بما يلي:

الأمان.. والجوار:

تقدم: أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد اعلن بالأمان لأهل مكة، وعين مواضع يلجأ إليها المستأمنون، مثل: المسجد، ودار أبي سفيان، وراية أبي رويحة، وإلقاء السلاح، ودخول الإنسان داره وإغلاق بابه، وما إلى ذلك..
ولكننا نقرأ هنا: أن علياً «عليه السلام» يلاحق هذين الرجلين إلى دار أخته أم هاني ليقتلهما.
ونقرأ أيضاً: أن أم هاني قد أجارتهما، ولكن علياً «عليه السلام» لم يقتنع منها بذلك، حتى قبل رسول الله «صلى الله عليه وآله» نفسه جوارها..
فالإعلان السابق لا يشير إلى وجود حرب وقتال، بل هناك أمان وسلام.
وحادثة علي «عليه السلام» وأم هانئ تدل على: أن حالة الحرب كانت قائمة، وأن الحاكم هو أعرافها وقوانينها.. فكيف نوفق بين هاتين الحالتين المتخالفتين؟!
ويمكن أن نجيب بما يلي:
أولاً: لماذا لم يلجأ هذان الرجلان إلى أي من تلك المواضع التي حددها رسول الله «صلى الله عليه وآله» لطالبي الأمان؟!
ألا يدل ذلك: على أنهما كانا في حالة قتالية، احتاجا إلى الخروج منها إلى جوار أم هاني؟!
ثانياً: إننا نعرف مدى طاعة علي «عليه السلام» لأوامر رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ومدى دقته في تنفيذها مما جرى في خيبر، حيث قال له النبي «صلى الله عليه وآله»: اذهب ولا تلتفت.
فسار «عليه السلام» قليلاً ثم وقف ولم يلتفت، وسأل النبي «صلى الله عليه وآله»: علام أقاتلهم؟! الخ..([32]).
فملاحقته لهذين الرجلين يدل على: أنهما كانا محاربين، ويدل على ذلك أيضاً ثناء رسول الله «صلى الله عليه وآله» على علي «عليه السلام»: «قد شكر الله سعيه، وأجرت من أجارت أم هاني لمكانها من علي»([33]).
وعند الحلبي: «قد آمنا من آمنت، وأجرنا من أجرت، فلا نقتلهما»([34]).
ثم هو يقول: «فلا نقتلهما». وهو تعبير يشير إلى أن التصميم على قتلهما كان من قبل النبي «صلى الله عليه وآله» نفسه.

من الذين آوتهم أم هاني؟!:

ذكرت بعض الروايات: أن الرجلين اللذين آوتهما أم هاني هما الحارث بن هشام، وزهير بن أبي أمية.
وبعضها ذكرت: الحارث وعبد الله بن ربيعة.
وذكرت ثالثة: الحارث، وقيس بن السائب.
والظاهر: أنها «رحمها الله» آوت الجميع، وربما كان معهم غيرهم أيضاً وذلك لرواية الطبرسي المتقدمة، التي تقول: «آوت ناساً من بني مخزوم، منهم الحارث الخ..».

لقاء علي بأم هاني:

واللافت هنا: أن علياً «عليه السلام» يأتي إلى دار أخته مقنعاً بالحديد، ولا يعرِّف  أخته بنفسه في بادئ الأمر، ولكنه لا يقتحم الدار، ولعله لأنه لا يريد أن يروع أخته، بل ينادي من خارج الدار: أخرجوا من آويتم!!
فخرجت إليه أخته، فلم يبادر إلى تعريفها بنفسه، بل تركها تعرِّف هي بنفسها، بأنها بنت عم النبي «صلى الله عليه وآله»، وأخت علي «عليه السلام»، ثم تأمره بالانصراف عن دارها..
ولكن علياً «عليه السلام» لا يزال مصراً على موقفه، ويعيد النداء: أخرجوهم.
فلم تضعف، ولم تتراجع، بل قالت له: والله، لأشكونك إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله».
وفي هذه اللحظة ينزع علي «عليه السلام» المغفرة عن رأسه، فعرفته أخته، فجاءته تشتد حتى التزمته.
فنلاحظ: أن علياً «عليه السلام» قد أجرى الأمور على طبيعتها، وفي أية حالة أخرى، وفي أي بيت أو شخص آخر، وهو «عليه السلام» رغم أنه كان يواجه أخته لم يتراجع عن أداء واجبه الشرعي مراعاةً لها، أو انسياقاً مع عاطفته تجاهها، كما أنه أراد لها أن تبر بقسمها الذي أطلقته.
وهي ترى أنها محقة في إعطائها الأمان لأولئك المشركين فلم يمنعها من ممارسة حقها في الدفاع عنهما، بل كان هو الذي دلها على مكان رسول الله «صلى الله عليه وآله» بالتحديد، وطلب منها أن تذهب إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» وتشكوه عنده، ليأتي القرار بالعفو من مصدره الأساس، وهو رسول الله «صلى الله عليه وآله». وبذلك يسقط التكليف عن أمير المؤمنين بصورة تلقائية..

