• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

ألف ـ الوجه العقلي

ألف ـ الوجه العقلي

 

 

واستدلّ له بعدّة وجوه :

الوجه الأول : ما إليكم نصّه : «لو كان العبد موجداً لأفعاله بالإختيار والإستقلال لوجب أن يعلم تفاصيلها واللاّزم باطل ، وأمّا الشرطيّة ـ أي الملازمة ـ فلأنّ الأزيد والأنقص ممّا أتى به ممكن ; إذ كلّ فعل من أفعاله يمكن وقوعه منه على وجوه متفاوتة بالزيادة والنقصان ، فوقوع ذلك المعيّن منه دونهما لأجل القصد إليه بخصوصه ، والاختيار المتعلّق به وحده مشروط بالعلم به كما تشهد به البداهة ، فتفاصيل الأفعال الصادرة عنه باختياره لابدّ أن تكون مقصودة معلومة ، وأمّا بطلان اللاّزم فلأنّ النائم وكذا الساهي قد يفعل باختياره كانقلابه من جنب إلى جنب آخر ، ولا  يشعر بكمّية ذلك الفعل وكيفيّته» .

والجواب عنه : أنّ دخل العلم والالتفات في صدور الفعل عن الفاعل بالإختيار أمر لايعتريه شك ولم يختلف فيه اثنان ، وبدون ذلك لايكون اختياريّاً ، هذا من ناحية .

ومن ناحية اُخرى : أنّ العلم المعتبر في ذلك إنّما هو العلم بعنوان الفعل والالتفات إليه حين صدوره بأن يعلم الإنسان أنّ ما يصدر منه في الخارج ينطبق عليه عنوان شرب الماء مثلاً أو الصلاة أو الصوم أو الحج أو قراءة القرآن أو السفر إلى بلد أو التكلّم أو ما شابه ذلك ، ومن الواضح أنّه لا يعتبر في صدور هذه الأفعال بالاختيار أزيد من ذلك ، فإذا علم الإنسان بالصلاة بما لها من الأجزاء والشرائط وأتى بها كذلك فقد صدرت منه بالإختيار وإن كان لا  يعلم حقيقة أجزائها ودخولها تحت أيّة مقولة من المقولات .

فالنتيجة أنّ ملاك صدور الفعل بالإختيار هو سبقه بالإلتفات والتصوّر على نحو الاجمال في مقابل صدوره غفلة وسهواً .

وبعد ذلك نقول : إن أراد الأشعري من العلم بتفاصيل الأفعال العلم بكنهها وحقيقتها الموضوعية ، فيردّه:

أوّلاً : أنّ ذلك لا  يتيسّر لغير علاّم الغيوب ، فإنّ حقائق الأشياء بكافة أنواعها وأشكالها مستورة عنّا ، ولا طريق لنا إليها ; لأنّ افكارنا لا  تملك قوة إدراكها والوصول إلى واقعها ومغزاها .

وثانياً : أنّ هذا العلم لا يكون ملاكاً لاتّصاف الفعل بالإختيار كما عرفت ، وإن أراد منه العلم بما يوجب تمييز الأفعال بعضها عن بعضها الآخر كأن يعلم بأنّ ما يفعله خارجاً ويأتي به شرب ماء مثلاً لا شرب خلّ ، وهكذا .

وإن لم يعلم كنهه وحقيقته فهو صحيح كما مرّ ، إلاّ أنّ اللاّزم على هذا ليس بباطل ، لفرض أنّ كلّ فاعل مختار يعلم أفعاله في إطار عناوينها الخاصّة .

وإن أراد منه العلم بحدّها التام المشهوري أو برسمها التام أو الناقص فيرد عليه :

أولاً : أنّ ذلك العلم لايتيسّر لأغلب الناس ، بداهة أنّ العامي لا  يعرف جنس الأشياء ولا فصلها ولا خواصها حتّى يعرف حدّها التام أو الناقص أو رسمها التام أو الناقص .

