• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

نظرية الأمر بين الأمرين في الكتاب العزيز

نظرية الأمر بين الأمرين في الكتاب العزيز

 

إنّ القرآن قد يسند الفعل إلى العبد واختياره ، فيقول (فَمَن شَاءَ فَلْيُوْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكُفُرْ)([1]) .

والآيات بهذا المعنى كثيرة ] تدلّ [ على أنّ العبد مختار في عمله ، وقد يسند الاختيار في الأفعال إلى الله تعالى :

]منها: قوله تعالى[ (وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ)([2])([3]) حيث قد أثبت عزّ وجلّ أنّه لا  مشيئة للعباد إلاّ بمشيئة الله تعالى . ومدلول ذلك كما مضى في ضمن البحوث السابقة أنّ مشيئة الله تعالى لم تتعلّق بأفعال العباد ، وإنّما تتعلق بمباديها كالحياة والقدرة وما شاكلهما ، وبطبيعة الحال أنّ المشيئة للعبد إنّما تتصوّر في فرض وجود تلك المبادئ بمشيئة الله سبحانه ، وأمّا في فرض عدمها بعدم مشيئة الباري عزّ وجلّ فلا تتصوّر ، لأنّها لا  يمكن أن توجد بدون وجود ما تتفرّع عليه ، فالآية الكريمة تشير إلى هذا المعنى([4]) .

]لكن هناك من زعم أنّها تدلّ[ على أنّ العبد مجبور في فعله ، وقالوا : هذا تناقض واضح ، والتأويل في الآيات خلاف الظاهر ، وقول بغير دليل .

الجواب : أنّ كلّ إنسان يدرك بفطرته أنّه قادر على جملة من الأفعال ، فيمكنه أن يفعلها وأن يتركها ، وهذا الحكم فطري لا يشك فيه أحد إلاّ أن تعتريه شبهة من خارج ، وقد أطبق العقلاء كافة على ذم فاعل القبيح ، ومدح فاعل الحسن ، وهذا برهان على أنّ الإنسان مختار في فعله غير مجبور عليه عند إصداره . وكلّ عاقل يرى أنّ حركته على الأرض عند مشيه عليها تغاير حركته عند سقوطه من شاهق إلى الأرض ، فيرى أنّه مختار في الحركة الاُولى وأنّه مجبور على الحركة الثانية .

وكلّ إنسان عاقل يدرك بفطرته أنّه وإن كان مختاراً في بعض الأفعال حين يصدرها وحين يتركها إلاّ أنّ أكثر مبادئ ذلك الفعل خارجة عن دائرة اختياره ، فإنّ من جملة مبادئ صدور الفعل نفس وجود الإنسان وحياته ، وإدراكه للفعل ، وشوقه إليه ، وملاءمة ذلك الفعل لقوّة من قواه ، وقدرته على إيجاده . ومن البيّن أنّ هذا النوع من المبادئ خارج عن دائرة اختيار الإنسان ، وأنّ موجد هذه الأشياء في الإنسان هو موجد الإنسان نفسه .

وقد ثبت في محلّه أنّ خالق هذه الأشياء في الإنسان لم ينعزل عن خلقه بعد الإيجاد ، وأنّ بقاء الأشياء واستمرارها في الوجود محتاج إلى المؤثّر في كلّ آن ، وليس مثل خالق الأشياء معها كالبنّاء يقيم الجدار بصنعه ثم يستغني الجدار عن بانيه ، ويستمر وجوده وإن فنى صانعه ، أو كمثل الكاتب يحتاج إليه الكتاب في حدوثه ثمّ يستغني عنه في مرحلة بقائه واستمراره ، بل مثل خالق الأشياء معها «ولله المثل الأعلى» ، كتأثير القوّة الكهربائية في الضوء ، فإنّ الضوء لايوجد إلاّ حين تمدّه القوة بتيّارها ، ولا يزال يفتقر في بقاء وجوده إلى مدد هذه القوة في كلّ حين ، فإذا انفصل سلكه عن مصدر القوة في حين ، إنعدم الضوء في ذلك الحين كأن لم يكن ، وهكذا تستمد الأشياء وجميع الكائنات وجودها من مبدعها الأوّل في كلّ وقت من أوقات حدوثها وبقائها ، وهي مفتقرة إلى مدده في كلّ حين ، ومتّصلة برحمته الواسعة التي وسعت كلّ شيء ، وعلى ذلك ففعل العبد وسط بين الجبر والتفويض ، وله حظ من كلّ منهما ، فإنّ إعمال قدرته في الفعل أو الترك وإن كان باختياره ، إلاّ أنّ هذه القدرة وسائر المبادئ حين الفعل تفاض عن الله ، فالفعل مستند إلى العبد من جهة وإلى الله من جهة اُخرى ، والآيات القرآنية المباركة ناظرة إلى هذا المعنى ، وأنّ اختيار العبد في فعله لا  يمنع من نفوذ قدرة الله وسلطانه([5]) .

