في بيان الترجيح بلا مرجّح والترجّح بلامرجّح
لمّا كانت قدرة العبد بالنسبة إلى الفعل والترك على حدّ سواء وإنّما المرجّح لأحدهما هو الشوق النفساني الذي هو الإرداة ، فلا بأس بصرف عنان الكلام ـ وإن كان خارجاً عن المرام لكنّه لا يخلو عن مناسبة للمقام ـ إلى مجمل القول في الترجيح بلامرجّح والترجّح بلامرجّح .
فنقول : أمّا الترجّح بلامرجّح فمحال بالبداهة ; ضرورة أنّ الموجود بلا موجد والمعلول بلا علّة مستحيل قطعاً ، والترجّح بلا مرجّح ليس إلاّ الوجود بلا موجد ، وهو ينافي الإمكان الذي هو بالنسبة إلى الوجود والعدم ككفّتي الميزان ، فلابّد في ترجّح أحد الجانبين على الآخر من مرجّح في البين بلا شبهة ولا ريب .
وأمّا الترجيح بلا مرجّح فليس بمحال لا في التكوينيّات ولا في التشريعيّات ، وإنّما هو قبيح لا يصدر من العاقل الحكيم إن كان هناك مرجّح أو جامع ; إذ العاقل لا يختار المرجوح على الراجح مع تساوي القدرة وعدم تفاوتها بالنسبة إليهما ، والمولى الحكيم لا يكلّف عبده بالمعيّن من أحد الأمرين المتساويين من كلّ وجه على وجه ، يعاقب عبده على ترك المأمور به والإتيان بالآخر فضلاً عن أن يكلّف بالمرجوح كذلك ،بل العاقل يختار الراجح في التكوينيّات ، والمولى الحكيم يكلّف بالجامع ـ إن كان ـ أو أحدهما ـ إن لم يكن ـ في صورة تساوي الأمرين ، وبالراجح في صورة عدم التساوي في التشريعيّات .
وأمّا في غير التشريعيّات وعدم وجود المرجّح فمن الواضح عدم القبح أصلاً ; ضرورة أنّ العطشان الذي عنده كوزان متساويان في ايفاء المصلحة بلا تفاوت بينهما لا يتأمّل ولا يملك نفسه عن الشرب حتّى يموت ، نظراً إلى أنّ ترجيح أحد المتساويين قبيح ، بل يختار أحدهما ويشرب من أحدهما قطعاً ، وهذا واضح جدّاً([1]) .
]في الاستدلال على عدم قبح الترجيح بلا مرجّح في الشخص بعد وجود المرجّح في النوع :[
ظهر بما ذكرناه ـ من عدم كون الأفعال الاختياريّة متعلّقة للإرادة الأزليّة ، وأنّها تحتاج إلى الفاعل المختار فيفعل بارادته واختياره لما يراه من المصلحة ـ صحّة ما ذكره الفخر الرازي من الاستدلال على عدم قبح الترجيح بلا مرجّح في الشخص بعد وجود المرجّح في النوع([2]) ، وأنّ المصلحة إلالهيّة اقتضت وجود الحركة في الأجرام السماويّة ، لكن الترجيح بلا مرجّح كان قبيحاً ، فما وجه حركة الشمس مثلاً وسيرها من المشرق إلى المغرب دون العكس مع عدم وجود المرجّح ؟ ]وهو [كلام متين في صورة الإشكال والاعتراض ، لكنّه ناظر إلى أنّه لا يجوز للحكيم تفويت المصلحة مع عدم وجود المرجّح ، وهذا ممّا لا يشوبه شكّ ولا ريب([3]) .
]بيان ذلك أنّ[ الأجرام السماويّة بسيطة متساوية النسبة من حيث الأجزاء عند الحكماء ; لأنّ الفلك الأطلس محيط ببقية طبقات الأفلاك ، ولا يكون فوقه خلاء ولا ملاء ، والمصلحة الإلهيّة اقتضت وجود الحركة فيها ، فجعل الله سبحانه وتعالى الحركة من المشرق إلى المغرب دون العكس مع عدم المرجّح قطعاً على المسلك المزبور ; لانّ المفروض تساوي الاجرام وبساطتها ، وأنّه لا يكون فوقها خلاء ولا ملاء ليكون هناك مرجّح شخصي .
