طباعة

4 - التكتُّم على أسماء أصحاب المشاريع الإصلاحية الإلهية

 إنَّ المتتبِّع في مشاريع الإصلاح الإلهي التي يخبر عنها قبل زمانها يجد أنَّها يتمُّ التعمية عليها منعاً من الاطِّلاع التفصيلي على الشخصيات التي أُوكلت لهم قيادة تلك المشاريع، وفي ذلك سلوك سبيل الأسباب الطبيعية لحماية المشاريع وقادتها، فحين تقتضي الحكمة أن يبعث نبيٌّ في بني إسرائيل وتأتي البشارة الإجمالية أنَّه من نسل عمران تنصرف كلُّ الأذهان إلى أنَّه ابن مباشر له، وحين تكشف ولادة زوجته أنَّ الحمل لم يكن إلَّا أُنثى تصاب أُناس بالذهول، ثمّ يُعمّى الأمر على الناس حتَّى تفاجئهم العابدة القدّيسة بصبي تحمله بين يديها، فما كان منهم إلَّا أن اتَّهموها بالمنكر، وحين تُسأل عن ذلك تشير إليه بما يُفهَم منه أنَّه هو الذي سيُجيب عن تساؤلاتكم، فيشاء الله تعالى أن يخرق نواميس الطبيعة فينطق الصبي حديث الولادة بأنَّه النبيُّ الذي كان في حمله وولادته ونطقه آية للناس ورحمة، فيبهت هذا الخروج الصارخ عن المألوف أنفسهم ويُخرس ألسنتهم.
وحين يقع في التقدير الإلهي أن يُبعَث النبيُّ الخاتم بالدين الخالد والمشروع الإلهي الكبير، وتقتضي الحكمة الإلهية التنويه عنه ينطق عيسى (عليه السلام) في دعوته لبني إسرائيل بقوله: ﴿مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ (الصفّ: ٦).
لكنَّه لم يُبيَّن بالنحو الذي لا يقبل اللبس والاشتباه، فالناس لم تكن تعرفه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) باسم أحمد، بل هو محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ولا شكَّ أنَّ تنويه عيسى (عليه السلام) بذلك الاسم لم يكن لأجل التعرُّف عليه، وإلَّا لكان المناسب أن يُسمّيه باسمه الذي كانت تعرفه الناس به، وبملاحظة أنَّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يقول: «اسمي في السماء أحمد»(٥٠) يتبيَّن أنَّ التعرُّض للتسمية كان للتنويه لا للتشخيص.
ولهذا لم يستعمل النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ذكره باسمه في الإنجيل للاحتجاج على النصارى، بل كان عليه أن يدفع الاختلاف بين الاسمين ما تعرفه الناس به وما نصَّ عليه عيسى (عليه السلام)، ولم أقف على محاججة واحدة منه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عليهم بذلك ليُثبِت أنَّه هو النبيُّ المبشَّر به.
بل سلك معهم سبيل المنطق والاستدلال، ودعم ذلك من خلال المعجزات إن كانت مؤثِّرة فيهم، وإن سُدَّت أبواب الاستجابة دعاهم إلى المباهلة كما حصل مع نصارى نجران.
حين ترسم البيانات خريطة مسلك الإمامة ومتسنّمي ذلك المنصب، وتشير إلى أنَّ آخرهم يُمثِّل بشارة الأنبياء ومفردة تحقُّق العدل الإلهي على الأرض، ليكون معلِّماً للحياة في الأرض بعد أن امتلأت ظلماً وجوراً يُعمى على الناس أمر ولادته، ويخفى حتَّى على الخواصِّ إلَّا في دائرة ضيِّقة جدّاً، بل ويحرم التصريح باسمه، وفي ذلك سدٌّ لباب تعرُّض أعداء المشروع الإلهي لحياته بسوء، والروايات صريحة في أنَّ بعض حكم الغيبة ترجع إلى ذلك.
حتَّى إذا قضى الله تعالى بقضائه أن يخرج (عليه السلام) كان خروجه بغتةً، فمثله كمثل الساعة ﴿لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ﴾ (الأعراف: ١٨٧).
على أنَّ معرفتنا باسمه في زماننا لا تُشكِّل خطراً عليه، لأنَّ الغرض ليس تعيين شخصه من خلال الاسم، فهو غائب عن الأنظار ليس بإمكان شخص أن يُطبِّق الاسم على المسمّى دون الخروج عن الموضوعية، وحين يعلن عن نفسه في المسجد الحرام يكون الأمر التكويني بحفظه ونصرة حركته قد صدر من الله تعالى، فيجيء دور الإعلان لا الكتمان، كما أعلن النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن دعوته، وأعلن عيسى (عليه السلام) عن نبوَّته.
فكيف والحال هذه أن يأتي من هو بزعمه قائد التحرُّك للتمهيد لدولة الحقِّ وبشارة الأنبياء (عليهم السلام)، ويقول: لقد أثبتت الروايات هذا الأمر لي، وأنا الذي أسمتني بأحمد، وأنّي من المدينة الكذائية؟ مع ملاحظة أنَّ حركته لو كانت حقَّة فإنَّ فيها تهديداً لكلِّ النُّظُم السياسية في العالم أجمع، وكثير من النُّظُم الحالية قائمة على الظلم والاستبداد ومتَّخذة للكفر والإلحاد مسلكاً ومذهباً تدين به، ممَّا يعني أنَّ المبرِّرات للإيقاع به ووأد حركته ستكون على مستوى عالٍ من الشدَّة.
وهذا الوجه إن لم يكن دليلاً فلا أقلَّ من كونه مؤيِّداً يُنتَفع به في دعم بقيَّة الوجوه.
ولكن هذا الوجه يضعف من خلال وجود المعارض، فقد روى الصدوق بسندٍ تامٍّ عن أبيه وابن الوليد معاً، عن سعد والحميري ومحمّد العطّار وأحمد بن إدريس جميعاً، عن ابن عيسى، عن البزنطي، عن أبان بن عثمان، عن محمّد الحلبي - فالرواية موثَّقة لمكان أبان بن عثمان الذي هو من أصحاب الإجماع -، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إنَّ يوسف بن يعقوب صلوات الله عليهما حين حضرته الوفاة جمع آل يعقوب وهم ثمانون رجلاً، فقال: إنَّ هؤلاء القبط سيظهرون عليكم ويسومونكم سوء العذاب، وإنَّما ينجيكم الله من أيديهم برجل من ولد لاوي بن يعقوب اسمه موسى بن عمران، غلام طوال جعد آدم، فجعل الرجل من بني إسرائيل يُسمّي ابنه عمران ويُسمّي عمران ابنه موسى»(٥١).
فالرواية سمَّته وبيَّنت أنَّه صاحب مشروع خلاص بني إسرائيل وأعطت صفاته الجسدية، لكنَّها إنَّما ذكرته لبني إسرائيل دون فرعون، ويبدو أنَّ فرعون لم يفهم تلك الأوصاف، لأنَّه بدأ بمراقبة كلِّ نساء بني إسرائيل.
ويمكن مناقشة هذا الجواب ببعض الوجوه التي أعرضت عن ذكرها والوقوف عندها حذراً من الإطالة، ولعدم ترتُّب فائدة كبيرة خصوصاً مع اتِّخاذه مؤيِّداً لا دليلاً.
***************
(٥٠) راجع: تفسير القمّي ٢: ٣٦٥.
(٥١) كمال الدين: ١٤٧/ باب ٦/ ح ١٣.