ومنها : قوله تعالى (وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْء إِنِّي فَاعِلٌ ذلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَاءَ)([6]) ، حيث قد عرفت أنّ العبد لا يكون فاعلاً لفعل إلاّ أن يشاء الله تعالى حياته وقدرته ونحوهما ممّا يتوقّف عليه فعله خارجاً ، وبدون ذلك لا يعقل كونه فاعلاً له ، وعليه فمن الطبيعي أنّ فعله في الغد يتوقّف على تعلّق مشيئة الله تعالى بحياته وقدرته فيه ، وإلاّ استحال صدوره منه ، فالآية تشير إلى هذا المعنى .

ويحتمل أن يكون المراد من الآية معنى آخر ، وهو : أنّكم لا  تقولون لشيء سنفعل كذا وكذا غداً إلاّ أن يشاء الله خلافه ، فتكون جملة إلاّ أن يشاء الله ]كما أسلفنا[ مقولة القول ، ويعبّر عن هذا المعنى في لغة الفرس (اگر خدا بگذارد) ، ومرجع هذا المعنى إلى استقلال العبد وتفويضه في فعله إذا لم يشأ الله خلافه ، ولذا منعت الآية المباركة عن ذلك بقوله : (وَلاَ  تَقُولَنَّ لِشَيْء  . . .)الخ ، ولعلّ هذا المعنى أظهر من المعنى الأول كما لا   يخفى([7]) .

ومنها : قوله تعالى: (قُل لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ)([8]) ، حيث قد ظهر ممّا تقدّم أنّ الآية الكريمة لا تدلّ على الجبر ، بل تدلّ على واقع الأمر بين الأمرين ، بتقريب أنّ المشيئة الإلهيّة لو لم تتعلّق بإفاضة الحياة للإنسان والقدرة له فلا يملك الإنسان لنفسه نفعاً ولا ضرّاً ، ولا يقدر على شيء ، بداهة أنّه لا  حياة له عندئذ ولاقدرة كي يكون مالكاً وقادراً ، فملكه النفع أو الضرّ لنفسه يتوقّف على تعلّق مشيئته تعالى بحياته وقدرته آناً فآناً ، ويدور مداره حدوثاً وبقاءً ، وبدونه فلا ملك له أصلاً ولا  سلطان .

ومنها : قوله تعالى (يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ)([9]) ، حيث قد أسندت الآية الكريمة الضلالة والهداية إلى الله سبحانه وتعالى ، مع أنّهما من أفعال العباد . وسرّه ما ذكرناه من أنّ أفعال العباد وإن لم تقع تحت مشيئة الباري عزّ وجلّ مباشرة إلاّ أنّ مبادئ تلك الأفعال ]من الحياة والقدرة[ بيد مشيئته تعالى وتحت إرادته ، وقد تقدّم أنّ هذه الجهة كافية لصحّة إسناد هذه الأفعال إليه تعالى حقيقة من دون عناية ومجاز([10]) .

]ومنها : قوله تعالى : (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)([11]):[

الحق أنّ المراد بالإكراه في الآية ما يقابل الاختيار ، وأنّ الجملة خبريّة لا إنشائيّة ، والمراد من الآية الكريمة هو بيان ما تكرّر ذكره في الآيات القرآنية كثيراً من أنّ الشريعة الإلهيّة غير مبتنية على الجبر لا  في اُصولها ولا في فروعها ، وإنّما مقتضى الحكمة إرسال الرسل وإنزال الكتب وإيضاح الأحكام ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيا عن بيّنة ، لئلاّ يكون للناس على الله حجّة ، كما قال تعالى : (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً)([12]) .