فلو كان الترجيح بلا مرجّح في الشخص قبيحاً فلنا أن نسأل عن ترجيح حركة الشمس من المشرق إلى المغرب دون العكس مع عدم المرجّح قطعاً على المذهب المذكور ، فهذا يدلّ على بطلان ما ذكروه من قبح الترجيح بلا مرجّح في الشخص وكفاية المرجّح في النوع ، حذراً عن كون الفعل عبثاً منافياً للحكمة([4]) .
ونقل المرحوم المحقّق النائيني(رحمه الله)([5]) أنّه ذكر هذا الاستدلال صدر المتألّهين في شرح اُصول الكافي([6]) ولم يأت في الجواب إلاّ بالشتم واللعن ، وأنّ رئيس المشكّكين أتى بشيء لا يمكن الجواب عنه .
أقول : لم اُراجع شرح اُصول الكافي ، ولكن رأيت رسالة المشاعر لصدر المتألّهين([7]) ، وذكر الاستدلال المذكور فيه ، وأجاب عنه بأجوبة متعدّدة ، كلّها غير تامة ، وإن شئت فراجع .
والاستدلال المذكور وإن كان جارياً على طبق الهيئة القديمة إلاّ أنّه غير مختصّ بها ، بل يجري على الهيئة الجديدة أيضاً ، بأن يقال مثلاً : لماذا جعلت حركة الأرض حول الشمس دون العكس ؟
وبما ذكرناه ـ من أنّ الأفعال الاختياريّة تصدر بإرادة من الفاعل واختياره من دون أن تكون مستندة إلى العلّة التامّة ـ يظهر صحّة هذا الاستدلال ; إذ بعد كون الأفعال صادرة بالإختيار يكفي في الخروج عن اللّغوية المنافية للحكمة وجود المصلحة في أصل الطبيعة بلا احتياج إلى وجود مرجّح للشخص ،بداهة أنّ الهارب يختار أحد الطريقين ، والجائع يختار أحد الرغيفين مع فرض عدم وجود مرجّح في واحد بالخصوص . فبعد وجود المصلحة في أصل طبيعة الحركة كان إيجاد هذه الحركة الخاصّة دون عكسها باختياره تعالى ، ويكفي في دفع محذور اللّغوية وجود المصلحة النوعية بلا احتياج إلى وجود المرجّح في فرد خاص ، بل لا يجوز على الحكيم تفويت المصلحة النوعية مع عدم وجود مرجّح في الشخص كما هو ظاهر ، هذا بخلاف ما إذا كانت الأفعال مستندة إلى العلّة التامّة ; لقاعدة أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد ، فإنّه عليه لابدّ من مرجّح شخصي([8]) .
]الوجه الرابع[ ما إليكم لفظه : «أنّ فعل العبد ممكن في نفسه ، وكلّ ممكن مقدور لله تعالى ـ لما مرّ من شمول قدرته للممكنات بأسرها ، وقد مرّ مخالفة الناس من المعتزلة والفِرق الخارجة عن الإسلام في أنّ كلّ ممكن مقدور لله تعالى على تفاصيل مذاهبهم وإبطالها في بحث قادرية الله تعالى ، ولا شيء ممّا هو مقدور لله بواقع بقدرة العبد ـ لامتناع قدرتين مؤثّرتين على مقدور واحد»([9]) .
