• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الفصل العاشر: وقفات.. مع حديث النجرانيين

دعوة النجرانين إلى الإسلام متى كانت؟!:

تقدم: أن النبي «صلى الله عليه وآله» أرسل إلى النجرانين يدعوهم إلى الإسلام، ثم بعد أن قدم عليه وفدهم في سنة عشر كتب لهم كتباً أخرى تقدم ذكرها أيضاً..
فقد يقال: إنه «صلى الله عليه وآله» كتب إليهم الكتاب الأول الذي يدعوهم فيه إلى الإسلام من مكة، قبل أن تنزل عليه سورة النمل، كما دلت عليه بعض الروايات([1]). وسورة النمل مكية([2]).
ولكن الصحيح هو أنه «صلى الله عليه وآله» قد كتب إليهم من المدينة بعد الهجرة، ونستند في ذلك إلى ما يلي([3]):
أولاً: قد صرحت النصوص المتقدمة بأنه بمجرد وصول كتاب رسول الله «صلى الله عليه وآله» خافوا وأرسلوا وفدهم إلى النبي «صلى الله عليه وآله» في المدينة، وكانت قصة المباهلة، فراجع .
ثانياً: صرح ابن طاووس في الإقبال: بأن النبي «صلى الله عليه وآله» كتب إليهم هذا الكتاب، بعد أن كتب إلى كسرى وقيصر.. وكتابه لهما إنما كان من المدينة.
ثالثاً: إنه لا معنى لأن يفزع النجرانيون من النبي «صلى الله عليه وآله»، حين كان في مكة، فإنه لم يكن قادراً على فعل أي شيء يوجب خشيتهم.
كما أنه لا معنى لأن يكتب إليهم: «فإن أبيتم آذنتكم بحرب، فإنه «صلى الله عليه وآله» لم يكن قادراً آنئذٍ على أن يحمي نفسه من أهل مكة، فهل يعقل أن يعلن الحرب على النجرانيين البعيدين عنه مئات الأميال؟!
رابعاً: لم تكن الجزية قد وضعت في مكة مطلقاً، وقد نزلت آيات الجزية في سنة تسع أو قريباً منها.

فإن أبيتم فالجزية:

قد أبلغ النبي «صلى الله عليه وآله» أهل نجران بان عليهم الجزية إن أصروا على الإلتزام بدينهم، وعلى عبادة العباد، وأبوا عبادة الله.
وهذا النص قد أوضح أن وضع الجزية عليهم إنما هو بإزاء الإصرار على الإستنكاف عن عبادة الله وحده، وترجيح عبادة العباد.. وذلك يظهر وجود خلل بالمعايير يحتم اتخاذ إجراء ضدهم من شأنه أن يراعي آثار هذا الإخلال، فيتعامل مع هذا الإستكبار عن عبادة الله من جهة، ومع ذلك الإنقياد والقبول منهم بأن يكونوا في موقع العبودية للعباد من جهة أخرى، مع إسباغهم صفات الألوهية على أولئك العباد، بادعاء وجود شبهة لديهم في ذلك، ناشئة عن ولادة عيسى من دون أب، أو نحو ذلك مما لم يعد له مجال بعد ظهور الحقيقة بالأدلة القاطعة، وبالمعجزات الظاهرة، فلا مبرر للإصرار على ذلك إلا الإستكبار عن الإنقياد للحق..
فجاء جعل الجزية التي لا بد ان يعطوها عن يد وهم صاغرون، ليكون بمثابة علاج روحي من شأنه أن يطامن نفوسهم، ويدفعهم لمراجعة حساباتهم، ليجدوا أنهم لا يربحون من هذا الإستعلاء والإستكبار، وبذلك يعيد إليهم قدراً من التوازن في نظرتهم إلى القضايا..
مع ملاحظة: أنه لم يُظْهِر إصراراً على تكذيبهم في دعواهم بقاء الشبهة، رفقاً منه بهم، وإفساحاً للمجال للتروي والتأمل.. بالإضافة إلى مصالح أخرى ربما ترتبط بالسياسة العامة للناس في مجال العلاقة بهم، والتعامل معهم في الشأن العقيدي.