وثانياً : قد سبق أنّ هذا العلم لا يكون مناطاً لصدور الفعل بالإختيار .

ومن هنا يظهر أنّ ما ذكره لبيان بطلان اللاّزم ـ من أنّ النائم ، وكذا الساهي قد يفعله باختياره ـ غريب جدّاً ، بداهة أنّ ما يصدر منهما من الحركة كالتقلّب من جنب إلى جنب آخر ونحو ذلك غير اختياري ، ولذا لا  يستحقّان عليه المدح والذم والعقاب والثواب ، وقد تقدّم أنّ الإلتفات إلى الفعل على نحو الاجمال ركيزة أساسية لإختياريتّه ، وبدونه لا يعقل صدوره بالإختيار .

]الوجه[ الثاني : ما إليك نصّه : «أنّ العبد لو كان موجداً لفعله بقدرته واختياره استقلالاً فلابدّ أن يتمكّن من فعله وتركه ، وإلاّ لم يكن قادراً عليه مستقلاًّ فيه ، وأن يتوقّف ترجيح فعله على تركه على مرجّح ; إذ لو لم يتوقّف عليه كان صدور الفعل عنه مع جواز طرفيه وتساويهما اتّفاقيّاً لا اختيارياً ، ويلزم أيضاً أن لا يحتاج وقوع أحد الجائزين إلى سبب ، فينسد باب اثبات الصانع ، وذلك المرجّح لا يكون من العبد باختياره ، وإلاّ لزم التسلسل ; لأنّا ننقل الكلام إلى صدور ذلك المرجّح عنه ويكون الفعل عنده ـ أي عند ذلك المرجّح واجباً ، أي واجب الصدور عنه ـ بحيث يمتنع تخلّفه عنه ، وإلاّ لم يكن الموجود ـ أي ذلك المرجّح المفروض ـ تمام المرجّح ; لأنّه إذا لم يجب منه الفعل حينئذ جاز أن يوجد معه الفعل تارة ويعدم اُخرى مع وجود ذلك المرجّح فيهما ، فتخصيص أحد الوقتين بوجوده يحتاج إلى مرجّح لما عرفت ، فلا يكون ما فرضناه مرجّحاً تامّاً ، هذا خلف . وإذا كان الفعل مع المرجّح الذي ليس منه واجب الصدور عنه ، فيكون ذلك الفعل اضطرارياً لازماً لا اختيارياً بطريق الاستقلال كما زعموه»([1]) .

]وتقريبه بعبارة اُخرى :[ إنّ نسبة الفعل والترك في كلّ فعل اختياري إلى الفاعل يكون على حدّ سواء ; لأنّ المفروض أنّ الفعل ممكن فلابّد في تحقّق أحد طرفيه من ثبوت مرجّح لذلك ، وإلاّ لزم الترجيح بلا مرجّح ، فإن ثبت مرجّح لأحد الطرفين وأوجب تحقّقه ، فقد خرج إلى حدِّ الوجوب فيجب تحقّقه ، وهذا هو المطلوب ، وإلاّ فهو باق على حدِّ الإمكان وداخلاً تحت قدرة الفاعل ، ولابدّ في تحقّق أحد طرفي الممكن من مرجّح ، فإن كان ذلك المرجّح الثاني أيضاً موجباً فقد ثبت المطلوب ، وإلاّ فالفعل باق على إمكانه إلى أن يتسلسل أو يتحقّق مرجّح موجب([2]) .

]ثمّ إنّ النصّ المذكور[ يتضمّن عدّة نقاط :

الاُولى : أنّ العبد لو كان مستقلاًّ في فعله ومختاراً فلازمه أن يكون متمكّناً من تركه وفعله .

الثانية : أنّ ترجيح وجود الفعل على عدمه في الخارج يتوقّف على وجود مرجّح ; إذ لو وجد بدونه لكان اتّفاقيّاً لا اختياريّاً .

