طباعة

ثانياً : تحرير محلّ النزاع

ثانياً : تحرير محلّ النزاع

 

إنّما قيّدنا الرفع ]في التعريف[ بالأمر الثابت في الشريعة ليخرج به ارتفاع الحكم بسببب ارتفاع موضوعه خارجاً ، كارتفاع وجوب الصوم بانتهاء شهر رمضان ، وارتفاع وجوب الصلاة بخروج وقتها ، وارتفاع مالكيّة شخص لماله بسبب موته ، فإنّ هذا النوع من ارتفاع الأحكام لا  يسمّى نسخاً([1]) ، ولا  إشكال في إمكانه ووقوعه ، ولا  خلاف فيه من أحد .

ولتوضيح ذلك نقول : إنّ الحكم المجعول في الشريعة المقدّسة له نحوان من الثبوت :

أحدهما : ثبوت ذلك الحكم في عالم التشريع والإنشاء ، والحكم في هذه المرحلة يكون مجعولاً على نحو القضية الحقيقيّة ، ولا فرق في ثبوتها بين وجود الموضوع في الخارج وعدمه ، وإنّما يكون قوام الحكم بفرض وجود الموضوع .

فإذا قال الشارع : شرب الخمر حرام ـ مثلاً ـ فليس معناه أنّ هنا خمراً في الخارج ، وأنّ هذا الخمر محكوم بالحرمة ، بل معناه أنّ الخمر متى ما فرض وجوده في الخارج فهو محكوم بالحرمة في الشريعة سواء أكان في الخارج خمراً بالفعل أم لم يكن ، ورفع هذا الحكم في هذه المرحلة لا  يكون إلاّ بالنسخ .

وثانيهما : ثبوت ذلك الحكم في الخارج بمعنى أنّ الحكم يعود فعليّاً بسبب فعليّة موضوعه خارجاً ، كما إذا تحقّق وجود الخمر في الخارج ، فإنّ الحرمة المجعولة في الشريعة للخمر تكون ثابتة له بالفعل ، وهذه الحرمة تستمر باستمرار موضوعها ، فإذا انقلب خلاًّ فلا  ريب في ارتفاع تلك الحرمة الفعليّة التي ثبتت له في حال خمريّته ، ولكن ارتفاع هذا الحكم ليس من النسخ في شيء ، ولا كلام لأحد في جواز ذلك ولا في وقوعه ، وإنّما الكلام في القسم الأول ، وهو رفع الحكم عن موضوعه في عالم التشريع والانشاء([2]) .

]وتفصيل[ الكلام فيه أنّه تارةً : يكون الحكم الثابت أوّلاً صوريّاً ظاهريّاً بداعي الامتحان ونحوه ثمّ يصدر ناسخ له ، وهذا خارج عن النسخ المصطلح ، ولا إشكال في إمكانه بل وقوعه ; إذ لا مانع من أن يتكلّم المولى لمصلحة فيه .

واُخرى : يكون حكماً حقيقيّاً بداعي البعث والزجر . وهذا على أقسام :

فإنّه إمّا أن يكون في مقام الإثبات محدوداً بحدٍّ خاص ، وهو أجنبي عن النسخ ، وإمّا أن يكون مهملاً في مرحلة الإثبات، ثمّ يرد الثاني فيكون مبيّناً لإجماله لا ناسخاً له ، فجميع هذه الاقسام خارجة عن النسخ المصطلح . وإمّا أن يكون بحسب مقام الإثبات مطلقاً دالاًّ على الاستمرار وضعاً أو إطلاقاً، فيرد الدليل الثاني ويرفع ذاك الاستمرار ، فيكشف عن عدم كونه مراداً جدّياً من أول الأمر ، نظير التخصيص في الأفراد ، وهذا هو المراد من النسخ اصطلاحاً ، كما هو المناسب للفظه لغة ، فإنّه يقال : « نسخت الشمس الظل إذا رفعته »([3]) .

 

 

--------------------------------------------------------------------------------

[1] مصباح الاُصول ج 1/ القسم 2 : 547 ، وبلفظه في المحاضرات 5 : 328 قال ما  نصّه : « ومنه يظهر أنّ ارتفاع الحكم بارتفاع موضوعه ـ كارتفاع وجوب الصلاة بخروج وقتها ، ووجوب الصوم بانتهاء شهر رمضان ، وهكذا ـ ليس من النسخ في شيء » .

            وفي الهداية في الاُصول 2 : 385 ، قال : « حقيقة النسخ بالنسبة إلى غير العالم بالغيب هو الرفع ، مثلاً : يرى مصلحة في فعل فيأمر به في زمان ثم يبدو ويظهر له أنّه ذو مفسدة و]أنّه [أخطأ فينسخه ويرفع ما أثبت ، وأمّا بالنسبة إلى العالم بالغيب ـ كالباري تعالى ـ هو الدفع لا  الرفع ، مثلاً : يأمر بفعل ويظهر دوامه واستمراره لمصلحة في إظهار الدوام والاستمرار ، مع أنّه في الواقع لا  يريده إلاّ في زمان معيّن خاص ثم ينسخه » .

[2] البيان : 278 . وفي مصباح الاُصول ج1 / القسم 2 : 547 ـ 548 والمحاضرات 5 : 328 ـ 329 ، قال : « والوجه في ذلك هو أنّا قد ذكرنا أنّ للحكم المجعول في الشريعة المقدّسة مرتبتين :

            الاُولى : مرتبة الجعل ، وهي مرتبة ثبوت الحكم في عالم التشريع والانشاء ، وقد ذكرنا في غير مورد أنّ الحكم في هذه المرتبة مجعول على نحو القضايا الحقيقيّة التي لا تتوقّف على وجود موضوعها فيه سواءً أكان موجوداً حقيقةً أم لم يكن ، مثلاً قول الشارع : شرب الخمر حرام ، ليس معناه أنّ هنا خمراً في الخارج ، وأنّ هذا الخمر محكوم بالحرمة في الشريعة ، بل مردّه هو أنّ الخمر متى ما فرض وجوده في الخارج فهو محكوم فيها ، سواءً أكان موجوداً في الخارج أم لم يكن .

            الثانية : مرتبة الفعليّة ، وهي مرتبة ثبوت ذلك الحكم في الخارج بثبوت موضوعه فيه ، مثلاً : إذا تحقّق الخمر في الخارج تحقّقت الحرمة المجعولة له في الشريعة المقدسة ، ومن الطبيعي أنّ هذه الحرمة تستمر باستمرار موضوعها خارجاً فلا يعقل انفكاكها عنه حيث إنّ نسبة الحكم إلى الموضوع من هذه الناحية نسبة المعلول إلى العلّة التامّة ، وعليه فإذا انقلب الخمر خلاًّ ، فبطبيعة الحال ترتفع تلك الحرمة الفعليّة الثابتة له في حال خمريته ; ضرورة أنّه لا  يعقل بقاء الحكم مع ارتفاع موضوعه وإلاّ لزم الخلف ، وبعد ذلك نقول : إنّ ارتفاع الحكم بارتفاع موضوعه ليس من النسخ في شيء ولا كلام في إمكانه ووقوعه في الخارج .

            وإنّما الكلام في إمكان ارتفاع الحكم عن موضوعه المفروض وجوده في عالم التشريع والجعل » .

[3] دراسات في علم الاُصول 2 : 317 .