خوف الجبناء:

لقد أظهرت بعض الروايات المتقدمة: مدى خوف أولئك الظالمين من سيف عدل علي «عليه السلام»، رغم أن عددهم كان وافراً، حتى جعلوا يذرقون كما يذرق الحبارى خوفاً من رجل واحد، ولم يجرؤوا على الخروج إلى ساحة المواجهة؟
فبماذا قوي علي «عليه السلام» عليهم؟! أليس بإيمانه الراسخ بالله، واعتزازه وثقته بربه ودينه؟! وعزوفه عن زخارف هذه الدنيا؟! وطلبه لما عند الله الذي هو خير وأبقى؟!

لم تصرح أم هاني بما تطلب:

وفي رواية الطبرسي: أن أم هاني لم تصرح لرسول الله «صلى الله عليه وآله» بما تشكوه من علي «عليه السلام»، بل هي بمجرد أن ذكرت له: أنها لقيت من علي «عليه السلام» أمراً شديداً عليها، قال لها رسول الله «صلى الله عليه وآله»: «قد أجرتُ من أجرتِ».
ألا يشير إلى أنه «صلى الله عليه وآله» كان عارفاً بتفاصيل ما يجري، من دون حاجة إلى إخبار أحد؟! كما أن فيه إشارة لأم هاني بأن تثق  بالغيب، وتيقن بأنه «صلى الله عليه وآله» يستمد معرفته من الوحي الإلهي، الذي يسدده ويرعاه..

موقف الزهراء من أم هاني:

ولم تكن الزهراء «عليها السلام» بصدد تأنيب أم هاني لشكواها علياً «عليه السلام»، وإنما أرادت أن تطمئن إلى سلامة أهداف أم هاني من هذه الشكوى، وأنها لم تكن بصدد الدفاع عن أعداء الله، ولا لأنه أخاف أعداء الله، بل هي تسعى كما يسعى أخوها علي «عليه السلام» إلى دفع شر أولئك الأشرار بأقل قدر ممكن من الخسائر.
وإنما قلنا ذلك: لأننا نعلم أن أم هاني المؤمنة بالله، والتي تلجأ إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله»، لا يمكن أن تشتكي ناصر رسول الله ومن يخيف أعداءه وأعداء الله.
وقد كان رسول الله «صلى الله عليه وآله» قد أوضح لها: أن علياً «عليه السلام» يسعى إلى رضا الله تعالى، فكان أن تصرفت بنحو لم يغضب رسول الله «صلى الله عليه وآله»، بل هي قد فعلت ما هو حقها، والمتوقع منها..

أم هاني لا تجير على رسول الله :

والنقطة التي تحتاج إلى بيان هي: أن أم هاني لم تجر أولئك المشركين لتحميهم من قرار رسول الله «صلى الله عليه وآله» وحكمه فيهم.
بل أجارتهم لتحميهم من سائر المقاتلين حتى يصلوا سالمين إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ثم يكون هو الذي يحكم فيهم بما يرضي الله سبحانه.
والشاهد على ما نقول: شكواها لرسول الله «صلى الله عليه وآله» نفسه.
ولكنّ أبا سفيان حين ذهب إلى المدينة يطلب تأكيد عهد الحديبية بعد نقضه طلب من الزهراء «عليها السلام» أن تجير بين الناس، لأنه أراد ذلك منها ليحمي به أولئك القتلة للنساء، والصبيان، والضعفاء من حكم رسول الله «صلى الله عليه وآله» فيهم.
فهو جوار ضد حكم وقرار رسول الله «صلى الله عليه وآله» في الظالمين والناكثين.. وليس لحمايتهم من الناس إلى أن يصلوا إلى النبي «صلى الله عليه وآله» ليكون هو الحاكم فيهم.