الثالثة : أنّ وقوع أحد الجائزين (الوجود والعدم) في الخارج لو كان ممكناً من دون وجود مرجّح وسبب لانسدّ باب إثبات الصانع ، ولأمكن وجود العالم بلا سبب وعلّة .

الرابعة : أنّ المرجّح لايمكن أن يكون تحت اختيار العبد ، وإلاّ لزم التسلسل .

الخامسة : أنّ وجود الفعل واجب عند تحقق المرجّح .

ولنأخذ بالمناقشة في هذه النقاط :

أما النقطة الاُولى : فالصحيح ـ على ما سيأتي بيانه بشكل واضح  ـ أن يقال : إنّ ملاك صدور الفعل عن الإنسان بالإختيار هو أن يكون بإعمال القدرة والسلطنة ، ويعبّر عن هذا المعنى بقوله : له أن يفعل وله أن لا  يفعل ، ولا ينافي ذلك ما سنحقّقه إن شاء الله تعالى في المبحث الآتي ـ وهو بحث الأمر بين الأمرين ـ أنّ العبد لا يستقل في فعله تمام الاستقلال ، حيث إنّ كافة مبادئ الأفعال كالحياة والقدرة والعلم والاختيار مفاضة من الله تعالى آناً فآناً ، وخارجة عن اختياره بحيث لو انقطعت الافاضة آناً ما لانتفت تلك المبادئ بأسرها .

وعلى هذا الضوء فإن اُريد من استقلال العبد استقلاله من كافة النواحي فهو باطل ، لاما هو لازمه ، فإنّه صحيح على تقدير ثبوته ، وإن اُريد منه استقلاله في فرض تحقّق تلك المبادئ وإفاضتها فهو صحيح ، وكذا لازمه ، وعلى كلا التقديرين فالتالي صادق .

وأمّا النقطة الثانية : فهي خاطئة جداً ، وذلك لأنّها ترتكز على ركيزة لا  واقع لها ، وهي استحالة ترجيح وجود الفعل على عدمه بدون وجود مرجّح ، والسبب في ذلك أنّ المحال إنّما هو وجود الفعل في الخارج بلا  سبب وفاعل ، وأمّا صدور الفعل الاختياري عن الفاعل من دون وجود مرجّح له فليس بمحال ; لما عرفت من أنّ وجوده خارجاً يدور مدار اختياره وإعمال قدرته من دون توقّفه على شيء آخر كوجود المرجّح أو نحوه . نعم ، بدونه يكون لغواً وعبثاً .

وقد تحصّل من ذلك أنّه لا دخل لوجود المرجّح في إمكان الفعل أصلاً ، ولا صلة لأحدهما بالآخر ، على أنّ وجود المرجّح لاختيار طبيعي الفعل كاف وإن كانت أفراده متساوية من دون أن يكون لبعضها مرجّح بالإضافة إلى بعضها الآخر ، ولا يلزم وجوده في كلّ فعل شخصي اختاره المكلّف .

ودعوى أنّ الاختيار هو المرجّح في فرض التساوي ساقطة بأنّ الاختيار لايمكن أن يكون مرجّحاً ; لوضوح أنّ المرجّح ما يدعو الإنسان إلى اختيار أحد فردين متساويين أو افراد متساوية ، فلا يعقل أن يكون هو المرجّح ، على أنّه لو كان مرجّحاً لم يبق موضوع لما ذكر من أن ترجيح وجود الفعل على عدمه يتوقّف على وجود مرجّح ; لفرض أنّه موجود وهو الاختيار . ومن هنا يظهر بطلان ما ذكر من أنّ الفعل الصادر من دون وجود مرجّح اتّفاقي لا اختياري .

