طباعة

تمهيد

تمهيد

 

ذهب المعتزلة إلى أنّ الله سبحانه وتعالى قد فوّض العباد في أفعالهم وحركاتهم إلى سلطنتهم المطلقة على نحو الأصالة والاستقلال بلادخل لإرادة وسلطنة اُخرى فيها ، وهم يفعلون ما يشاؤون ويعملون مايريدون من دون حاجة إلى الاستعانة بقدرة اُخرى وسلطنة ثانية ، وبهذه النقطة تمتاز عن نظرية الأمر بين الأمرين ، فإنّ العبد على ضوء تلك النظرية وإن كان له أن يفعل ما يشاء ويعمل ما يريد إلاّ أنّه في عين ذلك بحاجة إلى إستعانة الغير فلا يكون مستقلاًّ فيه .

وغير خفي أنّ المفوّضة وإن احتفظت بعدالة الله تعالى إلاّ أنّهم وقعوا في محذور لا  يقلّ عن المحذور الواقع فيه الأشاعرة وهو الاسراف في نفي السلطنة المطلقة عن الباري عزّ وجلّ وإثبات الشريك له في أمر الخلق والإيجاد . ومن هنا وردت روايات كثيرة تبلغ حدّ التواتر في ذمّ هذه الطائفة ، وقد ورد فيها أنّهم مجوس هذه الاُمة ، حيث إنّ المجوس يقولون بوجود إلهين : أحدهما : خالق الخير . وثانيهما : خالق الشر ، ويسمّون الأوّل يزدان ، والثاني أهريمن ، وهذه الطائفة تقول بوجود آلهة متعددة بعدد أفراد البشر ، حيث إنّ هذا المذهب يقوم على أساس أن كلاًّ منهم خالق وموجد بصورة مستقلّة بلا حاجة منه إلى الاستعانة بغيره ، غاية الأمر أنّ الله تعالى خالق للأشياء الكونيّة كالإنسان ونحوه ، والإنسان خالق لأفعاله الخارجيّة من دون افتقاره في ذلك إلى خالقه ]فيلزم تعدّد الخالق[([1]) .

]وبعبارة موجزة :[ إنّ الوجه في احتياج الممكن إلى المؤثّر هل هو حدوثه أو إمكانه ؟

والصحيح ]كما سوف نثبته[ هو الثاني ، وعليه فالحادث في بقائه أيضاً محتاج إلى المؤثّر لبقاء ملاك حاجته وهو الإمكان([2]) .

 

 

--------------------------------------------------------------------------------

[1] المحاضرات 2 : 77 ـ 78 ، وفي مصباح الاُصول 1 / القسم 1 : 271 ـ 272 ، قال : « مذهب التفويض يقابل مذهب الجبر بتمام المقابلة ، فإنّ المجبرة يقولون بأنّ الأفعال الصادرة من العبد صادرة بالإرادة الأزلية من دون أن يكون للعبد فيها اختيار ، والمفوّضة يقولون بأنّ الأفعال صادرة من العبد بإرادته واختياره مستقلاًّ ، من دون أن يكون له تعالى فيها دخل بوجه من الوجوه حين صدورها ، فالله سبحانه وتعالى وإن اعطى للعبد الوجود والقدرة على الفعل إلاّ أنّ الفعل صادر من العبد بالاستقلال خارج عن سلطنته تعالى » .

            وفي مصابيح الاُصول : 195 ـ 196 ، ما لفظه : « و هناك شبهة اُخرى ، وهي شبهة تفويض الله العبد في أفعاله إلى قدرته الاستقلالية يفعل ما يشاء ويعمل ما يريد دون أن تكون هناك سلطنة وإرادة اُخرى على أفعاله ، فالعبيد مفوّضون فيما يعملونه ، فإن عوقبوا فالعقاب على اختيارهم وسوء إرادتهم ، فهؤلاء وإن التزموا بالمحافظة على ثبوت العدالة لله سبحانه وتعالى إلاّ أنّ المحذور في حديثهم نفي سلطنة الله تعالى والالتزام بوجود شريك له ، ولهذا وردت الأخبار بلعن المفوّضة ، وذمّهم وأنّهم مجوس هذه الاُمة حيث التزموا ـ أعني المجوس ـ بوجود إلهين ، أحدهما للخير ، وثانيهما للشر . . . وهؤلاء المفوّضة بالتزامهم أنّ كلّ واحد يقتضي أن يكون خالقاً مستقلاًّ فقد عدّدوا الآلهة مثلهم ، ولكن بتعدّد البشر ، والتزموا بأن يكون الناس والله خالقين ، غاية الأمر الفرق بينهما في المخلوق ، فالله سبحانه و تعالى يخلق الإنسان ، والإنسان يخلق الأفعال المتعدّدة » .

            وفي الهداية في الاُصول 1 : 211 ، قال : « أمّا التفويض الذي قال به المعتزلة حفظاً لعدله تعالى فالتزموا بأنّ العباد مختارون في أفعالهم تمام الاختيار بحيث لايمكن للباري تعالى سلب الاختيار عنهم بتوهّم أنّ الممكن لايحتاج في بقائه إلى المؤثّر ، فالباري تعالى بعد أن أوجد العبد وأعطاه القدرة والاختيار أجنبي عنه ولا يقدر على سلب اختياره وقدرته ، فقالوا بمقالة اليهود من أنّ يد الله مغلولة » .

[2] دراسات في علم الاُصول 1 : 169 .