حوار مكذوب:

ثم إن أساس الخلاف بين نصارى نجران وبين النبي «صلى الله عليه وآله» هو أنهم يعبدون عباد الله، ولا يعبدون الله، ولأجل ذلك دعاهم إلى المباهلة، وذلك يدل على عدم صحة ما رووه عن ابن عباس قال: اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم الا يهودياً، وقالت النصارى: ما كان إلا نصرانياً.
فأنزل الله عز وجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلَا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ المُؤْمِنِينَ}([4]).
فقال رجل من الأحبار: أتريد منا يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم؟
وقال رجل من نصارى نجران: أوذلك تريد يا محمد وإليه تدعونا؟
فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: «معاذ الله أن أعبد غير الله أو آمر بعبادة غيره، ما بذلك بعثني ولا أمرني».
فأنزل الله عز وجل في ذلك: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا المَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}([5]).
ثم ذكر ما أخذ عليهم وعلى آبائهم من الميثاق بتصديقه وإقرارهم به على أنفسهم، فقال: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}([6])»([7]).
إذ كيف يصح اتهامهم النبي «صلى الله عليه وآله» بأنه يريد من الناس أن يعبدوه كما يعبد النصارى عيسى «عليه السلام»، مع أنه هو الذي يريد ان يصدهم عنه.
فإن هذه الايات قد وردت في سورة آل عمران، وهذه السورة قد نزلت قبل قضية المباهلة بسنوات كثيرة. فكيف يقال: أنها قد نزلت في المباهلة في أواخر حياته «صلى الله عليه وآله»..
والجواب عن ذلك هو: أن الله تعالى قد أنزل عليه «صلى الله عليه وآله» هذه الآيات مرة ثانية، حين جاءت مناسبتها، وذلك غير بعيد..

لماذا لم يكلمهم رسول الله ؟!:

وقد ذكرت الرواية: أن وفد نجران كلموا رسول الله «صلى الله عليه وآله» مرات عديدة، فلم يجبهم «صلى الله عليه وآله»، حتى أرشدهم علي «عليه السلام» إلى ضرورة تغيير ملابسهم الفاخرة، فحينئذٍ كلمهم «صلى الله عليه وآله»..

والسؤال هنا ذو شقين:

أحدهما: هل ارتداء الملابس الفاخرة خطيئة تستوجب الإعتراض المتمثل بهذا الصدود والإعراض؟!
الثاني: وجدنا رسول الله «صلى الله عليه وآله» يكتفي بالإعتراض على آخرين جاؤوه على مثل هذه الحالة، من دون أن ينتهي الأمر به إلى هذا الحد من التشدد والصدود والإعراض.
ونقول في الجواب:
إن لبس فاخر الثياب ليس حراماً إذا جاء على رسله ولم يستبطن معنى آخر مبغوضاً ومرفوضاً، مثل أن تكون هذه المظاهر هي مصدر الإعتزاز لدى من يلجأ لممارستها، أو أنه يريد من خلالها أن يتيه على الآخرين ويؤذيهم بها، ويسعى لكسب الإمتيازات التي لا يستحقها..
بل ربما يريد أن يخدع بها الناس، ويؤثر على نظرتهم حتى في أمور الدين والإعتقاد، والنظرة والإيحاء لهم بأن غناه إنما هو لقدرات اختص بها دونهم، وهذا ما حكاه الله تعالى عن قارون بقوله: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَ الصَّابِرُونَ}([8]).
وكان قد قال لقومه: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}([9]).
وربما يؤدي ذلك إلى إيهامهم بأن ما حصل عليه من مال إنما هو لخصوصية في دينه، فتحت له أبواب الغنى التي حرم منها الآخرون، لأن دينهم لم يقدر على تأمينها لهم، بل ربما كان هو السبب فيما يعانونه من فقر وحاجة..
وإذا كان هذا الذي يظهر للناس على هذه الحال من رجال الدين فذلك يوحي لهم بأن رسالة الدين هي الإعتزاز بالمال وهو جزء من أهدافه..
فذلك كله أو بعضه يحتم على رسول الله «صلى الله عليه وآله» أن يعترض على من يسير في هذا الإتجاه، ولا بد أن يكون اعتراضه أشد قسوة حين يكون من يفعل ذلك يقدم نفسه للناس على أنه من القيادات الدينية، ولا يورد ولا يصدر إلا في الحدود التي يسمح له بها الشرع، فيؤدي ذلك إلى تكريس هذا الأمر على أساس اعتقادي ديني، ينسب فيه هذه الأمر إلى الله سبحانه، وأنه هو الذي اختار ذلك لعباده..

