• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الفصل العاشر: أحداث.. ومتابعات

لا هجرة بعد الفتح:

قالوا: إن مكة شرفها الله تعالى كانت قبل الفتح دار حرب، وكانت الهجرة منها واجبة إلى المدينة، فلما فتحت مكة صارت دار إسلام، فانقطعت الهجرة منها.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله «صلى الله عليه وآله» يوم فتح مكة: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا»([1]).
وعن عطاء بن أبي رباح قال: زرت عائشة مع عبيد بن عمير الليثي، وهي مجاورة بثبير، فسألها عن الهجرة، فقالت: «لا هجرة اليوم، كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله ورسوله، مخافة أن يفتن عنه.
فأما اليوم فقد أظهر الله تعالى الإسلام، فالمؤمن يعبد ربه حيث كان، ولكن جهاد ونية»([2]).

البيعة على الجهاد:

وعن يعلى بن صفوان بن أمية قال: جئت بأبي يوم الفتح، فقلت: يا رسول الله بايع أبي على الهجرة.
فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: «بل أبايعه على الجهاد فقد انقضت الهجرة»([3]).
عن مجاهد مرسلاً، قال: جاء يعلى بن صفوان بن أمية بعد الفتح، فقال: يا رسول الله، اجعل لأبي نصيباً في الهجرة.
فقال: «لا هجرة بعد اليوم».
فأتى العباس، فقال: يا أبا الفضل، ألست قد عرفت بلائي؟
قال: بلى ، وماذا؟
قال: أتيت رسول الله «صلى الله عليه وآله» بأبي ليبايعه على الهجرة فأبى، فقام العباس معه في قيظ ما عليه رداء، فقال لرسول الله «صلى الله عليه وآله»: أتاك يعلى بأبيه لتبايعه على الهجرة فلم تفعل.
فقال: «إنه لا هجرة اليوم».
قال: أقسمت عليك يا رسول الله لتبايعه.
فمد رسول الله «صلى الله عليه وآله» يده فبايعه، فقال: «قد أبررت عمي ولا هجرة»([4]).
ونقول:
إن لنا ههنا وقفات للتوضيح والبيان وهي التالية:
1 ـ قد ذكرنا حين الكلام حول هجرة العباس وإسلامه:
أن الهجرة باقية ما دام هناك خوف على النفس من أعداء الله تعالى وأعداء أهل الإيمان، وقد صرح بذلك أمير المؤمنين «عليه السلام» في خطبة له، قرر فيها «عليه السلام»: أن الهجرة من أرض يضطهد فيها أهل الإيمان باقية وقائمة.
وصرح أيضاً «عليه السلام»: بأن الهجرة هي لمن عرف حجة الله في الأرض، وليست لأهل الضلال والإنحراف، ومن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض، وتعصب وكابر([5]).
2 ـ إن الهجرة التي نفاها رسول الله «صلى الله عليه وآله» هي الهجرة من مكة بعد فتحها، ولم يرد نفي موضوع الهجرة، وقد أوضح حديث عائشة المتقدم ذلك.
3 ـ إن الذين كانوا يأتون إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» بعد الفتح، ويصرون أن يبايعوه على الهجرة إنما كانوا يفعلون ذلك لأنهم عرفوا أن للهجرة قيمة في الإسلام، وأن للمهاجر مقاماً منيفاًَ، وموقعاً رفيعاً وشريفاً. فأرادوا أن ينالوا شرفاً ليس فيهم، ومقاماً ليس لهم، فمُنعوا من ذلك على لسان رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ولذلك صاروا يوسطون الآخرين للحصول على ما مُنعوا منه، فلم تنفعهم الوساطات شيئاً.
ولكن إذا كان أهل الحق والصدق يواجهون في بلد آخر ضغوطاً واضطهاداً من أجل دينهم، ثم هاجروا فراراً بدينهم إلى بلد الإسلام، وحيث يحميهم النبي«صلى الله عليه وآله» أو الإمام «عليه السلام»، فإن لهم مقام المهاجر إلى الله ورسوله، وأجره، وشرفه، وعزته..

