طباعة

أثر مرجعيّته في ثورة النجف

ساهم السيّد اليزدي في دعم الوضع الإداري للمدينة، وسعى إلى إزالة الصعوبات الّتي تشهدها. فعندما تفاقمت الأوضاع الاقتصاديّة نتيجة تطوّرات الحرب وسقوط بغداد بيد الإنجليز، كانت النجف ضمن المناطق الّتي أضرّت بها الأزمة وعاشت تحت وطأتها الثقيلة، فبذل السيّد اليزدي مساعيه من أجل تخفيف حدّة الأوضاع المعاشيّة، حيث كان يوعز إلى تجار الحبوب والمواد الغذائية في بعض مناطق العراق إلى التعاون مع أعيان النجف لبيعهم المواد الغذائيّة.
وهذا ما توضّحه الوثيقة التالية المؤرخة في (24 محرم 1336 ه / 10 كانون الأوّل 1917م) :
(لجناب الأعزّ الأكرم حميدي الداخل المحترم أدام الله عزّه وتوفيقه.... قد بلغک هياج عامة هذه النواحي من حادثة هذا الغلاء المريع، بل الخطب الفظيع، ولاسيّما على فقراء المشاهد المقدّسة وهم أكثر أهاليها، فإنّهم أصبحوا لايملكون قوّتاً ولانقوداً، فأصبحت ضجة الأرامل واليتامى وأنينهم من الجوع والطوى يفتّت الأكباد ويبلغ السبع الشداد. وقد انتدب جماعة من تجّار النجف الأشرف وأعيانهم فجمعوا رأس مال كبير، وعزموا على شراء مقدار من الأطعمة وجلبها إلى النجف كي تباع وتبذل للفقراء والمساكين برأس مالها من دون ربح....
فالأمل بمنّه تعالى وجميل ما نعهده فيكم أن تعاضدوهم وتؤازروهم وتشاركوهم في هذا الأجر الجزيل والمشروع الجليل.... وبلّغوا سلامنا ودعاءنا لكافة إخواننا المؤمنين....)[1] .
أدرک الإنجليز حقيقة التوجّه العام في النجف الأشرف، والّذي عبَّرت عنه الرسالة السابقة؛ لذلک جاء ردّهم حذراً يحاول تهدئة الطرف الآخر، جاء في الجواب :
(... إنّ البريطانيين يكنّون أخلص المشاعر نحو رجال الدين وأهالي الأماكن المقدّسة، وقد انتهزوا كلّ فرصة للتعبير عنها. وإنّنا سوف نواصل ذلک ونحن على ثقة بأنّ السيّد محمّد كاظم اليزدي والشيخ عطية سيكنّان لنا نفس المشاعر. ونرجو أن يتأكّدا أ نّه ليس في نيتنا التدخّل بأيّ شكل من الأشكال في الشؤون الدينيّة للعتبات)[2] .
إنّ التأكيدات البريطانيّة ومحاولات التهدئة الّتي جاءت في الجواب الرسمي لم تؤثّر على موقف السيّد اليزدي ورؤساء النجف، إذ أعلن السيّد اليزدي وبقية علماء الدين دعوتهم الثانية للجهاد دفاعاً عن الدولة العثمانيّة ضد الاحتلال البريطاني، وذلک في تشرين الثاني (1915م) (محرّم 1334 ه ).
في 5 آذار (1916م) (28 جمادى الاُولى 1334 ه ) استدعى السيّد اليزدي رؤساء النجف إلى مدرسته للاجتماع بهم، وعرض عليهم برقية القائد العثماني العام في العراق الّتي وصلته قبل يومين من الاجتماع، وفيها يشكر علماء الشيعة على مواقفهم. ثمّ طلب منهم السيّد اليزدي أن ينهوا الأزمة مع الحكومة ويعودوا إلى طاعتها ووعدهم باستحصال العفو عنهم[3] .
استطاع السيّد اليزدي أن ينهي الأزمة بين الطرفين، حيث تنازل زعماء النجف عن جباية الضرائب فيما بعد، وقد ظلّت سلطتهم الإدارية قائمة على المدينة إلى جانب الوجود الرمزي للحكومة.
إنّ هذه المواقف الكبيرة لعلماء الشيعة، والّتي تنطلق من إخلاصهم، وفهمهم لمتطلّبات الظرف، وضرورة مساندة الدولة ضد الغزو الاستعماري، لم يقابلها الأتراک بما تستحق من تقدير حقيقي، إنـّما ظلّت سياستهم المعادية للشيعة تسير على نمطها القديم. فقد أراد الأتراک الانتقام من مدينة الحلّة على ثورتها الّتي اندلعت عام (1915م) ضمن ثورات مناطق الفرات الأوسط في تلک الفترة. وقد فكّر الأتراک أنّ الانتقام من الحلّة سيكون درساً قاسياً لغيرها من المدن فلا تفكر في الخروج عن طاعة الحكومة العثمانيّة كما حدث في النجف.