ما تقول في عيسى؟!:

قد زعمت الرواية: أن الوفد سأل النبي «صلى الله عليه وآله» عن عيسى فقال: «ما عندي فيه شيء الخ..».
ونقول:

إن ذلك موضع ريب وشك:

أولاً: لأنه كان قد أخبرهم بما يقوله في عيسى حين أخبرهم بأنه لا يقول بأن لله تعالى ولداً، كما يقولونه في عيسى..
ثانياً: إن الآيات في شأن عيسى كانت قد نزلت عليه قبل سنوات من ذلك التاريخ، فلماذا لم يبادر إلى قراءتها عليهم. مع أنها هي نفسها التي قرأها عليهم بعد أن استمهلهم؟!
فقد قرأ، أو ضمّن كلامه قوله تعالى: {إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ}([10]).
وقرأ عليهم آية سورة المائدة: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}([11]).
وقوله تعالى في سورة آل عمران: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}([12]).
فلماذا يؤجل «صلى الله عليه وآله» الإجابة وعنده الآيات الكثيرة التي تتضمن الجواب الكافي والشافي على ذلك السؤال، ثم إنه حين أجابهم لم يزد على استعادة تلك الآيات وقرائتها عليهم.
ثالثاً: إنه حتى لو لم تكن تلك الآيات قد نزلت عليه «صلى الله عليه وآله» فإن العقل الإنساني يقضي بأن الله لا يمكن ان يكون له ولد، وبأن خلق آدم أعظم من خلق عيسى.. ولا شك في أن هذا ما يقوله رسول الله «صلى الله عليه وآله».. فلماذا لا يذكره لهم، ما دام أن السؤال موجه مباشرة، حيث قالوا له: «ما تقول في عيسى بن مريم؟ فإنا نرجع إلى قومنا ونحن نصارى، يسرنا إن كنت نبياً أن نعلم قولك فيه».

يصالحهم على أّلا يأكلوا الربا:

هذا.. وقد أعطاهم النبي «صلى الله عليه وآله» ذمته في أمور كثيرة كلها لمصلحتهم، فلا يغيَّر أسقف عن أسقفيته، ولا راهب عن رهبانيته، وليس عليهم دنية، ولا دم جاهلية، ولا يحشرون ولا يعشرون، ولا يطأ أرضهم جيش، ولا بد أن ينصفوا، على أن لا يأكلوا الربا.
وهذا يبين مدى حساسية الإسلام من أكل الربا، فرغم أنه يقرهم على دينهم، ولا يرضى بالتدخل في شأنهم الديني، ولو بمستوى تغيير راهب عن رهبانيته، فإنه يعطيهم هذه الإمتيازات التي كان يستطيع أن يمنعهم بعضها، من دون أن يخل ذلك بميزان الإنصاف والعدل.
ولكنه آثرهم بذلك كله في مقابل أن لا يأكلوا الربا، رغم ان أكلهم الربا لا يوجب خللاً مباشراً في حياة المسلمين، وإنما هو يوجب خللاً في مجتمعهم هم بالدرجة الأولى، ولكنه أراد أن يحفظهم هم عن التعرض لسلبيات هذه الخطيئة التي تنال الضعفاء وترهقهم، وتبدد جهدهم، وتعطيه لمن لا يستحقه..
بل إن سلبيات هذه العاهة لا تنحصر في الحالة المالية والمعيشية منها لكي يقال: إنها تصيب الفقراء دون سواهم، بل تتعداها إلى أضرار روحية ونفسية خطيرة، حتى على آكل الربا نفسه، حيث يتحول إلى حيوان كاسر شرس لا يحمل في داخله أي شعور إيجابي تجاه أخيه الإنسان فضلاً عن غيره من المخلوقات والكائنات.. بل هو يتحول إلى طاغوت جبار، ومصاص دماء.
ثم إن من أبسط نتائج هذه العاهة هو أن يفقد الناس أي دافع لعمل المعروف، فيشعر الفقير بقسوة صاحب المال عليه، ويرى أنه يمعن في إذلاله واستغلاله، وصاحب المال لا يجد لديه الحافز لمساعدة الفقير والتخفيف من آلامه، وتكون النتيجة هي زوال المعروف كما قال الإمام الباقر «عليه السلام»: «إنما حرم الله عز وجل الربا لئلا يذهب المعروف»([13]).
وقيل للصادق «عليه السلام»: «لم حرم الربا؟
قال: لئلا يتمانع الناس المعروف»([14]).
يضاف إلى ذلك: أن شيوع الربا يعطل المال عن اداء دوره في تداول السلع، وتأثيره في إنعاش الإقتصاد، ويمنع من نمو الأموال في أيدي الناس بصورة متوازنة، حيث يؤدي إلى تراكم الأموال في مواقع بعينها، وزيادة عجز الآخرين عن الحصول على أموال يمكنهم التحرك بها في المجالات المختلفة، ثم هي تمنع من استحداث أي موقع سواها على مر الأيام..
ولعل هذا هو ما يشير إليه، ما روي عن هشام بن الحكم: «قال سألت أبا عبد الله «عليه السلام» عن علة تحريم الربا.
قال: إنه لو كان الربا حلالاً لترك الناس التجارات، وما يحتاجون إليه، فحرم الله الربا لتفر الناس عن الحرام إلى التجارات، وإلى البيع والشراء، فيتصل ذلك بينهم في القرض»([15]).
وعن الإمام الرضا «عليه السلام»: «إنما نهى الله عز وجل عنه لما فيه من فساد الأموال، لأن الإنسان إذا اشترى الدرهم بالدرهمين كان ثمن الدرهم درهماً، وثمن الآخر باطلاً، فبيع الربا وشراؤه وكس على كل حال على المشتري، وعلى البائع، فحظر الله تبارك وتعالى على العباد الربا لعلة كساد الأموال»([16]).
وعلى كل حال، فإن التعامل بالربا يفسد الأموال، والأرواح والقلوب على حد سواء، ويوجب سقوط المعايير، وينحرف بالفطرة عن الصراط السوي..
وذلك كله يوصد ابواب الهداية، ويضعف فرص وصول الإنسان إلى الحق، وتفاعله معه، وقبوله به، وخضوعه له..
أما حين تستبعد هذه العاهة، وتمنع من التأثير على واقع المجتمع الإنساني، فإن صدود النجرانيين عن الحق لبعض الموانع، أو لتأثرهم بشبهة، أو بظرف بعينه لا يوصد أمامهم أبواب الهداية إلى الأبد، بل تبقى الفرصة أمامهم سانحة ما دامت الفطرة سليمة، مؤيدة بصفاء النفوس، وطهر الأرواح، وسلامة وصحة المعايير..
وبعد كل هذا الذي ذكرناه، فإن المسلمين كانوا يعيشون بالقرب من مجتمع النصارى، أو أنهم يخالطونهم، فلا بد من حفظهم وصيانتهم من عدوى أية عاهة قد تصيب تلك الجماعات.
ومن الطبيعي أن تكون حصانتهم من الناحية العقيدية والإيمانية قوية، بسبب قوة البراهين التي تدعوهم للإيمان والثبات فيه..
ولكن الحصانة في موضوع الأموال التي يسيل لها لعاب الطامعين والطامحين تبقى أضعف من غيرها. وهي في معرض الإهتزاز، أو السقوط أمام حب الإنسان للمال، قال تعالى: {وَتُحِبُّونَ المَالَ حُبّاً جَمّاً}([17]). فلا بد من تجفيف منابع الإغراء من أصولها، وجذورها، فكان هذا الإجراء منه «صلى الله عليه وآله» يتوافق مع القاعدة التي تقول: «درهم وقاية خير من قنطار علاج».