والجواب عنه : أمّا ما ذكره من الصغرى والكبرى ـ يعني أنّ فعل العبد ممكن ، وكلّ ممكن مقدور لله تعالى ـ وإن كان صحيحاً ; ضرورة أنّ الممكنات بشتى أنواعها وأشكالها مقدورة له تعالى ، فلا يمكن خروج شيء منها عن تحت قدرته وسلطنته ، إلاّ أنّ ما فرّعه على ذلك ـ من أنّه لا شيء ممّا هو مقدور لله بواقع تحت قدرة العبد ; لامتناع اجتماع قدرتين مؤثّرتين على مقدور واحد ـ خاطىء جداً ، والسبب في ذلك ما سيأتي بيانه بشكل واضح من أنّ أفعال العباد رغم كونها مقدورة لله تعالى من ناحية أنّ مبادئها بيده سبحانه مقدورة للعباد أيضاً وواقعة تحت اختيارهم وسلطانهم ، فلا منافاة بين الأمرين أصلاً .
وبكلمة اُخرى : إنّ كلّ مقدور ليس واجب الوجود في الخارج لتقع المنافاة بينهما ، بداهة أنـّه لا مانع من كون فعل واحد مقدوراً لشخصين ; لعدم الملازمة بين كون شيء مقدوراً لأحد وبين صدوره منه في الخارج ، فالصدور يحتاج إلى أمر زائد عليه وهو إعمال القدرة والمشيئة .
ومن ضوء هذا البيان يظهر وقوع الخلط في هذا الدليل بين كون أفعال العباد مقدورة لله تعالى وبين وقوعها خارجاً بإعمال قدرته . وعليه فما ذكره من الكبرى ـ وهي استحالة اجتماع قدرتين مؤثّرتين على مقدور واحد ـ خاطىء جداً .
نعم ، لو أراد من القدرة المؤثّرة إعمالها خارجاً فالكبرى المزبورة وإن كانت تامّة إلاّ أنّها فاسدة من ناحية اُخرى ، وهي : أنّ أفعال العباد لا تقع تحت مشيئة الله وإعمال قدرته على ما سنذكره إن شاء الله تعالى ، وإنّما تقع مبادئها تحت مشيئته وإعمال قدرته لانفسها ، فإذن لا يلزم اجتماع قدرتين مؤثّرتين على شيء واحد([10]) .
]الوجه الخامس[ أنّ الإرادة الأزليّة إذا تعلّقت بوجود فعل من العبد أو بعدمه ، فأمّا أن يكون ما في الخارج على طبقها وهو المطلوب ، فلا أثر لاختيار العبد وعدمه ، وأمّا أن يكون ما في الخارج على خلاف الإرادة الأزليّة بأن تغلب إرادة العبد على ارادته تعالى ، فيلزم نسبة العجز إليه تعالى ، وعدم القدرة على التصرف فيما هو واقع في سلطانه ، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً([11]) .
]وبعبارة اُخرى[ : إنّ الإرادة الأزليّة لو كانت متعلّقة بصدور الفعل من العبد فيصدر لا محالة ، وإن كانت متعلّقة بعدم صدوره فلا يصدر بالضرورة ، وهذه الشبهة هي التي ذكرها المحقّق الخراساني([12]) .
]و بعبارة أوضح[ : أنّ الإرادة الأزليّة إن تعلّقت بصدور الفعل من العبد فيصدر قهراً ولا يمكنه الترك ، وإلاّ لزم تخلّف إرادته تعالى عن مراده وهو محال ، فإنّه سبحانه إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ، وإن تعلّقت بعدم صدوره منه فلايمكن صدوره ويكون ممتنعاً ، فيدور الأمر بين الضرورة والامتناع ، وعلى كلّ تقدير لا يكون العبد مختاراً في الفعل والترك ، بل هو مضطرّ إلى أحدهما([13]) .
والجواب عنه : أنّ الإرادة الأزليّة بالإضافة إلى الأفعال الاختياريّة الصادرة من العبد ليس لها مساس بوجودها أو عدمها ، بل الله سبحانه وتعالى منح الإنسان قدرة وقوّة على الفعل وعدمه ، وأوضح له الطرق الصحيحة من الفاسدة ، وأخذ العبد يفعل الشيء ويتركه بحسب اختياره وإرادته من دون دخل للإرادة الأزليّة في ذلك أصلاً .
