طباعة

الأوّل: خوف الذبح

 ممَّا ورد في الروايات أنَّه يخاف الذبح، ولعلَّ هذا أكثر ما تكرَّر في الروايات الشريفة كبيان للوجه الذي دعا إلىٰ غيبة الإمام عليه السلام.
وبيانه أنَّنا بعد الفراغ من أنَّ الله تعالىٰ غالب علىٰ أمره، وأنَّ كلّ ما قدَّره لا بدَّ كائن، وبعد اقتضاء الحكمة عدم خلو الأرض من حجَّة وإلَّا لساخت بأهلها لزم أن يبقىٰ الإمام حيّاً ما دام الله تعالىٰ لم يأذن بعد بقيام دولة الحقّ بل حتَّىٰ بعد قيامها، لكن ما يهمّنا هو ما يسبق عصر الظهور، وحينئذٍ يدور الأمر بين أن يبقىٰ ظاهراً بين الناس يعرفونه باسمه وصفته وبين أن يغيب عنهم ولو باسمه. وظهوره عليه السلام مع تأكيد الروايات علىٰ أنَّه المنقذ ومبير العتاة والظلمة وأنَّه محيي السُنَّة ومميت البدعة يعني تقاطع بقائه وما وعد به مع ما يريده الحكّام الظلمة بل حتَّىٰ بعض المؤسّسات الدينية تعاديه وتسعىٰ به كما حصل لآبائه عليهم السلام حيث سعىٰ بعض علماء السوء للإيقاع بالأئمّة عليهم السلام حسداً لهم، وهذا سيدعو إلىٰ السعي لقطع منشأ الخوف هذا وقتل الإمام عليه السلام.
وقد حدَّثنا التاريخ أنَّ حكّام الجور قد احتاطوا لذلك قبل ولادة الإمام عليه السلام بمدَّة طويلة، وما أخذ الإمام الهادي عليه السلام إلىٰ سامراء وإبقاؤه تحت الإقامة الجبرية إلَّا لمثل هذا السبب. واستمرَّ ذلك في مدَّة إمامة الإمام الحسن العسكري عليه السلام مع التفتيش بين الفينة والأُخرىٰ في بيته بحثاً عن هذا المولود الموعود، ظنّاً منهم أنَّ بإمكانهم إعجاز الله تبارك تعالىٰ ومنع وقوع ما يُريد أن يقع. والاستكبار يدفع المتَّصف به إلىٰ الاعتقاد بأنَّ لديه القدرة علىٰ الوقوف أمام ما أرادته السماء، بل قد يكون استكبارهم مانعاً من تصديقهم بأنَّه من المحتوم. والظنّ والاحتمال المخالف لا مجال له في الحكم وإدارة البلدان فينطلقون بردود عنيفة لدرء احتمالات سيّئة ولو كان الاحتمال ضعيفاً. وأكثر الصولات التي يقوم بها حكّام الجور لا تنطلق من العلم بالأثر السيّئ بل منطلقها الاحتمال ولو كان ضعيفاً. وبقاء الإمام عليه السلام حيّاً يعني أعظم خطر علىٰ ملكهم، بل علىٰ حياتهم لأنَّهم حماة الباطل ومروّجو البدعة ومغتصبو حقوق الناس، وهذا سيدفعهم إلىٰ قتل الإمام عليه السلام إن أمكن ذلك في اعتقادهم. وقد بحثوا عنه كثيراً بعد اطّلاعهم علىٰ وجوده حتَّىٰ حرم ذكره بالاسم لئلَّا يصل إليه أعداؤه. وهذا السعي يُؤكِّد هذه الحقيقة التي ذكرتها بعض الروايات قبل أكثر من قرنين من الزمان، ممَّا ينبه إلىٰ انطلاق المتحدِّث بها من الاطّلاع علىٰ الغيب وتمتّعه بالعلم اللدنّي، وأنّىٰ لمن لم يكن كذلك أن يُخبر بالغيبة وأنَّ أعداءه سيسعون لقتله؟
وإذا أضفنا لذلك أنَّ الحكمة قد اقتضت بقاءه لأكثر من ألف ومائة سنة إلىٰ الآن ولا نعلم متىٰ تنتهي، إذ لا نعلم متىٰ تنكسر راية الباطل ويحكم الحقّ والعدل كلّ الدنيا، فإنَّ ذلك يعني تراكم الأحقاد علىٰ ذلك الوجود المقدَّس وقوَّة الدواعي التي تدعو للإقدام علىٰ قتله عليه السلام.
