نظرية الأمر بين الأمرين في الكتاب العزيز
إنّ القرآن قد يسند الفعل إلى العبد واختياره ، فيقول (فَمَن شَاءَ فَلْيُوْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكُفُرْ)([1]) .
والآيات بهذا المعنى كثيرة ] تدلّ [ على أنّ العبد مختار في عمله ، وقد يسند الاختيار في الأفعال إلى الله تعالى :
]منها: قوله تعالى[ (وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ)([2])([3]) حيث قد أثبت عزّ وجلّ أنّه لا مشيئة للعباد إلاّ بمشيئة الله تعالى . ومدلول ذلك كما مضى في ضمن البحوث السابقة أنّ مشيئة الله تعالى لم تتعلّق بأفعال العباد ، وإنّما تتعلق بمباديها كالحياة والقدرة وما شاكلهما ، وبطبيعة الحال أنّ المشيئة للعبد إنّما تتصوّر في فرض وجود تلك المبادئ بمشيئة الله سبحانه ، وأمّا في فرض عدمها بعدم مشيئة الباري عزّ وجلّ فلا تتصوّر ، لأنّها لا يمكن أن توجد بدون وجود ما تتفرّع عليه ، فالآية الكريمة تشير إلى هذا المعنى([4]) .
]لكن هناك من زعم أنّها تدلّ[ على أنّ العبد مجبور في فعله ، وقالوا : هذا تناقض واضح ، والتأويل في الآيات خلاف الظاهر ، وقول بغير دليل .
الجواب : أنّ كلّ إنسان يدرك بفطرته أنّه قادر على جملة من الأفعال ، فيمكنه أن يفعلها وأن يتركها ، وهذا الحكم فطري لا يشك فيه أحد إلاّ أن تعتريه شبهة من خارج ، وقد أطبق العقلاء كافة على ذم فاعل القبيح ، ومدح فاعل الحسن ، وهذا برهان على أنّ الإنسان مختار في فعله غير مجبور عليه عند إصداره . وكلّ عاقل يرى أنّ حركته على الأرض عند مشيه عليها تغاير حركته عند سقوطه من شاهق إلى الأرض ، فيرى أنّه مختار في الحركة الاُولى وأنّه مجبور على الحركة الثانية .
وكلّ إنسان عاقل يدرك بفطرته أنّه وإن كان مختاراً في بعض الأفعال حين يصدرها وحين يتركها إلاّ أنّ أكثر مبادئ ذلك الفعل خارجة عن دائرة اختياره ، فإنّ من جملة مبادئ صدور الفعل نفس وجود الإنسان وحياته ، وإدراكه للفعل ، وشوقه إليه ، وملاءمة ذلك الفعل لقوّة من قواه ، وقدرته على إيجاده . ومن البيّن أنّ هذا النوع من المبادئ خارج عن دائرة اختيار الإنسان ، وأنّ موجد هذه الأشياء في الإنسان هو موجد الإنسان نفسه .
وقد ثبت في محلّه أنّ خالق هذه الأشياء في الإنسان لم ينعزل عن خلقه بعد الإيجاد ، وأنّ بقاء الأشياء واستمرارها في الوجود محتاج إلى المؤثّر في كلّ آن ، وليس مثل خالق الأشياء معها كالبنّاء يقيم الجدار بصنعه ثم يستغني الجدار عن بانيه ، ويستمر وجوده وإن فنى صانعه ، أو كمثل الكاتب يحتاج إليه الكتاب في حدوثه ثمّ يستغني عنه في مرحلة بقائه واستمراره ، بل مثل خالق الأشياء معها «ولله المثل الأعلى» ، كتأثير القوّة الكهربائية في الضوء ، فإنّ الضوء لايوجد إلاّ حين تمدّه القوة بتيّارها ، ولا يزال يفتقر في بقاء وجوده إلى مدد هذه القوة في كلّ حين ، فإذا انفصل سلكه عن مصدر القوة في حين ، إنعدم الضوء في ذلك الحين كأن لم يكن ، وهكذا تستمد الأشياء وجميع الكائنات وجودها من مبدعها الأوّل في كلّ وقت من أوقات حدوثها وبقائها ، وهي مفتقرة إلى مدده في كلّ حين ، ومتّصلة برحمته الواسعة التي وسعت كلّ شيء ، وعلى ذلك ففعل العبد وسط بين الجبر والتفويض ، وله حظ من كلّ منهما ، فإنّ إعمال قدرته في الفعل أو الترك وإن كان باختياره ، إلاّ أنّ هذه القدرة وسائر المبادئ حين الفعل تفاض عن الله ، فالفعل مستند إلى العبد من جهة وإلى الله من جهة اُخرى ، والآيات القرآنية المباركة ناظرة إلى هذا المعنى ، وأنّ اختيار العبد في فعله لا يمنع من نفوذ قدرة الله وسلطانه([5]) .