مؤنة الرسل وإعارتهم الخيل والدروع:

وقد لاحظنا: أنه «صلى الله عليه وآله» يضمِّن كتاب الصلح بنداً يتعلق بمؤنة رسله، وأن يعيرهم النجرانيون الدروع والخيل. وضمان رسله ما يستعيرونه من ذلك حتى يؤدوه إليهم.. إن اعتبار هذا الأمر بنداً إلزامياً في كتابه «صلى الله عليه وآله» لأهل نجران يشير على أنه «صلى الله عليه وآله» لا يريد أن يشعر النجرانيون بأن ما يقدمونه للرسل إنما يتم تحت وطأة الخوف من محمد «صلى الله عليه وآله»، وأن هذا ابتزاز بعنوان ضيافة.
مع غض النظر عن ذلك فإن شعورهم بأنهم متفضلون على المسلمين قد يغريهم بالتشبث بمفردات الضلال والإنحراف التي يعيشونها، وقد تعرض لهم حالة من التيه والتعالي تجعلهم يشعرون بعدم الحاجة إلى مراجعة حساباتهم لاكتشاف مواطن الضعف والقوة في مواقفهم.
كما أنه لا يريد لرسله أن يشعروا بمنة هؤلاء الناس عليهم، وبالمديونية لهم، ولا أن يعيشوا الحرج النفسي من جراء ذلك.
وكذلك الحال بالنسبة للعارية المضمونة، سواء بالنسبة للمعير، أو بالنسبة للمستعير. وقد جاء الحكم بضمان تلك العارية لأصحابها لمنع تكوين أي تصور أو شعور غير مرغوب فيه لدى الفريقين حسبما أوضحناه.
فتلخص أن جعل ذلك حقاً مفروضاً على هؤلاء، ومطلوباً لأولئك، يحسم الأمر في ذلك كله لصالح أهل الإيمان، ولصالح أهل نجران، لأن منع حدوث أي نوع من أنواع سوء الفهم، أو نشوء تخيلات ومشاعر سلبية تعيق عن معالجة قضايا حساسة وأساسية، بصدق وصفاء، وتعقل وأناة وروية.

أبو عبيدة أمين هذه الأمة:

وقد رووا عن ابن مسعود: أن السيد العاقب، وأبا الحارث بن علقمة أتيا رسول الله «صلى الله عليه وآله» لكي يلاعناه، فقال أحدهما لصاحبه: لا تلاعنه، فوالله لئن كان نبياً فلاعنته لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا.
فقالا: يا أبا القاسم، قد رأينا أن لا نلاعنك، وأن نتركك على دينك، ونرجع على ديننا، ولكن ابعث معنا رجلاً أميناً، ولا تبعث معنا إلا أميناً.
فقال النبي «صلى الله عليه وآله»: «لأبعثن معكم رجلاً أميناً حق أمين».
فاستشرف لها أصحابه.
فقال: «قم يا أبا عبيدة بن الجراح».
فلما قام قال: «هذا أمين هذه الأمة»([18]).
وعن ابن عمر: سمعت عمر يقول: ما احببت الإمارة إلا مرة واحدة، فذكر هذه القصة. وقال في آخرها: فتعرضت أن تصيبني، فقال: قم يا أبا عبيدة الخ.. ([19]).
ونقول:
أولاً: إنه لا ريب في أن الأمانة لدى المسلمين لا تنحصر بأبي عبيدة، فإن الأمناء في هذه الأمة كثيرون، فلماذا خص أبا عبيدة بهذه الصفة، أم أن أمانته كانت أقوى أو أشد، أو أكثر من أمانة سلمان وعمار، وعلي «عليه السلام»؟!
وهل يرضى محبو الخلفاء بأن يكون أبو بكر وعمر وعثمان و.. و.. الخ.. ليسوا بهذه المثابة من الأمانة في الأمة؟!
ثانياً: إن أصل هذه القضية مشكوك فيه، فقد قال الزرقاني: «ذكر ابن إسحاق: أنه «صلى الله عليه وآله» بعث علياً إلى أهل نجران ليأتيه بصدقاتهم وجزيتهم.
وهذه غير قصة أبي عبيدة لأنه توجه معهم، فقبض مال الصلح ورجع. وعلي أرسله النبي «صلى الله عليه وآله» بعد ذلك، فقبض ما استحق عليهم من الجزية، ويأخذ ممن أسلم ما وجب عليه من الصدقة»([20]).
ولا يخفى أن هذا الجمع تبرعي، وهو لا يوجب إلغاء احتمال أن تكون قضية أبي عبيدة مكذوبة.
ثالثاً: إن مما يزيد الريب في صحة رواية أبي عبيدة: أننا لا نجد مبرراً لتأكيد النجرانيين على رسول الله «صلى الله عليه وآله» أن يرسل معهم أميناً:
1 ـ إذ متى أرسل من جباة الصدقات وحملة أموال الجزية إليه من خان الأمانة واستولى على الأموال؟!
2 ـ يضاف إلى ذلك: أن هذا الأمر يعود القرار فيه إلى النبي «صلى الله عليه وآله»، فما هذا التدخل منهم في شأنٍ لا يعنيهم؟!
3 ـ أم أن المقصود هو اتهام النبي «صلى الله عليه وآله» في رأيه، أو نسبة التهاون إليه في حفظ الأموال؟!
4 ـ متى أصبح النجرانيون يغارون على مصالح المسلمين، ويهتمون بحفظ اموالهم من الخونة؟!
5 ـ إن كتاب الجزية قد حدد المقادير المطلوبة من النجرايين، فهو يطالبهم بما حدده ذلك الكتاب، ويطالب رسوله به أيضاً، فلا مجال للخيانة والتستر على شيء من المال..
رابعاً: حديث عمر: ما أحببت الإمارة إلا مرة واحدة، فذكر هذه القصة لا يمكن القبول به، فقد روي هذا الموقف عن عمر بن الخطاب في عدة مناسبات كما ألمحنا إليه في موضع آخر في هذا الكتاب، فقد قال ذلك في:
1 ـ خيبر.
2 ـ عند وفد نجران.
3 ـ وفي عير ذلك.
خامساً: إن هذا الذي زعموا أنه أمين هذه الأمة قد خان الأمة في أعظم حقوقها، وذلك حين مالأ على اغتصاب الخلافة من صاحبها الشرعي، كما سيأتي بيانه حين الحديث عن السقيفة، التي كان أبو عبيدة أحد أركانها، وانتجت إغتصاب الخلافة من أمير المؤمنين «عليه السلام»، بالإضافة إلى ضرب الزهراء «عليها السلام» حتى أسقطت المحسن واستشهدت.. وغير ذلك من عظائم وجرائم.

صلاة النصارى في مسجد النبي :

تقدم: أن النصارى لما حانت صلاتهم قاموا في مسجد رسول الله «صلى الله عليه وآله» يصلون، فأراد الناس منعهم، فقال «صلى الله عليه وآله»: «دعوهم».
وقد قال بعضهم في توجيه ذلك: «إن الناس أرادوا منعهم لما في فعلهم من إظهار دينهم الباطل بحضرة المصطفى وفي مسجده، وإنما أمر «صلى الله عليه وآله» بتركهم، تأليفاً لهم، ورجاء إسلامهم، ولدخولهم بأمان، فأقرهم على كفرهم، ومنع من التعرض لهم، فليس فيه إقرار على الباطل».
ونقول:
أولاً: إن دخولهم بأمان لا يعني السماح لهم بالصلاة في موضع لا يرضى المسلمون بصلاتهم فيه، ويدينون إلى الله في منعهم من ذلك، إنطلاقاً من حكم شرعي ثابت عندهم.
ثانياً: إن تأليف النجرانيين لا يتوقف على السماح لهم بالصلاة في داخل المسجد، إذا كان الشرع يمنع من ذلك.
والذي نراه هو أنهم كانوا في موضع ملحق بالمسجد، ولم يكن يحرم وجود الكافر في ذلك الموضع، فأراد المسلمون أن يمنعوهم من ممارسة حريتهم في ذلك الموضع من دون مراجعة النبي «صلى الله عليه وآله»، فمنعهم النبي «صلى الله عليه وآله» من ذلك.