في تشرين الثاني (1916م) أرسلت الحكومة قوّة عسكريّة بقيادة «عاكف بک» فدخل الحلّة وأخذت قوّاته بحرق وهدم البيوت وقتل الأهالي، ثمّ نفّذ حكم الإعدام شنقاً بحق مائة وستّة وعشرين رجلاً[4] . وبلغ عدد القتلى ألف وخمسمائة، وتمَّ نفي أعدادٍ من الأهالي بينهم نساء وأطفال، مات قسم منهم خلال الطريق إلى الأناضول[5] .
كان لهذه الفاجعة صداها المؤثّر على المناطق الشيعيّة، حيث ظنّت أنّ الانتقام التركي سيصلها أيضاً. وكان من الطبيعي أن يكون هذا الهاجس قويّاً في مدينة النجف الأشرف بعد الّذي حصل بينها وبين الحكومة، فعقد رؤساء العشائر القريبة من النجف اجتماعاً في المدينة، ألقى فيه رئيس آل فتلة الشيخ مبدر الفرعون خطاباً حماسيّاً دعا فيه الحاضرين إلى عدم طاعة العثمانيين لظلمهم[6].
وصلت أنباء هذه التطوّرات إلى المجاهدين من أبناء الشيعة في مناطق القتال ضد الإنجليز، وكان تأثيرها سيّئاً عليهم. هذا ما تبيّنه الوثيقة التالية المؤرخة في (15 صفر 1335 ه / 11 كانون الأوّل 1916م) والمرسلة إلى السيّد اليزدي :
(السلام عليک يا مولاي يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.
إلى حضرة مولانا وملاذنا حجّة الإسلام وأبو الأيتام ومرجع الخاصّ والعام جناب السيّد «سيد كاظم» دام بقاه...
بعد تقبيل أياديكم الشريفة نخبر جنابكم الشريف خَرَجنا من النجف الأشرف بأمركم، قاصدين نصرة الدين والإسلام، حتّى إذا وصلنا لواء المنتفک شوّقْنا وهيّجْنا عشايرنا وبذلنا نفسنا ونفيسنا وبقينا مواظبين على هذا العمل، حتّى وردتنا أخبار واقعة الحلّة وحركة النجف شوّشتنا وكدّرتنا، بل أوجبت الشکّ في الدوام على علمنا وصرنا في ريب ووقفنا عن العمل بانتظار أمركم، وعشايرنا على الدوام تستفتينا فتقف على الجواب تارة ونجمل عليهم اُخرى، ونحن وقوف عن العمل والتبس علينا الأمر بانتظار أمركم وفتواكم، والسلام عليكم وعلى الأخ مولانا الشيخ أحمد وعموم السادة أبنائكم الكرام ورحمة الله وبركاته.
15 صفر 1335 من خادمكم عبدالحسين مطر)[7] .
قرّر زعماء العشائر في اجتماعهم بالنجف الأشرف القيام بتحرّک عسكري ضد العثمانيين في الحلّة قبل أن يبادروا بإرسال قواتهم إلى النجف. وكان الوضع القتالي يزداد سوءاً على جبهات القتال، حيث استعدّ الإنجليز لشنّ هجومهم الكاسح على القوّات العثمانيّة في جبهة الكوت، وهو الهجوم الّذي استمر في نجاح حتّى سقوط بغداد.
وجد علماء الدين الشيعة أنّ حركة النجف ضد الأتراک لاتخدم الموقف العسكري في التصدي للزحف البريطاني، وأنّ الظرف يستدعي تجاوز إساءات الأتراک والتمتع بالوعي السياسي المطلوب؛ لذلک مارسوا دورهم في حلّ الأزمة سلمياً مع السلطات العثمانيّة، وهذا ما توضّحه الوثيقة التاريخية التالية، وهي رسالة بعثها الميرزا محمّد تقي الشيرازي في (16 كانون الأول 1916م) إلى السيّد كاظم اليزدي، ننقلها بنصّها :
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليک يا أمير المؤمنين وعلى ضجيعيک وجاريک ورحمة الله وبركاته.
حضرة ملاذ الأنام وحجّة الإسلام السيّد الأجلّ دام ظلّه.
أمّا بعد، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أدام الله ظلّكم على المسلمين وتوفيقهم لرشدهم في طاعتک، وهداهم في امتثال أوامركم ونواهيكم، ونفعهم ببركات موعظتكم وزجركم، وحباهم ببركة ذلک خير الدارين وسلامة الدين والدنيا. فغير خفيٍّ عليكم سوء أثر التشاويش في النجف من بعض الجهّال وقبح نتيجتها ووخامة عاقبتها ومنافاتها لمراعاة حرمة المشهد المعظم واقتضائها لسوء الجوار لأمير المؤمنين 7، وأنتم أبصر بذلک وأعرف له. وإنّي مطمئنّ بدوام اهتمامكم بهذا الأمر من كل وجه ومواظبتكم على النصح والوعظ والزجر،
ولكنّي أحببت مذاكرتكم بذلک لاُشارككم في الأجر والفوز في إصلاح اُمور المسلمين. وقد كاتبنا حضرة القائد العام ومعاون الولاية بطلب العفو والمراعاة سائلين من الله صلاح أمر الإسلام، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
في 20 شهر صفر الخير 1335        
الأحقر محمّد تقي الشيرازي، الختم[8] .