ومنها : قوله تعالى (وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْء إِنِّي فَاعِلٌ ذلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَاءَ)([6]) ، حيث قد عرفت أنّ العبد لا يكون فاعلاً لفعل إلاّ أن يشاء الله تعالى حياته وقدرته ونحوهما ممّا يتوقّف عليه فعله خارجاً ، وبدون ذلك لا يعقل كونه فاعلاً له ، وعليه فمن الطبيعي أنّ فعله في الغد يتوقّف على تعلّق مشيئة الله تعالى بحياته وقدرته فيه ، وإلاّ استحال صدوره منه ، فالآية تشير إلى هذا المعنى .
ويحتمل أن يكون المراد من الآية معنى آخر ، وهو : أنّكم لا تقولون لشيء سنفعل كذا وكذا غداً إلاّ أن يشاء الله خلافه ، فتكون جملة إلاّ أن يشاء الله ]كما أسلفنا[ مقولة القول ، ويعبّر عن هذا المعنى في لغة الفرس (اگر خدا بگذارد) ، ومرجع هذا المعنى إلى استقلال العبد وتفويضه في فعله إذا لم يشأ الله خلافه ، ولذا منعت الآية المباركة عن ذلك بقوله : (وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْء . . .)الخ ، ولعلّ هذا المعنى أظهر من المعنى الأول كما لا يخفى([7]) .
ومنها : قوله تعالى: (قُل لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ)([8]) ، حيث قد ظهر ممّا تقدّم أنّ الآية الكريمة لا تدلّ على الجبر ، بل تدلّ على واقع الأمر بين الأمرين ، بتقريب أنّ المشيئة الإلهيّة لو لم تتعلّق بإفاضة الحياة للإنسان والقدرة له فلا يملك الإنسان لنفسه نفعاً ولا ضرّاً ، ولا يقدر على شيء ، بداهة أنّه لا حياة له عندئذ ولاقدرة كي يكون مالكاً وقادراً ، فملكه النفع أو الضرّ لنفسه يتوقّف على تعلّق مشيئته تعالى بحياته وقدرته آناً فآناً ، ويدور مداره حدوثاً وبقاءً ، وبدونه فلا ملك له أصلاً ولا سلطان .
ومنها : قوله تعالى (يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ)([9]) ، حيث قد أسندت الآية الكريمة الضلالة والهداية إلى الله سبحانه وتعالى ، مع أنّهما من أفعال العباد . وسرّه ما ذكرناه من أنّ أفعال العباد وإن لم تقع تحت مشيئة الباري عزّ وجلّ مباشرة إلاّ أنّ مبادئ تلك الأفعال ]من الحياة والقدرة[ بيد مشيئته تعالى وتحت إرادته ، وقد تقدّم أنّ هذه الجهة كافية لصحّة إسناد هذه الأفعال إليه تعالى حقيقة من دون عناية ومجاز([10]) .
]ومنها : قوله تعالى : (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)([11]):[
الحق أنّ المراد بالإكراه في الآية ما يقابل الاختيار ، وأنّ الجملة خبريّة لا إنشائيّة ، والمراد من الآية الكريمة هو بيان ما تكرّر ذكره في الآيات القرآنية كثيراً من أنّ الشريعة الإلهيّة غير مبتنية على الجبر لا في اُصولها ولا في فروعها ، وإنّما مقتضى الحكمة إرسال الرسل وإنزال الكتب وإيضاح الأحكام ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيا عن بيّنة ، لئلاّ يكون للناس على الله حجّة ، كما قال تعالى : (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً)([12]) .