ما مثلك يجهل الإسلام:

وذكروا: أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد قال للحارث بن هشام: «ما مثلك يجهل الإسلام».
ويبدو أنهم أرادوا بهذا الكلام التنويه برجاحة عقل الحارث، وسلامة تفكيره، وسداد رأيه، باعتبار ثناء حظي به على لسان رسول الله «صلى الله عليه وآله» من بين الكثير من أقرانه.
غير أننا نرى: أن هذا الكلام لا يقصد منه الثناء عليه بقدر ما يقصد به تقريعه، وتأنيبه على اتباعه لأهوائه، وعلى ضعفه أمام شهواته وانقياده لميوله ورغباته، وترك ما يحكم به عقله، وما ترشده إليه فطرته، وتقوده إليه الدلائل الظاهرة، والحجج القاهرة..

خوف المشركين من عمر:

وقد تحدث الحارث بن هشام: بأنه بعد أن أجاز النبي «صلى الله عليه وآله» جوار أم هاني، خرج أولئك النفر إلى منازلهم، وجلسوا بأفنيتها، لا يعرض لهم أحد، لكنهم كانوا يخافون من عمر.. ثم مر بهم عمر في نفر من المسلمين، فسلم ومضى..
ونقول:
إن هذا الثناء التبرعي على عمر قد يُفهم هنا على أنه ذم له، من حيث دلالته على أن عمر يتطفل على الناس، ويبادر إلى أذيتهم، حتى مع علمه بأن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قد أجاز جوار بعض الناس فيهم، فهو إذن إنسان متهور، لا يبالي بما يصدر عنه، ولا يراعي أبسط قواعد التعامل الصحيح والموزون حتى مع رسول الله «صلى الله عليه وآله».. أو أن ذلك كان على الأقل هو الانطباع الشائع فيهم عن عمر بن الخطاب.

رنة إبليس.. وحديث نائلة و..:

عن ابن عباس قال: لما فتح رسول الله «صلى الله عليه وآله» مكة رنَّ([35]) إبليس رنة، فاجتمعت إليه ذريته، فقال: إيأسوا أن تردّوا أمة محمد إلى الشرك بعد يومكم هذا، ولكن أفشوا فيها ـ يعني مكة ـ النوح والشعر([36]).
وقيل: إنه رن ثلاث رنات: رنة حين لُعن، فتغيرت صورته عن صورة الملائكة، ورنة حين رأى رسول الله «صلى الله عليه وآله» يصلي قائماً بمكة، ورنة حين افتتح «صلى الله عليه وآله» مكة، فاجتمعت ذريته فقال: إيأسوا أن تردوا أمة محمد إلى الشرك الخ..([37]).
وعن مكحول: أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» لما دخل مكة تلقته الجن يرمونه بالشرر، فقال جبريل «عليه السلام»: تَعوَّذ يا محمد بهؤلاء الكلمات:
«أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر ما ينزل من السماء وما يعرج فيها، ومن شر ما بث في الأرض، وما يخرج منها، ومن شر الليل والنهار، ومن شر كل طارق يطرق إلا بخير، يا رحمن»([38]).
وعن ابن أبزى قال: لما فتح رسول الله «صلى الله عليه وآله» مكة جاءت عجوز حبشية شمطاء، تخمش وجهها، وتدعو بالويل، فقال «صلى الله عليه وآله»: «تلك نائلة، أيست أن تُعْبَد ببلدكم هذا أبداً»([39]).
ونقول:
ألف: أما بالنسبة للحديث عن رنة إبليس، فقد ورد في ذيله: أن إبليس قال لذريته: إيأسوا من أن تردوا أمة محمد إلى الشرك، ولكن أفشوا فيها ـ يعني مكة ـ النوح والشعر.
ونحن نشك في صحة ذلك، إذ ليس في النوح والشعر ما يصلح لأن يكون بديلاً ـ حسب منطق إبليس لعنه الله ـ عن الشرك بالله، مهما بالغنا في الحديث عما يوجبه الشعر من الفساد والإفساد، فلذلك نقول:
إن الصحيح هو ما روي عن الإمام الباقر «عليه السلام»: إن إبليس رن أربع رنات: يوم لُعن، ويوم أُهبط إلى الأرض، ويوم بُعث النبي «صلى الله عليه وآله»، ويوم الغدير([40]).
وهذا الحديث هو الأولى بالصحة، والأقرب إلى الاعتبار، فإن يوم الغدير قد جعل إبليس ييأس من طمس الحق، لأن ولاية أمير المؤمنين «عليه السلام» هي سبب بقاء هذا الدين، وبها تمت النعمة على الخلق، حسبما نصت عليه الآيات الكريمة، فراجع كتابنا: «الغدير.. والمعارضون» ففيه بعض ما يفيد في هذا الموضوع.
ب: بالنسبة لحديث رمي الجن للنبي «صلى الله عليه وآله» بالنار حين دخول مكة، فنزل جبرئيل وعلَّم النبي «صلى الله عليه وآله» أن يتعوذ بكلمات الله التامات، نقول:
روي: أنه «صلى الله عليه وآله» كان يعوِّذ الحسنين، فيقول: أعيذكما بكلمات الله التامات، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة.
وكان إبراهيم يعوذ بها إسماعيل وإسحاق «عليهم السلام»([41]).
على أن هذه الرواية إنما رويت عن مكحول، الذي لم يكن في زمان رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فلماذا لم يروها صحابة رسول الله «صلى الله عليه وآله» أنفسهم؟
فلعلهم كانوا قد شاهدوا ذلك بأنفسهم، لكي يصفوا لنا الجن، وأشكالهم، وسماتهم!! ولنعرف إن كان الشرر قد أصاب رسول الله «صلى الله عليه وآله»، أم لم يصبه؟!
وبعد.. فيا ليتهم ذكروا لنا كيف انصرف الجن عنه «صلى الله عليه وآله»؟!
وهل تصدى أحد من المسلمين لهم حتى أجبرهم على الإنصراف؟! أم أن تلك العوذة التي جاءه بها جبرئيل «عليه السلام» هي التي أوجبت انصرافهم؟!
ج: وأما حديث مجيء نائلة في صورة عجوز شمطاء (عريانة)، فقد ذكروا نفس هذا الحديث بالنسبة للعزى أيضاً.
وذكروا: أن خالداً ضربها بسيفه فقطعها نصفين فماتت.
ويذكرون مثل ذلك أيضاً: عن مناة، وأن سعيد بن زيد قتلها أيضاً..
وقد ناقشنا هذه القضية في قصة قتل العزى، وطرحنا العديد من الأسئلة التي لن تجد لها جواباً مقنعاً ومقبولاً..
على أننا نستغرب: أن لا يكون حديث نائلة قد تداولته الرواة، ونقله لنا العشرات ممن حضروا وشاهدوها، وهي عارية. وهو أمر لافت للأنظار، مثير للفضول.. وكان من المناسب أيضاً أن يذكروا لنا بعض صفاتها، وتركيبتها الجسدية، فإن للجن أحوالاً تختلف عن أحوال الإنس لا محالة..