إن ظهر النبي على مكة آمن به:
عن ابن إسحاق السبيعي قال: قدم ذو الجوشن الكلابي على رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فقال له: «ما يمنعك من الإسلام»؟.
قال: رأيت قومك كذبوك، وأخرجوك، وقاتلوك، فانظر، فإن ظهرت عليهم آمنت بك واتبعتك، وإن ظهروا عليك لم أتبعك.
فقال له رسول الله «صلى الله عليه وآله»: «يا ذا الجوشن، لعلك إن بقيت قليلاً أن ترى ظهوري عليهم».
قال: فوالله إني لبضرية([6])، إذ قدم علينا راكب من قبل مكة، فقلنا ما الخبر؟
قال: ظهر محمد على أهل مكة. فكان ذو الجوشن يتوجع على تركه الإسلام حين دعاه إليه رسول الله «صلى الله عليه وآله».
قلت: وأسلم بعد ذلك، وروى عن النبي «صلى الله عليه وآله»([7]).
وقال الحسن البصري: «لما فتح رسول الله «صلى الله عليه وآله» مكة، قالت العرب: أما ظفر محمد بأهل الحرم، وقد أجارهم الله من أصحاب الفيل، فليس لكم به يد. فكانوا يدخلون في دين الله أفواجاً، بعد أن كانوا يدخلون فيه واحداً واحداً، واثنين. فصارت القبيلة تدخل بأسرها في الإسلام»([8]).
ونقول:
إن لنا الحق في أن نسجل بعض الملاحظات، التي نوجزها كما يلي:

إسلام العرب:

1 ـ إن ما تقدم يوضح لنا حقيقة هامة هي: أن إسلام العرب لم يكن عن قناعة، وإنما لأنه لم يعد لهم بمحمد يد. أي أنهم كانوا يتوقعون أن تتمكن قريش من التغلب عليه، وإذ بها قد عجزت عن ذلك. فجاءهم ما لا قبل لهم به، فاضطروا إلى إظهار الإسلام.
2 ـ ومن الواضح: أن المقصود بالعرب هو: قسم منهم، ولعلهم الأعراب الذين حكى الله عنهم هذا المعنى، فقال: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ..}([9]).
وإلا فقد كان في العرب طوائف كبيرة دخلت في الإسلام طوعاً، قبل فتح مكة، وحيث لم يكن هناك ما يدعو إلى الخوف منه، بل لأنهم وجدوا في الإسلام ضالتهم، وما بهر عقولهم، وما من شأنه أن يحل مشاكلهم.
3 ـ وفي حديث ذي الجوشن الكلابي دلالة ظاهرة على موقع القوة التي تصنع النصر في تفكير ذلك الرجل، واعتبارها هي المعيار. وإليها يستند القرار بالإيمان والكفر، مع أن القوة المادية قد تتوفر للحق وأهله، وقد لا تتوفر لهم، بل تكون لدى أهل الباطل. فالقوة لا تستطيع أن تعطي الإنسان أية فرصة لتمييز الحق من الباطل، كيف وقد قتل الأقوياء أنبياء الله وأوصياءهم، واعتدوا على الضعفاء، وعلى النساء والصبيان وقتلوهم؟
4 ـ إنه «صلى الله عليه وآله» قد قدم لذي الجوشن دليلاً على صحة نبوته، تَمَثَّلَ في إخباره الغيبي القريب عن ظهوره وانتصاره على أهل مكة، فقال له «صلى الله عليه وآله»: «لعلك إن بقيت قليلاً أن ترى ظهوري عليهم».
هذا عدا عن أنه قد رأى كما رأى غيره معجزات وكرامات كثيرة له «صلى الله عليه وآله» لا تبقي أمام عقله أي فرصة للتهرب من الإعتراف بنبوته..