دخول الكافر إلى المسجد:

وقد حاول بعضهم أن يقول: إن الروايات تتحدث عن دخول وفد نجران إلى المسجد النبوي لملاقاة النبي «صلى الله عليه وآله»، والإحتجاج عليه، ثم مباهلته..
كما أن روايات أخرى تفيد أن بعض المشركين كانوا يدخلون إلى المسجد لملاقاة النبي «صلى الله عليه وآله»، فهذا وذاك يدلنا على جواز دخول الكتابي بل مطلق الكافر حتى لو كان مشركاً أو ملحداً إلى المسجد..
ونقول:
كنا قد تحدثنا عن هذا الأمر حين الحديث عن وفاة زيد الخيل ودخوله إلى المسجد، ولكننا نعيد تذكير القارئ ببعض ما ذكرناه من أن المحرم من دخول الكافر إلى المسجد هو الموضع الذي تكون فيه الصلاة، أما دخوله إلى باحة المسجد وساحاته، وإلى غيرها من الملحقات بموضع الصلاة فلا ضير فيه..
ولعل النبي «صلى الله عليه وآله» كان يلقى أهل الكتاب والمشركين في غير مكان الصلاة.. فإن الناس يطلقون على باحة المسجد أنها مسجد، لأنها من شؤونه، ومتمماته، التي يحتاج إليها المصلون في التهيؤ والإستعداد للصلاة.