وأمّا النقطة الثالثة : فقد ظهر فسادها ممّا أشرنا إليه في النقطة الثانية من أنّ المحال إنّما هو وجود الفعل بلا سبب وفاعل ، لا وجوده بدون وجود مرجّح . وقد وقع الخلط في كلامه بين هذين الأمرين ، وذلك لأنّ ما يوجب سدّ باب إثبات الصانع إنّما هو وجود الممكن بدونه ، حيث قد برهن في موطنه استحالة ترجّح الممكن ووجوده من دون سبب وفاعل ; لأنّ حاجة الممكن إليه داخلة في كمون ذاته وواقع مغزاه ; لفرض أنّه عين الفقر والحاجة لا ذات له([3]) فلا يمكن تحقّقه ووجوده بدونه . وأمّا وجوده بدون وجود مرجّح ـ  كما هو محلّ الكلام  ـ فلا محذور فيه أصلاً .

وأمّا النقطة الرابعة : فقد عرفت أنّ الفعل الاختياري لا يتوقّف على وجود مرجّح له ، وعلى تقدير توقّفه عليه وافتراضه فلا يلزم أن يكون اختياريّاً دائماً ; لوضوح أنّ المرجّح قد يكون اختياريّاً وقد لا  يكون اختيارياً ، وعلى تقدير أن يكون اختياريّاً فلا يلزم التسلسل ، وذلك لأنّ الفعل في وجوده يحتاج إلى وجود مرجّح ، وأمّا المرجّح فلا يحتاج في وجوده إلى مرجّح آخر ، بل هو ذاتي له ، فلا يحتاج إلى سبب ، كما هو ظاهر .

وأمّا النقطة الخامسة : فيظهر خطؤها ممّا ذكرناه من أنّه لا  دخل للمرجّح في صدور الفعل بالإختيار ، فيمكن صدوره عن إختيار مع عدم وجود المرجّح له أصلاً ، كما أنّه يظهر بذلك أنّ وجوده لا  يوجب وجوب صدور الفعل وضرورة وجوده في الخارج ، وذلك لأنّ الفعل الاختياري ما يصدر بالاختيار وإعمال القدرة ، سواء أكان هناك مرجّح أم لم يكن ، بداهة أنّ المرجّح مهما كان نوعه لا يوجب خروح الفعل عن الاختيار ، ولو كان ذلك المرجّح هو الإرادة; لما سنشير إليه إن شاء الله تعالى من أنّ الإرادة مهما بلغت ذروتها من القوّة والشدّة لا توجب سلب الاختيار عن الإنسان([4]) .

]وكيف كان[ هذه الشبهة أيضاً موهونة بعد التأمّل ، فنقول : ـ نحن لا  شغل لنا بالألفاظ والاصطلاحات ، بداهة أنّ نزاع الجبر والتفويض غير مبني على وضع لفظ الإرادة ونظائره ، بل نريد أن نتأمّل الواقع ونرى ما يتحقّق في أنفسنا وجداناً عند صدور الفعل عنّا ـ لا شبهة في أنّه:

أوّلاً : لابدّ لنا من ملاحظة الفعل وتصوّره ، ثم بعد ذلك لابدّ من إدراك كون الفعل والترك ملائماً لإحدى قوانا الظاهرية أو الباطنية ، وربّما يعبّرون عنه بالتصديق بالفائدة ، ثمّ إدراك ما يترتّب عليه من المفسدة ودفعها أو توطين النفس عليها ، ثمّ نشتاقه ونميل إليه ، وبعد ذلك نرى أنّ لنا قدرة على الفعل وعلى الترك ، وبعد ذلك ليس إلاّ إعمال القدرة فتحريك العضلات من دون أن يكون هناك مرجّح إلى كونه ملائماً للطبع ، ونِعم ما عبّروا عن إعمال القدرة بالإختيار أي طلب الخير والملائم للطبع ، فلو كان هناك مرجّح موجب لم يكن مجال للاختيار أصلاً ، ولا ملزم للالتزام بوجوب المرجّح الملزم غير الملائمة للطبع أصلاً .