أذان بلال فوق الكعبة:

وعن ابن عباس، ورواه عن بعض أهل العلم، وعن عروة، وعن أبي سلمة، ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، وعن ابن أبي مليكة، ومحمد بن عمر عن شيوخه: أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» لما حان وقت الظهر أمر بلالاً أن يؤذن بالظهر يومئذٍ فوق الكعبة، ليغيظ بذلك المشركين، وقريش فوق رؤوس الجبال، وقد فرَّ جماعة من وجوههم وتغيبوا.
(قال الواقدي: خوفاً أن يقتلوا، فمنهم من يطلب الأمان، ومنهم من قد أومن).
وأبو سفيان بن حرب، وعتَّاب ـ ولفظ ابن أبي شيبة: خالد بن أسيد، والحارث بن هشام ـ جلوس بفناء الكعبة.
فقال عتَّاب ـ أو خالد ـ بن أسيد: لقد أكرم الله أسيداً أن لا يكون يسمع هذا، فيسمع ما يغيظه.
وقال الحارث: أما والله، لو أعلم أنه محق لاتبعته.
فقال أبو سفيان: لا أقول شيئاً، لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصا.
وقال بعض بني سعيد بن العاص: لقد أكرم الله سعيداً إذ قبضه قبل أن يرى هذا الأسود على ظهر الكعبة.
وقال الحكم بن أبي العاص: هذا والله الحدث العظيم، أن يصيح عبد بني جمح على بنية أبي طلحة.
وقال الحارث بن هشام: إن يكن الله تعالى يكرهه فسيعيره.
وفي رواية: أن سهيل بن عمرو قال مثل قول الحارث.
فأتى جبريل رسول الله «صلى الله عليه وآله» فأخبره خبرهم، فخرج عليهم رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فقال: «قد علمت الذي قلتم».
فقال الحارث وعتاب: نشهد إنك رسول الله، ما اطلع على هذا أحد كان معنا، فنقول: أخبرك([10]).
وفي رواية: أن الحارث بن هشام قال: ما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذناً؟!
ولا مانع من وجود الأمرين منه، أي وتقدم في عمرة القضاء وقوع مثل ذلك من جماعة لما أذن بلال رضي الله عنه على ظهر الكعبة أيضاً.
أي وقال غير هؤلاء من كفار قريش: لقد أكرم الله فلاناً ـ يعني أباه ـ إذ قبضه قبل أن يرى هذا الأسود على ظهر الكعبة.
إلى أن قال: فخرج عليهم النبي «صلى الله عليه وآله»، فقال لهم: لقد علمت الذي قلتم.
ثم ذكر ذلك لهم، فقال: أما أنت يا فلان فقد قلت كذا، وأما أنت يا فلان فقد قلت كذا، وأما أنت يا فلان فقد قلت كذا.
فقال أبو سفيان: أما أنا يا رسول الله فما قلت شيئاً، فضحك رسول الله «صلى الله عليه وآله».
فقالوا: نشهد أنك رسول الله، والله ما اطلع على هذا أحد معنا فنقول أخبرك([11]).
..وصار بعض قريش يستهزئون ويحكون صوت بلال غيظاً، وكان من جملتهم أبو محذورة، وكان من أحسنهم صوتاً، فلما رفع صوته بالأذان مستهزئاً سمعه رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فأمر به، فمثل بين يديه، وهو يظن أنه مقتول.
فمسح رسول الله «صلى الله عليه وآله» ناصيته وصدره بيده الشريفة، قال: فامتلأ قلبي والله إيماناً ويقيناً، فعلمت أنه رسول الله.
