تمهيد
]ذهب الأشاعرة القائلون بالجبر إلى أنّ[ العباد مجبورون في أفعالهم ، ولذا أنكروا التحسين والتقبيح عقلاً حيث إنّ موضوعهما الفعل الاختياري لا الجبري ، وتحفّظوا بذلك قدرته وسلطنته تعالى وأنّه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، ولا يسأل وهم يسألون ، ويدخل من يشاء في نعيمه وإن كان من الفجّار ، ويدخل من يشاء في جحيمه وإن كان من الأبرار ، بلاقبح في نظر العقل أصلاً . ووقعوا في شبهة إسناد الظلم إليه ـ تعالى عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً ـ في قبال المعتزلة القائلين بالتفويض ، وأنّ يد الله مغلولة ، وأنّ العباد مختارون في أفعالهم اختياراً تامّاً بحيث لايقدر هو تعالى على سلبه عنهم ، فتحفّظوا بذلك عدله تعالى ، والتحسين والتقبيح العقليّين ، ووقعوا في شبهة سلب السلطنة والقدرة عنه تعالى ، فكلّ تنحّى عن طريق الاستقامة ووقع في طرف الافراط والتفريط ، خلافاً للفرقة المحقّة الإثنى عشرية القائلين بالأمر بين الأمرين وأخذوا وتعلّموا من أئمّتهم صلوات الله عليهم أجمعين ، فتحفّظوا بذلك عدله وقدرته تعالى([1]) .
]فالجبر والاختيار[ من مهمّات المباحث الكلاميّة ، ولولا أنّ صاحب الكفاية تعرّض له في المقام لما تعرّضنا له ، فذهب الأشاعرة ـ فراراً من لزوم الشرك بزعمهم ـ إلى أنّ أفعال العباد كلّها مخلوقة لله تعالى ، وليس لإرادة العبد واختياره تأثير فيها أصلاً ، لئلاّ يلزم تعدّد الآلهة بعدد أفراد الفاعلين ، والتزموا بأنّ العباد كاسبون ، وإلاّ فالفعل مخلوق له تعالى ، غايته في الاختياريّة من الأفعال أوجد الله القدرة للعبد على إتيان العمل مقارناً لفعله من دون أن يكون مستنداً إليها دون الفعل الغير الاختياري ، فتأمّل... .
ومن الواضح أنّ لازم هذا القول هو نسبة الظلم إليه تعالى في عقابه العباد على معاصيهم ، فهم فراراً من الشرك بتخيّلهم وقعوا في الظلم .
وذهب جمع من الفلاسفة إلى ما ذكر في الكفاية من أنّ الأفعال الاختياريّة تكون مستندة إلى الإرادة ،وبذلك فرّقوا بين الفعل الارادي وغيره ، إلاّ أنّهم التزموا بأنّ إرادة العبد تنتهي إلى الإرادة الأزليّة ، وهذا أيضاً جبر نتيجة .
وأمّا المعتزلة فذهبوا إلى أنّ العباد مستقلّون في أفعالهم ، وعزلوا الله جلّ شأنه عن التأثير في ذلك زعماً منهم كفاية العلّة المحدثة في بقاء المعلول أيضاً ، وهم فراراً من الظلم وقعوا في الشرك .
و]أمّا[ الإماميّة تبعاً لأئمّتهم(عليهم السلام)]فقد[ ذهبوا إلى الأمر بين الأمرين والمنزلة بين منزلتين ، بحيث لايلزم شيء من المحذورين .
وقد مثّلنا]كما ستعرف[ للجبر بحركة يد المرتعش إذا شدّ بيده سيف وجيء بإنسان تحت السيف ، فإنّ حركة يد المرتعش تكون غير اختياريّة ولو كان ملتفتاً إلى أنّ من تحت السيف يقتل بذلك ، بل ولو كان في نفسه محبّاً لذلك أيضاً .
ومثّلنا للتفويض بما إذا كان سبع في سجن ، فأرسله السجّان ، وبذلك خرج عن قدرته واختياره ، أو بارسال حاكم إلى البلد وتفويض أمر البلد إليه بحيث لا يتدخّل السلطان في أفعاله وأحكامه وتصرّفاته ، ولو كان قادراً على عزله كما كان ذلك متعارفاً في زمان الاستبداد .