إنَّ الاحتمال عند بعض النفوس سينقلب إلىٰ علم جزمي بأنَّه ناشر راية الحقّ ومهلك أعداء الله ومزيل حكم الطغاة، وتأثير العلم لا شكَّ أكثر من تأثير الاحتمال ولو كان ظنّاً، إنَّ تعيّن شخصه خارجاً يعني بالنسبة للحاكم سيفاً مسلطاً علىٰ رأسه لا يعلم متىٰ يقع عليه فيهلكه. وحالة الانتظار ثقيلة جدّاً علىٰ النفوس خصوصاً إذا كان المنتظر أمراً خطيراً، ولا يمكن للنفس البشرية أن تتعامل معه بهدوء أو أن تتحمَّله. وهذا يعني أنَّ كلّ خليفة سيستلم الحكم سينظر من أوّل أيّام خلافته إلىٰ الإمام عليه السلام بما أنَّه يُمثِّل المهلك له لا مجرَّد أنَّه عدوّ.
وإذا كان العداء والخوف علىٰ الحكم قد دعا الجبابرة إلىٰ قتل آبائه عليهم السلام جميعاً مع علم الكثير منهم أنَّهم ليسوا أصحاب هذا الأمر وليسوا من ينصرون علىٰ عدوّهم وينشرون راية الهدىٰ، فكيف لا يندفعون إلىٰ قتله عليه السلام لو كان ظاهراً؟
لا شكَّ في أنَّ التراكم الزماني للخوف من الإمام عليه السلام سيجعل الدافع لقتله من كلّ خليفة لاحق أكثر من السابق، إلَّا إذا طالت المدَّة كثيراً فإنَّ اليقين بأنَّه صاحب الأمر والزمان لا يستلزم حينها اليقين بأنَّ زمان حكمه قد حلَّ.
وهذا مع اقتضاء الحكمة بقاء المعصوم عليه السلام يعني لا بدَّ من طريق معجز فيستمرّ الإعجاز ويتكرَّر عند كلّ محاولة من عدوّه لقتله. وغيابه عن الأعين معجزة واحدة طويلة الأمد دعت إليها الضرورة فساغت كما دعت قبل ذلك إلىٰ أن لا يظهر حمل أُمّه الطاهرة به إلَّا آخر ليلة ولادته وكما دعت إلىٰ أن تكون رضاعته من غير الطريق الطبيعي، سوَّغ كلّ منهما انحصار طريق المراد الإلهي بهما، فسوَّغ الاضطرار أن يعيش ويغيب بطريقة معجزة أيضاً.
إنَّ الضرورة وفق الأسباب الطبيعية قاضية بقتل من ظهر وأُشير إليه بالأيدي بالبيان المتقدِّم، خصوصاً إذا كان من سيُؤدّي الفصل الأخير في قصَّة تكامل البشرية ونشر الفضيلة.
وفي رواية عن عبد الله بن عطا، قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: إنَّ شيعتك بالعراق كثيرة والله ما في أهل بيتك مثلك، فكيف لا تخرج؟ فقال: (يا عبد الله بن عطاء قد أخذت تفرش أُذنيك للنوكىٰ(٧٣)، إي والله ما أنا بصاحبكم). قلت: فمن صاحبنا؟ فقال: (أُنظروا من عمي علىٰ الناس ولادته فذاك صاحبكم. إنَّه ليس منّا أحد يُشار إليه بالإصبع ويمضغ بالألسن إلَّا مات غيضاً أو رغم أنفه)(٧٤).
وفي أُخرىٰ عن أيّوب بن نوح، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام: (... ما منّا أحد اختلفت إليه الكتب، وأُشير إليه بالأصابع، وسُئل عن المسائل، وحُملت إليه الأموال، إلَّا اغتيل أو مات علىٰ فراشه، حتَّىٰ يبعث الله عز وجل لهذا الأمر غلاماً منّا خفي الولادة والمنشأ، غير خفي في نسبه)(٧٥).
وإذا لاحظنا طول مدَّة بقائه وفترة إمامته بعد اقتضاء الحكمة ذلك تجلّىٰ لنا أنَّه وفق الأسباب الطبيعية لا بدَّ أن يُقتل إن بقي ظاهراً.
(وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) (التوبة: ٣٢).
(وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) (الصفّ: ٨).
فكان لا بدَّ للوصول إلىٰ الغرض الإلهي من إعمال المعجزة وخرق المألوف والإتيان بغير المعروف علىٰ أنَّه حالة طبيعية _ وإن وجدت لها مماثلات قليلات _، وإطالة عمر الإمام عليه السلام غائباً لا ظاهراً كما لم يُعرَف الخضر عليه السلام مع عدم الشكّ في حياته، وكرفع عيسىٰ عليه السلام مكانه العلي عند ربّه الكريم.
***************
(٧٣) أي الحمقىٰ. (أُنظر: لسان العرب ١٠: ٥٠١).
(٧٤) الكافي ١: ٣٤٢/ باب في الغيبة/ ح ٢٦.
(٧٥) الكافي ١: ٣٤١/ باب في الغيبة/ ح ٢٥.