طباعة

المطلب الثاني: شخصية المنقذ في الديانة الزرادشتية:

 (لقد أتى زرادشت ليخلِّص شعبه من تسلِّط الكهنة ومن عبادة الكواكب والنجوم الضالَّة، تماماً كما فعل نبي الله إبراهيم (عليه السلام))(٤٨٣).
لذلك يعد زرادشت المنقذ الأول في الديانة الزرادشتية حيث أتى لينقذ الناس من أيدي السحرة والجهل والملوك الظالمين والشرور وليطهِّرهم من أدناس الذنوب وليرتقي بهم حتَّى يكونوا جنود الخير وصنّاعه ضد جنود الشر ومعاونيه(٤٨٤).
وهنا لابد أن نلقي بلمحة بسيطة عن حياة المنقذ زرادشت، من هو زرادشت؟
لقد ولد زرادشت في الفترة الزمنية المنحصرة من (١٠٠٠ق.م إلى٦٥٠ق.م)(٤٨٥)، ولد في المناطق الريفية القريبة من بحر قزوين، ويقال إنَّ الطبيعة احتفلت بميلاده وانتشرت صوت قهقهاته التي أبعدت الأرواح الشريرة في الأرجاء عند ولادته، وأحاط البيت الذي ولد فيه نور ساطع، ولذا تحقَّقت نبوءة أحد الكهنة الذي أخبر الملك بأنَّ هناك مولوداً سيزول ملكه على يديه وسيولد، وعند ولادته ستتحقَّق معاجز عديدة ومنها النور والثور الذي تكلَّم مبشِّراً بولادته، لذا حاول الملك قتل الطفل زرادشت بعدَّة محاولات، منها: ألقاه في النار كي تحرقه لكن كانت النار عليه برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم النبي (عليه السلام)(٤٨٦).
وعندما بلغ السابعة من عمره أرسله والده للمعلمين كي يتم تعليمه الحكمة والمعارف العلوم المختلفة فشرع بدراسة العلوم حتَّى بلغ ما بلغ من تحصيل علمي واسع المعارف والمدارك السامية وقد ساعدته فطنته ورجاحة رأيه وذكاؤه وسلامة فطرته على تحصيل العلوم والبراعة فيها(٤٨٧).
فبدأت الأسئلة الكبيرة والمسائل المركبة تنقدح في عقله، خاصَّة تلك التي تدور حول الكون والخلق والحياة، وهو يتأمل حال المظلومين والضعفاء والمساكين.
واستمرَّ في انعزاله وتأمُّلاته، وقد كان يتمتَّع بتقوى وزهد، واشتهر بأخلاقه الفاضلة وحبِّه لعائلته واحترامه لأبويه، وقد أقسم يوماً أن لا يعود حتَّى يجد الأجوبة المناسبة حول خالق الكون ومسألة الخلق والوجود وسبب المشاكل والآلام البشرية(٤٨٨).
وقد وصل إلى نهر دايتي في أذربيجان، هناك وفي أثناء تأمُّله هبط عليه سيد الملائكة فاهومانا بوحي الأبستاق منزل من الإله أهورامزدا وكذلك المعارف الحياتية التي تخص الكون والحياة وكذلك الحياة الأخرى التي بعد هذه الحياة والجنة التي هي أكثر منطقة رائعة وهادئة وأكثر مكان سعيد في الوجود(٤٨٩)، وكذلك المكان الذي هو محل وجود وعذاب أهريمان وجنوده الأشرار، ويوجد مكان بين هاتين المنطقتين هو الموضع الذي يكون محلّاً لتطهير الناس الذين مازال بعض الشر في نفوسهم كامن(٤٩٠).
وبدأ ينشر دعوته في الأراضي، ويدعو الناس لدينه ومعتقده الجديد، لكن لم يستجب له سوى عدد قليل، ممّا دعاه إلى الهجرة إلى بلاد الطورانيين متأمِّلاً الاستجابة التي يتطلَّع إليها، راغباً في أن يتبعه الناس، لكن باءت محاولاته بالفشل حتَّى عانى ما عانى منهم، حتَّى لقي حتفه على أيديهم فيما بعد كما سأُشير إلى ذلك في الصفحات التالية(٤٩١).
لكن بانت البشائر عندما اعتنق ابن عمِّه سينوتاء الدِّين الجديد وشدَّ عضده وناصر دينه، واستمرا ينشران الدِّين الجديد، حتَّى أوحي له أن يذهب إلى بلخ ويعرض دينه على حاكمها كشتاسب الذي رقَّ قلبه لما سمع وأعلن اعتناقه الدين الجديد(٤٩٢).