([1]) الدر المنثور ج6 ص38 والبداية والنهاية ج5 ص53 والبحار ج21 ص285 وج35 ص262 وتفسير الآلوسي ج3 ص186 وسبل الهدى والرشاد ج6 ص415.
([2]) مكاتيب الرسول ج2 ص492 عن الإتقان للسيوطي ص101 وراجع: تاريخ اليعقوبي ج2 ص26 والفهرست لابن النديم ص36 والغدير ج1 ص256 وراجع كتب التفسير في ذلك.
([3]) ذكر هذه الأدلة أيضاً العلامة الأحمدي في مكاتيب الرسول ج2 ص497 و498.
([4]) الآيات 65 ـ 68 من سورة آل عمران.
([5]) الآية 81 من سورة آل عمران.
([6]) الآيتان 79 و 80 من سورة آل عمران.
([7]) سبل الهدى والرشاد ج6 ص421 عن ابن إسحاق، وتخريج الأحاديث والآثار = = ج1 ص191 وتفسير الميزان ج3 ص268 وجامع البيان للطبري ج3 ص441 وتفسير ابن أبي حاتم ج2 ص693 وتفسير ابن كثير ج1 ص385 والعجاب للعسقلاني ج2 ص705 والدر المنثور ج2 ص40 و46 وتاريخ الإسلام للذهبي ج2 ص697 والسيرة النبوية لابن هشام ج2 ص395 وعيون الأثر ج1 ص284.
([8]) الآيتان 79 و 80 من سورة القصص.
([9]) الآية 78 من سورة القصص.
([10]) الآية 171 من سورة النساء.
([11]) الآية 17 من سورة المائدة.
([12]) الآية 59 من سورة آل عمران.
([13]) الوسائل (ط دار الإسلامية) ج12 ص425 و (ط مؤسسة آل البيت) ج18 ص120 القواعد الفقهية للبجنوردي ج5 ص90 وعلل الشرائع ج2 ص483 ومن لا يحضره الفقيه ج3 ص566 والبحار ج100 ص120 وجامع أحاديث الشيعة ج18 ص133 وميزان الحكمة ج2 ص1032.
([14]) البحار ج75 ص201 وراجع: فقه الرضا لابن بابويه ص256 والبحار ج100 ص121 والدر المنثور ج1 ص365 وذيل تاريخ بغداد ج3 ص214 وتهذيب الكمال ج5 ص88 وسير أعلام النبلاء ج6 ص262 ومطالب السؤول للشافعي ص439 وكشف الغمة للإربلي ج2 ص370 و399.
([15]) البحار ج100 ص19 والوسائل (ط دار الإسلامية) ج12 ص424 و (ط مؤسسة آل البيت) ج18 ص120 وشرح اللمعة للشهيد الثاني ج3 ص300 وعلل الشرائع ج2 ص482 ومن لا يحضره الفقيه ج3 ص567.
([16]) البحار ج100 ص119 وشرح اللمعة للشهيد الثاني ج3 ص300 وجواهر الكلام للجواهري ج23 ص333 وعلل الشرائع ج2 ص483 وعيون أخبار الرضا «عليه السلام» للصدوق ج1 ص100 ومن لا يحضره الفقيه ج3 ص566 والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج18 ص121 والوسائل (ط دار الإسلامية) ج12 ص425 وتفسير نور الثقلين للحويزي ج1 ص291.
([17]) الآية 20 من سورة الفجر.
([18]) راجع: سبل الهدى والرشاد ج6 ص421 عن البيهقي بأسناد صحيح، وعن البخاري من حديث حذيفة، وأشار في هامشه إلى البخاري في كتاب أخبار الآحاد (7254) وشرح المواهب اللدنية للزرقاني ج5 ص190 ومسند احمد ج1 ص414 وصحيح البخاري ج5 ص120 وفضائل الصحابة للنسائي ص29 والمستدرك للحاكم ج3 ص267 وعمدة القاري ج18 ص27 والسنن الكبرى للنسائي ج5 ص57 وتفسير ابن كثير ج1 ص377 وتاريخ مدينة دمشق ج25 ص453 وتاريخ المدينة لابن شبة ج2 ص584 وراجع: المصنف ج7 ص531 وج8 ص565 وصحيح ابن حبان ج15 ص462 وكنز العمال ج13 ص217 وتاريخ مدينة دمشق ج25 ص451.
([19]) شرح المواهب اللدنية للزرقاني ج5 ص190 عن أبي يعلى وفتح الباري ج7 ص74.
([20]) شرح المواهب اللدنية للزرقاني ج5 ص190 وفتح الباري ج8 ص74 وعمدة القاري ج18 ص28.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
رمضان
الأدعية
المحاضرات
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

30 رمضان

وفاة الخليفة العباسي الناصر لدين الله

المزید...

23 رمضان

نزول القرآن الكريم

المزید...

21 رمضان

1-  شهيد المحراب(عليه السلام). 2- بيعة الامام الحسن(عليه السلام). ...

المزید...

20 رمضان

فتح مكّة

المزید...

19 رمضان

جرح أميرالمؤمنين (عليه السلام)

المزید...

17 رمضان

1 -  الاسراء و المعراج . 2 - غزوة بدر الكبرى. 3 - وفاة عائشة. 4 - بناء مسجد جمكران بأمر الامام المهد...

المزید...

15 رمضان

1 - ولادة الامام الثاني الامام الحسن المجتبى (ع) 2 - بعث مسلم بن عقيل الى الكوفة . 3 - شهادة ذوالنفس الزكية ...

المزید...

14 رمضان

شهادة المختار ابن ابي عبيدة الثقفي

المزید...

13 رمضان

هلاك الحجّاج بن يوسف الثقفي

المزید...

12 رمضان

المؤاخاة بين المهاجرين و الانصار

المزید...

10 رمضان

1- وفاة السيدة خديجة الكبرى سلام الله عليها. 2- رسائل أهل الكوفة إلى الامام الحسين عليه السلام . ...

المزید...

6 رمضان

ولاية العهد للامام الرضا (ع)

المزید...

4 رمضان

موت زياد بن ابيه والي البصرة

المزید...

1 رمضان

موت مروان بن الحكم

المزید...
012345678910111213
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page