فألقى عليه «صلى الله عليه وآله» الأذان، وعلمه إياه، وأمره أن يؤذن لأهل مكة، وكان سنه ست عشرة سنة، وعقبه بعده يتوارثون الأذان بمكة.
وتقدم: أن أذان أبي محذورة وتعليمه الأذان كان مرجعه «صلى الله عليه وآله» من حنين، وتقدم طلب تأمل الجمع بينهما([12]).
وعند الراوندي: أنه «صلى الله عليه وآله» أمر بلالاً عند وقت صلاة الظهر، فصعد على الكعبة، فقال عكرمة: أكره أن أسمع صوت أبي رباح ينهق على الكعبة.
وحمد خالد بن أسيد الله على أن أبا عتاب توفي ولم ير ذلك.
وقال أبو سفيان: لا أقول شيئاً، لو نطقت لظننت أن هذه الجدر ستخبر به محمداً.
فبعث إليهم النبي «صلى الله عليه وآله»، فأُتي بهم، فقال عتاب: نستغفر الله ونتوب إليه، قد والله يا رسول الله قلنا، فأسلم وحسن إسلامه، فولاه رسول الله «صلى الله عليه وآله» مكة([13]).
وفي نص آخر: أنه لما بلغ بلال: «أشهد أن محمداً رسول الله» قالت جويرية بنت أبي جهل: قد لعمري رفع لك ذكرك، أما الصلاة فسنصلي، والله لا نحب مَن قتل الأحبة أبداً. ولقد كان جاء أبي بالذي جاء به محمداً من النبوة فردها، ولم يرد خلاف قومه([14]).
قالوا أيضاً: دخل النبي «صلى الله عليه وآله» مكة، وكان وقت الظهر، فأمر بلالاً فصعد على ظهر الكعبة فأذن، فما بقي صنم بمكة إلا سقط على وجهه، فلما سمع وجوه قريش الأذان قال بعضهم في نفسه: الدخول في بطن الأرض خير من سماع هذا.
وقال آخر: الحمد لله الذي لم يعش والدي إلى هذا اليوم.
فقال النبي «صلى الله عليه وآله»: «يا فلان قد قلت في نفسك كذا ويا فلان قلت في نفسك كذا».
فقال أبو سفيان: أنت تعلم أني لم أقل شيئاً.
فقال «صلى الله عليه وآله»: «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون»([15]).
ونقول:
قد تكلمنا حول هذه النصوص في عمرة القضاء، وأكثرها بعمرة القضاء أنسب، ولسياقها أقرب. وإنما أوردناها هنا مجاراة لكتَّاب السيرة. وسوف لا نعلق عليها ههنا بشيء، بل نكتفي بما ذكرناه هناك، ونقتصر هنا على الإشارة التالية:
وقد ذكر النص المتقدم، وتقدم أيضاً عن مصادر عديدة: أن النبي «صلى الله عليه وآله» دخل البيت يوم الفتح وقت الظهر([16]).
فإذا كان الوقت ظهراً، وكان علي «عليه السلام» في هذا الوقت على ظهر الكعبة، فمن أولى منه بالأذان على ظهرها، أو ما هي الحاجة لإصعاد بلال على ظهر الكعبة من جديد، من أجل الأذان؟!
ولذلك نقول: إنه قد روى يزيد بن قعنب، عن فاطمة بنت أسد: أنها لما ولد علي «عليه السلام» في جوف الكعبة، وأرادت أن تخرج به هتف بها هاتف: يا فاطمة سميه علياً، فهو علي..
إلى أن قال عن علي «عليه السلام»: «وهو الذي يكسر الأصنام، وهو الذي يؤذن فوق ظهر بيتي الخ..»([17]).
فالذي أذن فوق ظهر الكعبة حين دخول النبي «صلى الله عليه وآله» إليها، هو علي بن أبي طالب «عليه السلام».
ولكن ذلك لا يمنع من أن يكون بلال قد أذن في المسجد الحرام، أو على ظهر الكعبة في سائر الأوقات، فأغاظ المشركين.