نعم ، ربّما يريد الله سبحانه وتعالى عدم بعض الأفعال فيبدي الموانع عن تحقّقه كانزال المطر وغيره ، وهذا أجنبي عن التصرّف في إرادة العبد .
على أنّ وصف الإرادة بالأزليّة لا يخلو من تسامح ; لما حقّقناه من أنّ الإرادة من صفات الأفعال لا من صفات الذات لتكون أزليّة .
وتقريب ذلك : أنّ الضابط في صفات الأفعال إمكان اتّصاف الذات بمعاليلها مع اختلاف المتعلّق ، وهذا الضابط منطبق على إرادته تعالى ، فيقال إنّه مريد لحياة زيد وليس بمريد لحياة عمرو .
ولو رجعنا إلى الروايات التي وردت في باب الإرادة لوجدناها صريحة في الدلالة على أنّ الإرادة من صفات الفعل ، لا الذات لتكون أزليّة ، حيث ورد : «إنّ الله كان عالماً وقادراً ولم يكن مريداً فأراد»([14]) ، ولا يمكن أن يقال : «لم يكن قادراً فقدر»(3) ، وفي بعضها الحكم بكفر من يدّعي أزليّة الإرادة([15]) .
ولو كانت الإرادة من الصفات الذاتيّة لكانت أزليّة كالعلم والقدرة ، إلاّ أنّ بعض الفلاسفة المحدثين كصدر المتألّهين وصاحب الوافي ـ مع نقلهم لهذه الروايات ـ ذهبوا إلى أزليّة الإرادة ، فاضطروا إلى حمل الروايات على الإرادة الفعليّة ، بمعنى أنّه لم يكن مريداً فعلاً لا أزلاً ، وقد عرفت أنّ الإرادة ليس لها معنيان أو أكثر ، بل لها معنى واحد وهو إعمال القدرة ، وهذه جعلت من صفات الأفعال حيث قيل : لم يكن مريداً فأراد ، ]و[ معنى ذلك : أنّها حادثة وليست بأزليّة ; لذا ورد في بعض الروايات : «أنّ الله خلق الأشياء بالمشيئة ، وخلق المشيئة بنفسها»([16]) ، بمعنى أنـّه خلق الأشياء حسب إعمال قدرته ، أما إعمال قدرته فلم تكن باعمال قدرة اُخرى ، وإلاّلتسلسل .
وأمّا ]ما[ عن بعض الفلاسفة من رواية الحديث: «أنّ الله تعالى خلق الأشياء بالمشيئة ، والمشيئة بنفسها » وتفسيره بأنّ المشيئة موجودة بنفسها ، فهو باطل ، فإنّ الحديث كما نقلناه .
وكيف كان ، فالإرادة غير أزليّة ليقال بانتهاء الأفعال إليها ، بل الإرادة من صفات الفعل ، وهي بمعنى إعمال القدرة([17]) .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الهداية في الاُصول 1 : 213 ـ 214 .
[2] مصباح الاُصول ج 1 / القسم 1 : 277 .
[3] الهداية في الاُصول 1 : 214 ـ 215 .
[4] التفسير الكبير 4 : 184 .
[5] أجود التقريرات 1 : 139 .
[6] شرح اُصول الكافي 1 : 267 .
[7] شرح المشاعر : 289 .
[8] مصباح الاُصول 1 / القسم 1 : 277 ـ 279 .
[9] شرح المواقف : 515 ، المرصد السادس .
[10] المحاضرات 2 : 49 ـ 50 .
[11] مصابيح الاُصول : 193 .
[12] دراسات في علم الاُصول 1 : 163 .
[13] مصباح الاُصول ج1 / القسم 1 : 263 ، 264 .
[14] و3 لم نعثر عليهما في المجاميع الحديثية بهذا المضمون .
[16] بحار الأنوار 4 : 145 ، والحديث : «خلق الله المشيئة بنفسها ثمّ خلق الأشياء بالمشيئة» .
[17] مصابيح الاُصول : 193 ـ 194 .