وحاصل معنى الآية : أنّ الله تعالى لا يجبر أحداً من خلقه على إيمان ولا طاعة ولكنّه يوضّح الحق ]و[ يبيّنه من الغي وقد فعل ذلك ، فمن آمن بالحق فقد آمن به عن إختيار ، ومن اتبع الغي فقد اتّبعه عن إختيار ، والله سبحانه وإن كان قادراً على أن يهدي البشر جميعاً ـ ولو شاء لفعل ـ لكن الحكمة اقتضت لهم أن يكونوا غير مجبورين على إعمالهم بعد إيضاح الحق لهم وتمييزه عن الباطل([13]) .

وبما ذكرناه من التحقيق في معنى الأمر بين الأمرين ، ظهر المراد من الآيات الشريفة التي توهم دلالتها على الجبر ، كقوله تعالى : (وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ) . . . وغير ذلك من الآيات الدالّة على أنّ الافعال الصادرة من العباد كلّها تحت مشيئته تعالى ، غير خارجة عن سلطنته ، فإنّه لو لم تتعلّق المشيّة الالهيّة بإعطاء الحياة والقدرة للإنسان لا  يقدر على شيء ، ولا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً([14]) .

فالنتيجة : أنّ هذه الآيات وأمثالها تطابق نظرية الأمر بين الأمرين ولا تخالفها ، وتوهّم أنّ أمثال تلك الآيات تدلّ على نظرية الجبر خاطىء جداً ، فإنّ هذا التوهّم قد نشأ من عدم فهم معنى نظرية الأمر بين الأمرين فهماً صحيحاً كاملاً ومطابقاً للواقع الموضوعي ، وأمّا بناءً على ما فسّرنا به هذه النظرية فلا يبقى مجال لمثل هذا التخيّل والتوهّم أبداً([15]) ، فهي تبطل الجبر الذي يقول به أكثر العامّة ; لأنّها تثبت الاختيار ، وتبطل التفويض الذي يقول به بعضهم ; لأنّها تسند الفعل إلى الله([16]) .

 

 

--------------------------------------------------------------------------------

[1] الكهف : 29 .

[2] الإنسان : 30 ، وقد اُسند الاختيار في الأفعال فيها إلى الله تعالى .

[3] البيان : 86 .

[4] المحاضرات 2 : 94 .

[5] البيان : 86 ـ 88 .

[6] الكهف : 23 و24 .

[7] وقال في مصابيح الاُصول 201 : « وعلى هذا ]أي بناءً على إسناد الفعل إلى العبد وإلى الله في آن واحد[ تحمل الآية الشريفة وما تشاءون إلاّ أن يشاء الله ، أي لا يمكن أن يصدر الفعل من العبد استقلالاً ، وأن يخلق الله تعالى القدرة في العبد ، ويمكّنه من القوّة والإختيار ، فيشاء العبد بواسطة تلك القوّة .

وهكذا تحمل الآية الاُخرى : ولا تقولن لشيء إنّي فاعل ذلك غداً إلاّ أن يشاء اللهعلى المعنى المذكور ، وليس معنى الآية أنّ كلّ أحد لا يقول أفعل كذا ، إلاّ أن يقول بعده إن شاء الله ، بل المعنى إنّك لا تقول لشيء سأفعل كذا غداً ، إلاّ أن يشاء الله خلافه ، وتكون جملة إلاّ أن يشاء الله مقول القول ـ كما لو قلت : اُريد أن افعل كذا إلاّ أن يمنع مانع ـ وهو المعبّر عنه بالفارسية : اگر خدا بگذرد ، ولازم هذا ثبوت الاستقلال في التصرّف التام الذي ينشأ منه التفويض » .

[8] يونس: 49 .

[9] النحل : 93 ، فاطر : 8 .

[10] المحاضرات 2 : 94 ـ 95 وفي مصباح الاُصول 1 / القسم 1 : 277 ، «وكذا الحال في قوله تعالى: يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء فانّ الضلالة والهداية وإن كانتا من أفعال العباد الصادرة منهم بالإرادة والاختيار إلاّ أنّ مبادئ الأفعال من الحياة والقدرة متعلّقة بمشيئته تعالى ، وبهذا الاعتبار صحّ إسنادها إليه تعالى» .

[11] البقرة : 256 .

[12] الإنسان :3 .

[13] البيان : 309 .

[14] مصباح الاُصول 1 / القسم 1 : 276 ـ 277 .

[15] المحاضرات 2 : 95 .

[16] البيان : 88 .


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page