النبي لا يعود إلى مكة:

عن أبي هريرة: أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» لما فرغ من طوافه، أتى الصفا فعلا منه حتى يرى البيت، فرفع يديه، وجعل يحمد الله تعالى ويذكره، ويدعو ما شاء الله أن يدعو. والأنصار تحته، فقال بعضهم لبعض: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته، ورأفة بعشيرته.
قال أبو هريرة: وجاء الوحي، وكان إذا جاء لم يخف علينا: فليس أحد من الناس يرفع طرفه إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» حتى يقضى، فلما قُضيَ الوحي، قال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: «يا معشر الأنصار».
قالوا: لبيك يا رسول الله.
قال: «قلتم: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته، ورأفة في عشيرته».
قالوا: قد قلنا ذلك يا رسول الله.
قال: «فما أسمَّى إذن!! كلا، إني عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، المحيا محياكم، والممات مماتكم».
فأقبلوا إليه يبكون، يقولون: والله يا رسول الله، ما قلنا الذي قلنا إلا الضن بالله وبرسوله.
فقال رسول الله: «فإن الله ورسوله يعذرانكم ويصدقانكم»([18]).
ونقول:
إن الأنصار حين قالوا، أو قال بعضهم: أدركته رغبة في قريته، ورأفة في عشيرته، قد جروا على مقتضيات الطبع البشري الإنساني، الذي يختزن الحنين إلى الأوطان، والرحمة، والرأفة بذوي الأرحام، وقد غفلوا عن أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قد صنعه الله تعالى على عينه، وأصبح فانياً في الطاعة والعبودية له تعالى، يرى ما يرى، ويرضيه ما يرضيه، ويغضبه ما يغضبه، ولا يريد إلا ما يريد.
وهو أيضاً رسوله الذي جاءهم بالهدى ودين الحق، الذي لا يحابي قومه على حساب دينه وعقيدته، ولا يحن إلى شيء إلا إذا كان في ذلك الحنين رضا الله وطاعته.
وهو حين هاجر، إنما هاجر إلى الله، والله أحب إليه من عشيرته، وذوي رحمه، وبلده..
ولتكن هذه العناصر الثلاثة: عبوديته لله تعالى، ورسوليته الهادية إلى طريق الحق والخير، وهجرته إلى الله تعالى، هي الأدلة القاطعة، والبراهين الساطعة على أنه لا يرغب إلا بأن يكون مع الله، وفي دار هجرته إليه، لا في بلده، ولا مع قومه، ولا يتخذ عشيرته وذوي رحمه بطانة من دون المؤمنين.. بل المؤمنون هم أهله، وعشيرته، دون الناس كلهم.

إذن يخزيك الله:

عن أبي إسحاق السبيعي، عن ابن عباس قالا: رأى أبو سفيان رسول الله «صلى الله عليه وآله» يمشي والناس يطأون عقبه، فقال بينه وبين نفسه: لو عاودت هذا الرجل القتال، وجمعت له جمعاً؟
فجاء رسول الله «صلى الله عليه وآله» حتى ضرب بيده في صدره، فقال: «إذن يخزيك الله».
فقال: أتوب إلى الله تعالى، وأستغفر الله مما تفوهت به، ما أيقنت أنك نبي حتى الساعة، إني كنت لأحدث نفسي بذلك([19]).
عن سعيد بن المسيب قال: لما دخل رسول الله «صلى الله عليه وآله» مكة ليلة الفتح، لم يزالوا في تكبير وتهليل، وطواف بالبيت حتى أصبحوا، فقال أبو سفيان لهند: أترين هذا من الله؟
قالت: نعم، هذا من الله.
قال: ثم أصبح فغدا أبو سفيان إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: قلت لهند: أترين هذا من الله؟!
قالت: نعم هذا من الله.
فقال أبو سفيان: أشهد أنك عبد الله ورسوله، والذي يُحلَف به ما سمع قولي هذا أحد من الناس إلا الله عز وجل وهند([20]).
عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم قال: خرج رسول الله «صلى الله عليه وآله» وأبو سفيان جالس في المسجد، فقال أبو سفيان: ما أدري بما يغلبنا محمد؟
فأتاه رسول الله «صلى الله عليه وآله» فضرب صدره وقال: «بالله تعالى نغلبك».
فقال أبو سفيان: أشهد أنك رسول الله([21]).
وعن ابن عباس قال: لقي رسول الله «صلى الله عليه وآله» أبا سفيان بن حرب في الطواف، فقال: «يا أبا سفيان، هل كان بينك وبين هند كذا وكذا»؟
فقال أبو سفيان: فشت علي هند سري، لأفعلن بها ولأفعلن.
فلما فرغ رسول الله «صلى الله عليه وآله» من طوافه لحق بأبي سفيان فقال: «يا أبا سفيان، لا تكلم هنداً، فإنها لم تفش من سرك شيئاً».
فقال أبو سفيان: أشهد أنك رسول الله «صلى الله عليه وآله»([22]).