وما قيل : من استحالة الترجيح بلا مرجّح([5]) فليس معناه إلاّ توقّف كلّ فعل على فاعل ، كما يشير إليه قوله تعالى : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْء أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ)([6]) ، ولذا نرى بالوجدان أنّا إذا وصلنا في سيرنا إلى طريقين في أحدهما سبع يفترس من ذهب إليه ، وفي الآخر رجل يقوم بشؤون المسافرين ، فمن جهة ملاءمة الثاني لطبعنا وحبّنا لحياتنا نسير فيه ، ولكن مع ذلك لنا القدرة في الذهاب من الطريق الآخر ، وتكون قدرتنا بالنسبة إلى السير من الطريق الثاني كالقدرة على أن نسير في الطريق الأول ، وهذا ظاهر واضح .

وبالجملة ، نرى بالوجدان أنّا نفرّق بين حركة نبضنا مثلاً ، وتحريك اصبعنا بالاختيار ، والأول يتحقّق ولو لم نكن ملتفتين إليه وشاعرين به بخلاف الثاني ، فإنّه لابدّ في تحقّقه أولاً من الالتفات إليه ، ولذا ربّما يموت الإنسان جوعاً أو عطشاً مع وجود الطعام والشراب عنده ; لعدم التفاته إليهما .

وثانياً : إلى ملائمته لإحدى القوى وإلى عدم مزاحمته بما ينافي النفس من الجهات الاُخر ، فيشتاقه ويميل إليه ، ثمّ بعد ذلك يبني على فعله أو على تركه بسبب ملائمة ذلك لإحدى قواه ، ولا يبعد أن يكون هذا هو المراد من الإرادة أوالمشيئة أو الاختيار ، فيقال : أردت ففعلت ، وفي الفارسية يقال : (خواستم پس كردم) ، وربّما يكون البناء متعلّقاً بأمر حالي كما قد يتعلّق بأمر استقبالي فيقال : أُريد زيارة الحسين(عليه السلام) يوم عرفة ، أي أنا بان على ذلك ومتهىّء له في نفسي ، وربّما يعبّر عنه بعقد القلب .

ثمّ إنّ المراد من الإرادة المستندة إلى غير ذوي الشعور ، كما في قوله تعالى ، (جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ)([7]) ، هو أيضاً البناء والتهيّؤ ، غايته أنّ التهيّؤ هناك يكون طبعيّاً ، فإنّ كلّ ثقيل يميل إلى الأرض طبعاً لو لم يكن له مانع ، وفي الفعل الاختياري البناء اختياري ، وهذا هو المراد من القصد والجزم والعزم ونحو ذلك من العبارات ، والإحاطة بجميع مزايا لغات هذه الكلمات غير ميسور لنا ، وما ذكرناه هو الذي نراه في أنفسنا ، ثمّ بعد ذلك تعمل النفس قدرتها في ايجاد الفعل خارجاً ، ويكون المرجّح لذلك مجرّد ملاءمة ما اختارته مع بعض قواها ، وليس في نفسنا وراء ذلك شيء أصلاً ، وكأنّ توهّم الأشعري ناشىء من مغالطة واضحة ، وهي الخلط بين مرجّح الوجود ومرجّح الايجاد ، فمرجّح الوجود لابدّ وأن يكون موجباً ، ويستحيل صدور الفعل من غير فاعل ، وهذا بخلاف مرجّح الإيجاد فإنّ أدنى مرجّح يكفي في ترجيح الفاعل الفعل على الترك أو العكس وهو الملائمة للطبع ، ولذا لو سئل الفاعل عن سبب فعله يقول فعلته لكونه مواقفاً لميلي وشهوتي ، فلا نعني بالفعل الاختياري إلاّ الفعل المسبوق بالعلم أو القدرة ، وليس في مقدّماته سوى الالتفات وادراك ملائمته للطبع والبناء ، ثمّ إعمال القدرة وهو الفعل أو الترك ...([8]) .