مارس رؤساء النجف سلطاتهم الإدارية على المدينة حتّى أواخر تموز 1917م، حين عيّنت سلطات الاحتلال البريطاني الكابتن «بلفور» حاكماً سياسياً لمنطقة الشاميّة والنجف. وقد كان الإنجليز حذرين في هذا الإجراء، إذ لم يجعلوا مقرّ الحاكم السياسي في النجف؛ لئلّا يستفزّوا المشاعر الإسلامية؛ وليمنعوا ردود الفعل المحتملة. إنّما عيّنوا حميد خان ـ وهو رجل شيعي بمنصب ـ وكيل الحاكم، وقد رفض حميد خان المنصب؛ لكنّه استجاب لطلب السيّد اليزدي وكذلک بعض أصدقائه كالشيخ عبدالكريم الجزائري والشيخ جواد الجواهري والميرزا مهدي ابن الآخوند الخراساني، حيث كانوا يرون في قبوله الوظيفة خدمةً للأهالي.
في هذه الأزمة لعب السيّد اليزدي دوراً أساسياً في إنهائها ومنع تطوّراتها، والّتي لو تطوّرت لعرّضت النجف والمناطق الثائرة إلى انتقام الإنجليز، في وقت لم تكن فيه هذه المناطق مستعدّة لمواجهة الإنجليز.
طلب السيّد اليزدي من بلفور أن يغادر النجف، ويترک عطية أبو كِلل وكاظم صُبّي وشأنهما، وقد استجاب بلفور لهذا الطلب، وبذلک أنهى السيّد اليزدي أزمة حادّة كادت تتطوّر إلى مواجهة مسلّحة غير متكافئة بين الإنجليز وزعماء النجف. بل إنّ السلطات البريطانيّة تراجعت عن موقفها. ففي 25 تشرين الثاني 1917م، أي بعد أقلّ من اُسبوع على انتهاء الأزمة، اتّخذت الإدارة البريطانيّة قراراً بتزويد النجف  بالحبوب، ومنع نقلها من الفرات الأوسط إلى بغداد[9] .
أدرک «كوكس» أ نّه أمام واقع حسّاس؛ لذلک قام خلال جولته بزيارة السيّد كاظم اليزدي في الكوفة، وشيخ الشريعة الإصفهاني في النجف الأشرف[10] ،
وهو في ذلک يحاول امتصاص أية ردّة فعل قد تنشأ من قبل علماء الدين فيما لو اتخذت السلطات البريطانيّة بعض الإجراءات الإداريّة والعسكريّة. ورغم أنّ جولة كوكس أسفرت عن اتّخاذ سلطات الاحتلال إجراءات تقضي بتعزيز وجودها العسكري في تلک المناطق، إلّا أنّ الحذر من ردّة فعل علماء الشيعة اضطرّها إلى تنفيذ مشروعها بطريقة هادئة على غير ما تريده وتطمح إليه. وقد شرح المس بيل تنفيذ المشروع بالقول: (وبإشارة منه ـ كوكس ـ وُضِعت مفرزات صغيرة في مختلف النقاط الكائنة على النهر وليس في النجف نفسها، حيث إنّ هذه البلدة بنفوسها البالغة (000/40) نسمة كانت أحوالها تستدعي وضع عدد كبير من الجنود فيها. وقد تكهّن من يعنيهم الأمر بأنّ وجود قوّة مختلطة في الكوفة الّتي تبعد مسافة سبعة أميال عنها سيكون له التأثير التهديئي المطلوب بصورة غير مباشرة)[11] .
إلى هنا ينتهي أحد المقاطع التاريخيّة في علاقة مدينة النجف الأشرف مع الإنجليز، والّذي كان زعماء النجف المحلّيون يمثّلون مصدر الفعل التاريخي في حركة الأحداث، وتُمثّل القيادة الدينيّة المتمثّلة بالسيّد اليزدي مصدر الردع للإجراءات البريطانيّة المضادة.

***********************************
(1) الوثيقة من السيّد عبدالعزيز الطباطبائي ضمن وثائق خطّية أثبتناها آنفاً.
(2) العراق.. نشأة الدولة، د. غسان العطية : 118 ـ 119.
(3) لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، د. علي الوردي: 4/244.
(4) تاريخ الحلّة، القسم الأوّل، د. علي الوردي: 169.
(5) لمحات تاريخية : 309.
(6) الحقائق الناصعة في الثورة العراقية، الفريق مزهر آل فرعون1:/45.
(7) وثيقة مخطوطة في مجموعة الوثائق الخاصة للسيّد اليزدي التي يحتفظ بها السيّدعبدالعزيز الطباطبائي.
(8) وثيقة مخطوطة من الوثائق الخاصة للسيّد اليزدي، السيّد عبدالعزيز الطباطبائي.
(9) لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، د. على الوردي5:/ق2/211.
(10) لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، د. على الوردي5:/ق2/211.
(11) فصول من تاريخ العراق القريب، المس بيل، ترجمة جعفر الخياط: 121.