مع ما سبق: أبو سفيان والإيمان:

1 ـ إن من يراجع حياة أبي سفيان يخرج بحقيقة مفادها: أن هذا الرجل بما تصدى له من أعمال، وفيما كان له من ممارسات قد عاين الكثير الكثير من دلائل النبوة الظاهرة، ومعجزاتها القاهرة، وآياتها الباهرة.
ولكنه كان يصر على رفضها، ويتعمد تجاهلها، ويسير في طريق اللجاج، والمكابرة، والعناد، والجحود للحق، والسعي لطمسه، ومواصلة الحرب مع أهله..
والذي ذُكر في الروايات آنفاً ما هو إلا رشحة يسيرة من تلك الدلالات، والعبر والعظات.
وهذا يؤكد لنا حقيقة هامة، وهي:
أن هذا الصلف والعناد للحق يدعونا إلى تصديق تلك الطائفة من النصوص المختلفة والكثيرة، التي تؤكد: أنه لم يغير نهجه، وأنه لم يسلم، وإنما استسلم، ولما يدخل الإيمان في قلبه، وأنه لم يزل كهفاً لأهل النفاق، وأنه كان يحلف: أنه ما من جنة ولا نار، وإنما هو الملك والدنيا([23]).
2 ـ أما قول أبي سفيان: «ما أيقنت أنك نبي حتى الساعة» فمعناه: أنه كان إلى تلك اللحظة يتخذ سبيل النفاق، وأنه لم يكن قد أسلم قبل ذلك، رغم نطقه بالشهادتين في مرّ الظهران قبل دخول النبي «صلى الله عليه وآله» مكة..
فإذا جاء بعد النطق بالشهادتين ما دل على ما يوجب الحكم بخروجه من الدين، فلا شيء يمكن ان يثبت عودته إلى الإسلام بصورة يقينية، ويبقى الأمر رهناً بما يصدر عنه من دلالات وشواهد تؤيد هذا الإحتمال، أو ذاك.
فإن بلغ الأمر إلى درجة اليقين بعودته إلى الإسلام، فذلك هو المطلوب، وإلا، فإن مجرد الاحتمالات لا تفيد شيئاً في إثبات إسلامه.
3 ـ إن ما حدَّث به أبو سفيان نفسه من الرغبة بالعودة إلى قتال رسول الله «صلى الله عليه وآله» إنما جاء على سبيل الحسد للنبي «صلى الله عليه وآله»، لما رآه من عزته «صلى الله عليه وآله» وعظمته، وخضوع الناس لأمره ونهيه، وسعيهم للتقرب إليه، ولم يعرض لأبي سفيان ما يزيل هذا الحسد من نفسه.
ولعل ما كان يراه من مزيد شوكته، وتأكد عظمته من شأنه: أن يزيد من تأجج نار الحسد في قلبه، ويلهب صدره حنقاً وغيظاً، ويملأ قلبه حقداً وبغضاً.

الم. غلبت الروم:

وبعد.. فلا شك في أن فتح مكة كان من أعظم النعم التي حبا الله بها نبيه وأوليائه، إذ بذلك سقط الشرك وانتهى أمره، وخضدت شوكته في الجزيرة العربية كلها، وأفسح المجال لدخول الناس في الإسلام أفواجاً.
وفرح المسلمون بنصر الله تبارك وتعالى أعظم الفرح. وكان ذلك في السنة التي غلبت الروم على فارس.. وظهر مصداق قوله تعالى: ﴿الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللَهِ لَا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾([24]).
وقد جاءت هذه البشارة في أوائل الهجرة حيث كانت فارس قد غلبت الروم. فبشر الله في هذه الآيات بفتح مكة وبنصر الله لهم على الشرك منذئذٍ.
وذلك لأن معظم الناس سوف يقلبون على هذا الدين، ويحتاجون إلى الإيمان به وبالنبوة إلى المعجزة الميسورة والواضحة، التي لا تحتاج إلى فكر ودراسة وتأمل، ولا تحتمل التأويل، ولا يمكن ألقاء الشبهة فيها.. وأكثرهم يعيش البساطة، ولا يملك من العلم والفكر، ما يمكنه من أدراك حقائق القرآن العالية، أو ما يجعله يتفاعل مع الإستدلالات العلمية المعمقة. وهم لا يعرفون شيئاً عن مصطلحات الفلاسفة، وأساليب استدلالهم، فجاء هذا الإخبار الغيبي ليسهل عليهم هذا الإيمان، وليرسخه في نفوسهم، ويعمقه في وجدانهم، وضميرهم. وهو من مفردات الرحمة الآلهية لهم.
وأما ادِّعاء أن المقصود بالآية فرح المسلمين بنصر الروم لأنهم أهل كتاب على المشركين لأنهم مجوس، فهو غير مقبول.. فإن المجوس أهل كتاب أيضاً، وإن كانوا قد ضيعوه كما ورد في بعض الروايات([25]).