([1]) السيرة الحلبية ج3 ص85.
([2]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص230 عن الواقدي، والسيرة الحلبية ج3 ص85 وراجع: مجمع البيان ج10 ص556 والبحار ج21 ص105 والمغازي للواقدي ج2 ص829.
([3]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص230 و231 وقال في هامشه: أخرجه البخاري 3/526 في الحج (1588) (3058، 4282، 6764)، ومسلم في الحج (439، 440) وأبو داود حديث (2010) وفي الفرائض باب (10) وابن ماجة (2730) والطحاوي في معاني الآثار 4/49، وأحمد 5/202 والدار قطني 3/62.
وراجع: السيرة الحلبية ج3 ص85 والطبقات الكبرى لابن سعد ج1 ق1 ص79 والمصنف للصنعاني ج6 ص15 وج10 ص344.
([4]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص231 عن البخاري وأحمد، وقال في هامشه: أخرجه البخاري (4284) (1589)، ومسلم في الحج (355) والبيهقي في الدلائل 5/93 وأحمد 2/263، 322، 353، والطبراني في الكبير 11/62 وانظر مجمع الزوائد 3/250.
وراجع: السيرة الحلبية ج3 ص85.
([5]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص231 عن الواقدي والسيرة الحلبية ج3 ص85 والمغازي للواقدي ج2 ص829.
([6]) المغازي للواقدي ج2 ص829.
([7]) راجع: سبل الهدى والرشاد ج5 ص230 عن الواقدي  ومجمع الزوائد ج9 ص23 والسيرة الحلبية ج3 ص85 والمغازي للواقدي ج2 ص828.
([8]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص267.
([9]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص268.
([10]) راجع: البدء والتاريخ ج4 ص178 ووفاء الوفاء ج1 ص265 والسيرة الحلبية ج2 ص64.
([11]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص267.
([12]) البحار ج96 ص80 وسفينة البحار ج8 ص92 و 93 وعن علل الشرائع ص446.
([13]) البحار ج96 ص81 وسفينة البحار ج8 ص93 وعن علل الشرائع ص446.
([14]) الآية 25 من سورة الحج. والحديث في سفينة البحار ج8 ص93 عن قرب الإسناد والبحار ج96 ص81 عن قرب الإسناد ص65.
([15]) البحار ج96 ص82 عن علل الشرائع ص396 وسفينة البحار ج8 ص93.
([16]) سفينة البحار ج8 ص93 عن علل الشرائع ص396 وعن عيون أخبار الرضا ج2 ص84 والبحار ج96 ص82 عنهما.
([17]) مجمع الزوائد ج6 ص176 وسبل الهدى والرشاد ج5 ص235 عن الطبراني.
([18]) البحار ج21 ص131 و 132 عن إعلام الورى وراجع: المغازي للواقدي ج2 ص829 و 830 .
([19]) المغازي للواقدي ج2 ص830.
([20]) مورسة: مصبوغة بلون أحمر.
([21]) سبل الهدى و الرشاد ج5 ص149 و 150 عن الواقدي, والمغازي للواقدي ج2 ص831 والسيرة الحلبية ج3 ص102.
([22]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص231 وفي هامشه عن صحيح مسلم (صلاة المسافرين) (82) وعن أبي داود (2763) وعن مسند أحمد ج6 ص341 و 342 و 343 والسنن الكبرى للبيهقي ج9 ص75 ومستدرك الحاكم ج4 ص45 والسيرة الحلبية ج3 ص93 وراجع: المغازي للواقدي ج2 ص830 وتاريخ الخميس ج2 ص84.
([23]) السيرة الحلبية ج3 ص93 وتاريخ الخميس ج2 ص84.
([24]) راجع: تاريخ الخميس ج2 ص84 .
([25]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص231 و 232 عن البخاري، والبيهقي، وتاريخ الخميس ج2 ص84 عن المواهب اللدنية، والبخاري.
([26]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص269.
([27]) راجع: السيرة الحلبية ج3 ص93 فإنه ذكر شطراً من اختلافاتهم في هذا الأمر.
([28]) البحار ج21 ص135 عن الكافي ج1 ص125 و 126.
([29]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص268 عن مسلم.
([30]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص268 عن ابن خزيمة
([31]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص268.
([32]) صحيح البخاري (ط محمد علي صبيح بمصر) ج5 ص171وصحيح مسلم ج7 ص21 ومسند أحمد ج5 ص333 والخصائص للنسائي ص6 وحلية الأولياء ج1 ص62 والسنن الكبرى ج9 ص107 وتذكرة الخواص ص24 وأسد الغابة ج4 ص28 ومشكاة المصابيح (ط دهلي) ص564 والبداية والنهاية ج4 ص184 فما بعدها وذخائر العقبى (ط مكتبة القدسي) ص74 وراجع: الرياض النضرة (ط محمد أمين بمصر) ج2 ص184 و 188.
([33]) البحار ج21 ص131 و 132 عن إعلام الورى.
([34]) السيرة الحلبية ج3 ص93.
([35]) رنَّ: صوَّت وصاح.
([36]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص232 عن أبي يعلى، وأبي نعيم.
([37]) المغازي للواقدي ج2 ص841 و 842.
([38]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص232 عن ابن أبي شيبة.
([39]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص232 عن البيهقي في دلائل النبوة ج5 ص75 والمغازي للواقدي ج2 ص841.
([40]) البحار ج37 ص121 عن قرب الإسناد ص7.
([41]) البحار ج43 ص282 عن حلية الأولياء، وسنن ابن ماجة، والسمعاني في الفضائل.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page