ثمّ لا  يخفى أنّ المشتاق إليه حقيقة وما هو المقصود واقعاً إنّما هو الفعل الجوارحي ، وأمّا قصده والعزم أو الجزم والبناء عليه وغير ذلك من الأفعال الجوانحيّة فليست مقصودة بالإستقلال ، وإنّما هي أُمور آلية نظير الواجب النفسي أو الغيري ، ولذا كثيراً ما تكون مغفولاً عنها ، فنريد أن ندّعي أنّ الفعل الجوارحي الاختياري ما يكون مسبوقاً بالعلم والقدرة ، وهذا هو الميزان في الاختياريّة وغيرها([9]) .

]الوجه الثالث، ويمكن تقريره بنحوين :[

]النحو الأوّل : استدل[ الأشاعرة القائلين بالجبر وعدم الاختيار للعبد ]على ذلك[ بأنّ الفعل الصادر من المبدأ ممكن بالضرورة، فإن وجدت علّته فهو ضروري الوجود ; لاستحالة تخلّف العلّة عن معلولها ، وإلاّ فهو ضروري العدم ; لاستحالة وجود الممكن بلا علّة.

فأجاب أهل الحق عن استدلالهم : بأنّ اختيار العبد بما أنّه هو جزء أخير من علّة وجود الفعل ، فوجوبه وامتناعه الناشئان عن اختيار العبد للفعل أو الترك لا  ينافي كون الفعل اختياريّاً، بل يؤكّده، ]وهذا ما يعبّر عنه بأنّ الامتناع بالإختيار لا  ينافي الاختيار[ والمراد من الامتناع في هذا المقام هو الامتناع بالغير([10]).

]النحو الثاني:[ هو أنّ كلّ فعل ما لم يجب لم يوجد ، استناداً إلى القاعدة المسلّمة : « أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد »([11]) ، والفعل الخارجي حيث كان ممكناً احتاج إلى علّة في مقام الوجود . وعلّته الإرادة ، وهي إمّا أن تنتهي إلى الذات والذاتي لا يعلّل ، أو إلى الإرادة الأزلية ، وكلاهما غير إختياريين([12]) .

]وبعبارة اُخرى : القاعدة المذكورة[ قاعدة عقليّة معروفة . . . ]لأجلها [التزموا بأنّ الفعل ما لم يتجاوز حدّ الإمكان بوجود علّته التامّة لم يوجد ، وإذا تحقّقت علّته التامّة يصير واجباً وضروريّاً ، فيوجد لا  محالة .

وحيث إنّهم لم يجدوا في الصفات النفسانية ما يصلح لأن يكون علّة للفعل غير الإرادة المفسّرة بالشوق المؤكّد ، فالتزموا بترتّب الفعل عليها ترتّب المعلول على العلّة التامّة([13]) .

 

 

--------------------------------------------------------------------------------

[1] المحاضرات 2 : 44 ـ 46 .

[2] دراسات في علم الاُصول 1 : 160 .

[3] في الأصل زيادة : «الفقر والحاجة» .

[4] المحاضرات 2 : 46ـ 49 .

[5] سوف يأتي مزيد بيان لهذه المقولة بعد قليل ، فانتظر .

[6] الطور : 35 .

[7] الكهف : 77 .

[8] انظر المقدّمة الاُولى من هذا البحث ، فقد تقدّم هناك شطر من الحديث عن معنى الإرادة والاختيار ، فراجع .

[9] دراسات في علم الاُصول 1 : 160 ـ 162، 163 .

[10] أجود التقريرات 1 : 219 .

[11] هذه القاعدة مبنية على تسليم مقدّمتين :

            الاُولى : أنّ الإرادة في أيّة مرتبة افترضت بحيث لا  يتصور فوقها مرتبة اُخرى لا  تكون علّة تامّة للفعل ولا  توجب خروجه عن تحت سلطان الإنسان واختياره .

            الثانية : أنّ الإرادة علّة تامّة للفعل ، إلاّ أنّ من الواضح جداً أنّ العلّة غير منحصرة بها بل لها علّة اُخرى ، وهي إعمال القدرة والسلطنة للنفس ، المحاضرات 2 : 56 .

[12] مصابيح الاُصول : 191 .

[13] مصباح الاُصول ج1 / القسم 1 : 262 .


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page