 

 
([1]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص260 عن البخاري، ومسلم.
([2]) المصدر السابق.
([3]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص260 عن أحمد، والنسائي
([4]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص260 و 261 عن ابن أبي أسامة.
([5]) راجع: خطبة رقم 187 في نهج البلاغة، والبحار ج66 ص227 والإيجاز والإعجاز للثعالبي ص32.
([6]) ضرية: اسم مكان. قرية في طريق مكة، من البصرة من نجد (معجم البلدان).
([7]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص261 عن ابن سعد، وفي هامشه عن: مسند أحمد ج4 ص68 والمصنف لابن أبي شيبة ج14 ص375 والطبقات لابن سعد ج6 ص31.
([8]) البحار ج21 ص99 ومجمع البيان ج10 ص554.
([9]) الآية 14 من سورة الحجرات.
([10]) دلائل النبوة للبيهقي ج5 ص78 وسبل الهدى والرشاد ج5 ص248 و 249 عن أي يعلى، وابن هشام، والبيهقي عن ابن إسحاق، وابن أبي شيبة، والأزرقي والواقدي، وراجع: السيرة الحلبية ج3 ص101 و 102 وراجع: المغازي للواقدي ج2 ص846 وتاريخ الخميس ج2 ص87 و 88.
([11]) السيرة الحلبية ج3 ص101 و 102.
([12]) السيرة الحلبية ج3 ص 102.
([13]) البحار ج21 ص118 و 119 و 133 عن الخرائج والجرائح، وعن إعلام الورى.
([14]) المغازي للواقدي ج2 ص846 والسيرة الحلبية ج3 ص102 عن تاريخ الأزرقي.
([15]) البحار ج21 ص119 عن الخرائج والجرائح.
([16]) راجع ما ذكرناه تحت عنوان: إزالة الصور والتماثيل من داخل الكعبة.
([17]) إحقاق الحق (الملحقات) ج5 ص57 عن بشائر المصطفى، وعن تجهيز الجيش للدهلوي العظيم آبادي.
([18]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص246 عن الطيالسي، وابن أبي شيبة، ومسلم، وأحمد. وأشار في هامشه إلى: مسلم 3/1407 في الجهاد والسير باب فتح مكة 86 ودلائل النبوة للبيهقي ج5 ص56 ومعاني الآثار ج3 ص325. وراجع: تاريخ الخميس ج2 ص89.
([19]) تهذيب تاريخ ابن عساكر ج6 ص406 ودلائل النبوة للبيهقي ج4 ص102 وسبل الهدى والرشاد ج5 ص246 عن ابن سعد، وعن الحاكم في الإكليل، وعن البيهقي.
[20]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص246 و 147 عن الذهلي في كتابه: جمع حديث الزهري.
([21]) معاني الآثار ج4 ص314 وراجع: السيرة الحلبية ج3 ص102 وسبل الهدى والرشاد ج5 ص247 عن ابن سعد، والحارث بن أبي أسامة، وابن عساكر، والضعفاء للعقيلي ج1 ص226 وج3 ص57 وتهذيب تاريخ دمشق ج6 ص406 ولسان الميزان ج4 ص178.
([22]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص247 عن العقيلي، وابن عساكر.
([23]) راجع: ترجمة أبي سفيان في الإستيعاب (مطبوع بهامش الإصابة)، وفي قاموس الرجال، وغير ذلك.
([24]) الآيات 1 ـ 7 من سورة الروم.
([25]) الكافي ج3 ص567 السنن الكبرى للبيهقي ج9 ص188 والأمالي للصدوق ص424  والتفسير الصافي ج2 ص334 وتفسير نور الثقلين ج2 ص202 وج3 ص475 وتفسير الميزان ج9 ص253 وراجع: الخلاف ج5 ص542 والمبسوط ج2 ص37 الوسائل (آل البيت) ج20 ص365 وتذكرة الفقهاء (ط.ج) ج9 ص279 ومصادر ذلك كثرة اقتصرنا على ذكر بعضها.
 


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page