وحاصل معنى الآية : أنّ الله تعالى لا يجبر أحداً من خلقه على إيمان ولا طاعة ولكنّه يوضّح الحق ]و[ يبيّنه من الغي وقد فعل ذلك ، فمن آمن بالحق فقد آمن به عن إختيار ، ومن اتبع الغي فقد اتّبعه عن إختيار ، والله سبحانه وإن كان قادراً على أن يهدي البشر جميعاً ـ ولو شاء لفعل ـ لكن الحكمة اقتضت لهم أن يكونوا غير مجبورين على إعمالهم بعد إيضاح الحق لهم وتمييزه عن الباطل([13]) .
وبما ذكرناه من التحقيق في معنى الأمر بين الأمرين ، ظهر المراد من الآيات الشريفة التي توهم دلالتها على الجبر ، كقوله تعالى : (وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ) . . . وغير ذلك من الآيات الدالّة على أنّ الافعال الصادرة من العباد كلّها تحت مشيئته تعالى ، غير خارجة عن سلطنته ، فإنّه لو لم تتعلّق المشيّة الالهيّة بإعطاء الحياة والقدرة للإنسان لا يقدر على شيء ، ولا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً([14]) .
فالنتيجة : أنّ هذه الآيات وأمثالها تطابق نظرية الأمر بين الأمرين ولا تخالفها ، وتوهّم أنّ أمثال تلك الآيات تدلّ على نظرية الجبر خاطىء جداً ، فإنّ هذا التوهّم قد نشأ من عدم فهم معنى نظرية الأمر بين الأمرين فهماً صحيحاً كاملاً ومطابقاً للواقع الموضوعي ، وأمّا بناءً على ما فسّرنا به هذه النظرية فلا يبقى مجال لمثل هذا التخيّل والتوهّم أبداً([15]) ، فهي تبطل الجبر الذي يقول به أكثر العامّة ; لأنّها تثبت الاختيار ، وتبطل التفويض الذي يقول به بعضهم ; لأنّها تسند الفعل إلى الله([16]) .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الكهف : 29 .
[2] الإنسان : 30 ، وقد اُسند الاختيار في الأفعال فيها إلى الله تعالى .
[3] البيان : 86 .
[4] المحاضرات 2 : 94 .
[5] البيان : 86 ـ 88 .
[6] الكهف : 23 و24 .
[7] وقال في مصابيح الاُصول 201 : « وعلى هذا ]أي بناءً على إسناد الفعل إلى العبد وإلى الله في آن واحد[ تحمل الآية الشريفة وما تشاءون إلاّ أن يشاء الله ، أي لا يمكن أن يصدر الفعل من العبد استقلالاً ، وأن يخلق الله تعالى القدرة في العبد ، ويمكّنه من القوّة والإختيار ، فيشاء العبد بواسطة تلك القوّة .
وهكذا تحمل الآية الاُخرى : ولا تقولن لشيء إنّي فاعل ذلك غداً إلاّ أن يشاء اللهعلى المعنى المذكور ، وليس معنى الآية أنّ كلّ أحد لا يقول أفعل كذا ، إلاّ أن يقول بعده إن شاء الله ، بل المعنى إنّك لا تقول لشيء سأفعل كذا غداً ، إلاّ أن يشاء الله خلافه ، وتكون جملة إلاّ أن يشاء الله مقول القول ـ كما لو قلت : اُريد أن افعل كذا إلاّ أن يمنع مانع ـ وهو المعبّر عنه بالفارسية : اگر خدا بگذرد ، ولازم هذا ثبوت الاستقلال في التصرّف التام الذي ينشأ منه التفويض » .
[8] يونس: 49 .
[9] النحل : 93 ، فاطر : 8 .
[10] المحاضرات 2 : 94 ـ 95 وفي مصباح الاُصول 1 / القسم 1 : 277 ، «وكذا الحال في قوله تعالى: يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء فانّ الضلالة والهداية وإن كانتا من أفعال العباد الصادرة منهم بالإرادة والاختيار إلاّ أنّ مبادئ الأفعال من الحياة والقدرة متعلّقة بمشيئته تعالى ، وبهذا الاعتبار صحّ إسنادها إليه تعالى» .
[11] البقرة : 256 .
[12] الإنسان :3 .
[13] البيان : 309 .
[14] مصباح الاُصول 1 / القسم 1 : 276 ـ 277 .
[15] المحاضرات 2 : 95 .
[16] البيان : 88 .