وأمّا الأمر بين الأمرين ، فمثاله ما إذا فرضنا أنّ إنساناً مصاب بالفلج لا يقدر على الحركة أصلاً ، ولكن أوصل الطبيب السلك الكهربائي إلى يده فتحرّكت ما دامت متّصلة بالسلك ، فإنّ المريض بعد ذلك يكون مختاراً في أفعاله إلاّ أنّ إفاضة القدرة عليه يكون من السلك آناً فآناً ، ففي كل آن هو غير مستغن عن الطبيب ، ومهما رفع الطبيب يده عن «مفتاح» الكهرباء تفلج يد المريض وتسقط عن الحركة ، وفي هذا الفرض لو فعل المريض فعلاً بلا مسامحة يكون الفعل مستنداً إلى المريض ; لصدوره عن مشيئته واختياره ، ويستند إلى الطبيب أيضاً ; لأنّه كان بافاضة القدرة عليه آناً فآناً ، وأفعال العباد كلّها من هذا القبيل ، فإنّ الإنسان غير مستغن عن المؤثّر دائماً([2]) .
]وكيف كان ، فإنّ مما يرد على الأشاعرة كما سيأتي[ أنّا بالوجدان نفرّق بين حركة يد المرتعش وغيرها من الحركات الاختياريّة وبين حركة النبض وتحريك الاصبع إختياراً ، والوجدان أعظم البراهين . فحينئذ نسأل من الأشعري ونقول : ما الفرق بين الحركة الاختياريّة والغير الاختياريّة ؟
فإن قال بعدم الفرق بينهما فهو انكار للوجدان ، وإثبات المطلب على منكر الوجدانيات ممتنع ، نظير من أنكر استحالة اجتماع النقيضين . وإن قال : بأنّ الفرق بينهما بمقارنة الفعل الاختياري مع القدرة ، نقول : ما المراد من القدرة ؟ إن اُريد بها الإرادة والاختيار على الفعل ، فمعها لامعنى لأن يكون الفعل مخلوقاً لله تعالى مع صدوره عن اختيار الفاعل ، وإن كان المراد منها مجرّد الشوق وحب الفعل فهو غير موجب لاختياريّة الفعل ، ولذا لا تكون حركة النبض اختياريّة ، مع أنّ الإنسان يحبّها ويشتاق إليها ; لأنّها سبب حياة الإنسان ، فما هو الفارق بين الفعلين ؟([3]) .
والحاصل : اُصول الأقوال في المقام أربعة :
الأوّل: ما ذهب إليه أكثر الفلاسفة من أنّ الأفعال الاختياريّة معلولة للإرادة ، فهي إرادته ، غير أنّ الارادة تنتهي إلى ما ليس بالاختيار فهي غير اختياريّة([4]) .
الثاني : ما ذهبت إليه الأشاعرة من أنّ الأفعال كلّها مخلوقة لله تعالى ، وليس لقدرة العبد واختياره تأثير فيها أصلاً ، وأنّ العبد معرض ومحلّ للفعل نظير الجسم الذي يعرضه السواد ، وإنّما الفرق بينهما في أنّ خلق الفعل في الإنسان يكون مقارناً لقدرته بخلاف خلق السواد في الجسم .
الثالث : ما ذهب إليه المعتزلة من استغناء العباد في أفعالهم عن المؤثّر ، وأنّهم لا يستمدّون فيها ]العون[ من الله تعالى وإن كان إيجاد مبادىء الفعل فيهم ابتداءً من الله ، وهو قادر على إعدام ما أوجده فيهم من المبادئ إلاّ أنّه بعد ما أعطاهم الحياة والقدرة وبقية المقدّمات فما لم يسترجعها يكونوا مستقلّين في أعمالهم .
الرابع : ما اختاره الإماميّة من الأمر بين الأمرين([5]) .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الهداية في الاُصول 1 : 205 .
[2] دراسات في علم الاُصول 1 : 151 ـ 153 .
[3] المصدر السابق : 154 .
[4] سوف يأتي ذكره ضمن الأدلّة العقلية الوجه الثامن .
[5] المصدر السابق : 153 .