إنَّ هذه الحفاوة به لم تستمر لأنَّ الحاسدين في البلاط دبَّروا لزرادشت المكائد وعانى بسببهم الكثير حتَّى تم سجنه(٤٩٣)، لكنّ المعاجز والبراهين كانت تظهر على يديه كشفاء المرضى ومعالجتهم، حتَّى أنَّه قد شفى جواد الملك الذي كان يحبُّه كثيراً وكان هذا العمل لقاء إخراجه من السجن، وكذلك طلب من الملك معاقبة كل من كاده ودبَّر له المكائد(٤٩٤).
فقام الملك بتلبية ما طلبه زرادشت وآمن به والملكة وولي العهد وحاشية الملك ووزرائه، ومنهم الشخصية المشهورة جماسب، الذي أصبح فيما بعد حواري زرادشت، وقد وثَّق زرادشت هذه العلائق بتزويجه أخته من جماسب الوزير الأول، وتزوَّج هو من أخت الوزير الثاني فراشا أوسترا، فانتشر الدِّين في البلاد وعمَّ ذكر الزرادشتية وتعاليمها في الأراضي، حتَّى اعتنق الزرادشتية معظم أهالي إيران(٤٩٥).
وتمَّ شن الحروب على أعداء العقيدة الزرادشتية خاصَّة من أعدائهم الطورانيين الذين كانوا يعتدون على المزارعين وينهبون ماشيتهم ومحاصيلهم، واستمرَّت الحرب قائمة حتَّى كانت نهاية زرادشت الذي قضى قتيلاً وهو ابن السابعة والسبعين في جمع من الكهنة ورجال الدين في أحد الهياكل حيث كانوا يوقدون النار المقدَّسة فأغار عليهم أعداؤهم الطورانيون وتمَّ طعنهم بالسيوف وقتلهم جميعاً، فامتدَّت دماؤهم إلى الموقد وأخمدت دماءهم النار المقدَّسة(٤٩٦). وقد قتل زرادشت بعد أن ناهز السابعة والسبعين عاماً وأنَّ ديانته قد تعرَّضت للتحريف بعد مقتله بمدة قصيرة على يد رجل أيضاً اسمه زرادشت وتمَّ وصفه بالمدَّعي الكاذب، وهو الذي جعل الناس يتحوَّلون من تقديس النار إلى عبادتها(٤٩٧).
هذه هي نهاية حياة أوَّل منقذ أو أوَّل سوشيانت وكما هو موجود في الديانة الزرادشتية، وتجدر الإشارة إلى أنَّ هناك عدداً من المنقذين في الديانة الزرادشتية ولابدَّ أن يسبق هؤلاء المنقذين عدد من الممهدين لهم ليبسطوا لهم الطريق أمامهم، ومن هؤلاء الممهِّدين هو بهرام ورجاوند وبشوتن الذي قاد كل منهم ثورة في فترة من فترات الزمن كان آخرها ثورة بشوتن ضد الظلم والأشرار.
***************
(٤٨٣) وافي، الأسفار المقدسة في الديانات السابقة للإسلام: ص١٢٧.
(٤٨٤) خان، ميرزا عبد المحمد، زرتشت باستاني وفلسفة، (تهران: شركة سهامى انتشار، ١٣٤٩هـ/١٩٣٠م): ص٦٦-٦٧.
(٤٨٥) المقدسي، الموجز في المذاهب والأديان: ص٥٧.
(٤٨٦) وافي، الأسفار المقدسة في الديانات السابقة للإسلام: ص١٢٧.
(٤٨٧) المقدسي، الموجز في المذاهب والأديان: ص٥٧.
(٤٨٨) المصدر السابق: ص٥٨.
(٤٨٩) وافي، الأسفار المقدسة في الديانات السابقة للإسلام: ص١٣٠.
(٤٩٠) المقدسي، الموجز في المذاهب والأديان: ص٧٦.
(٤٩١) وافي، الأسفار المقدسة في الديانات السابقة للإسلام: ص١٣١.
(٤٩٢) بارندر، المعتقدات الدينية لدى الشعوب: ص٩٠.
(٤٩٣) وافي، الأسفار المقدسة في الديانات السابقة للإسلام: ص١٣٢.
(٤٩٤) المصدر السابق: ص١٣٣.
(٤٩٥) المصدر السابق: ص١٣٣-١٣٤.
(٤٩٦) وافي، الأسفار المقدسة في الديانات السابقة للإسلام: ص١٣٥.
(٤٩٧) خان، زرتشت باستاني وفلسفة: ص١٤١.