نظريّة الأمر بين الأمرين في روايات أهل البيت(عليهم السلام)
أرشدت الطائفة إلى هذه النظرية : الروايات ـ الواردة في هذا الموضوع من الأئمّة الأطهار(عليهم السلام) ـ الدالّة على بطلان الجبر والتفويض من ناحية ، وعلى إثبات الأمر بين الأمرين من ناحية اُخرى ، ولولا تلك الروايات لوقعوا بطبيعة الحال في جانبي الافراط أو التفريط ، كما وقع أصحاب النظريتين الاُوليين([1]) .
وإليك بعض ما ورد ] عنهم (عليهم السلام)[ :
]منها : أنّه[ سأل رجل الصادق(عليه السلام) فقال : قلتَ : أجَبَر الله العباد على المعاصي ؟ قال : « لا » ، قلت : ففوّض اليهم الأمر ؟ قال : «لا» ، قال : قلت : فماذا ؟ قال : «لطف من ربّك بين ذلك »([2]) .
وفي رواية اُخرى عنه (عليه السلام) : « لا جبر ولا قدر ، ولكن منزلة بين منزلتين »([3])([4]) .
وعلى ضوء هذه الروايات كان علينا أن نتّخذ تلك النظرية لكي نثبت بها العدالة والسلطنة لله سبحانه وتعالى معاً .
بيان ذلك : أنّ نظرية الأشاعرة وإن تضمّنت إثبات السلطنة المطلقة للباري عزّ وجلّ إلاّ أنّ فيها القضاء الحاسم على عدالته سبحانه تعالى ]كما تقدّم[ ... ونظرية المعتزلة على عكسها ، يعني أنّها وإن تضمّنت إثبات العدالة للباري تعالى إلاّ أنّها تنفي بشكل قاطع سلطنته المطلقة ، وأسرفت في تحديدها .
وعلى هذا فبطبيعة الحال يتعيّن الأخذ بمدلول الروايات لا من ناحية التعبّد بها ، حيث إنّ المسألة ليست من المسائل التعبّدية بل من ناحية أنّ الطريق الوسط الذي يمكن به حلّ مشكلة الجبر والتفويض منحصر فيه .
تفصيل ذلك : أنّ أفعال العباد تتوقّف على مقدّمتين :
الاُولى : حياتهم وقدرتهم وعلمهم وما شاكل ذلك .
الثانية : مشيئتهم وإعمالهم القدرة نحو إيجادها في الخارج ، والمقدّمة الاُولى تفيض من الله تعالى وترتبط بذاته الأزليّة إرتباطاً ذاتيّاً ، وخاضعة له ، يعني أنّها عين الربط والخضوع ، لا أنّهـ]ـا[ شيء له الربط والخضوع . وعلى هذا الضوء لو انقطعت الإفاضة من الله سبحانه وتعالى في آن انقطعت الحياة فيه حتماً ، وقد أقمـ]ـنا [البرهان على ذلك بصورة مفصّلة عند نقد نظرية المعتزلة ، وبيّنا هناك أنّ سرّ حاجة الممكن إلى المبدأ كامن في صميم ذاته ووجوده ، فلا فرق بين حدوثه وبقائه من هذه الناحية أصلاً .
والمقدّمة الثانية تفيض من العباد عند فرض وجود المقدّمة الاُولى ، فهي مرتبطة بها في واقع مغزاها ومتفرّعة عليها ذاتاً ، وعليه فلا يصدر فعل من العبد إلاّ عند إفاضة كلتا المقدّمتين ، وأمّا إذا انتفت إحداهما فلا يعقل تحقّقه . وعلى أساس ذلك صحّ إسناد الفعل الى الله تعالى ، كما صحّ إسناده إلى العبد([5]) .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] المحاضرات 2 : 83 .
[2] اُصول الكافي 1 : 159 ، ح 8 .
[3] اُصول الكافي 1 : 159 ، ح10 .
[4] البيان : 88 ـ 89 . وأمّا سائر الروايات الواردة في ذلك فهي كالتالي :
1 ـ صحيحة يونس بن عبد الرحمن عن غير واحد عن أبي جعفر وأبي عبداللهعليهما السلامقالا : «إنّ الله أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثمّ يعذّبهم عليها ، والله أعزّ من أن يريد أمراً فلا يكون ، قال : فسُئِلا هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة ؟ قالا : نعم ، أوسع ممّا بين السماء والأرض» .
2 ـ صحيحته الاُخرى عن الصادق عليه السلام قال : قال له رجل : جعلت فداك ، أجَبَر الله العباد على المعاصي ؟ قال : «الله أعدل من أن يجبرهم على المعاصي ثمّ يعذّبهم عليها ، فقال له : جعلت فداك ، ففوّض الله إلى العباد ؟ قال ، فقال : لو فوّض اليهم لم يحصرهم بالأمر والنهي ، فقال له : جعلت فداك فبينهما منزلة ؟ قال ، فقال : نعم ، أوسع ممّا بين السماء والأرض» .
3 ـ صحيحة هشام وغيره ، قالوا :قال أبو عبدالله الصادق عليه السلام : « إنّا لا نقول جبراً ولا تفويضاً » .
4 ـ رواية حريز عن الصادق عليه السلام ، قال : «الناس في القدر على ثلاثة أوجه : رجل زعم أنّ الله عزّ وجلّ أجبر الناس على المعاصي ، فهذا قد ظلم الله عزّ وجلّ في حكمه وهو كافر ، ورجل يزعم أنّ الأمر مفوّض إليهم ، فهذا وهَنَ الله في سلطانه فهو كافر ، ورجل يقول : إنّ الله عزّ وجلّ كلّف العباد ما يطيقون ولم يكلّفهم ما لا يطيقون ، فإذا أحسن حمد الله ، وإذا أساء استغفر الله ، فهذا مسلم بالغ» .
5 ـ رواية صالح عن بعض أصحابه عن الصادقعليه السلام ، قال : سئل عن الجبر والقدر ، فقال : «لا جبر ولا قدر ، ولكن منزلة بينهما فيها الحق التي بينهما لا يعلمها إلاّ العالم أو من علّمها إياه العالم» .
6 ـ ومنها : مرسلة محمد بن يحيي عن الصادق عليه السلام : «لا جبر ولا تفويض ، ولكن أمر بين الأمرين» .
7 ـ رواية حفص بن قرط عن الصادقعليه السلام ، قال : «قال رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم : من زعم أنّ الله يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله ، ومن زعم أنّ الخير والشر بغير مشيئة الله فقد أخرج الله من سلطانه ، ومن زعم أنّ المعاصي بغير قوّة الله فقد كذب على الله ، ومن كذب على الله أدخله النار» .
8 ـ رواية مهزم ، قال : قال أبو عبداللهعليه السلام : « أخبرني عمّا اختلف فيه من خلّفت من موالينا ، قال فقلت : في الجبر أو التفويض ؟ قال : فاسألني ، قلت : أجَبَر الله العباد على المعاصي ؟ قال : الله أقهر لهم من ذلك ، قال ، قلت : ففوّض اليهم ؟ قال : الله أقدر عليهم من ذلك ، قال ، قلت : فأيّ شيء هذا أصلحك الله ؟ قال : فقلب يده مرتين أو ثلاثاً ثمّ قال : لو أجبتك فيه لكفرت» .
9 ـ مرسلة أبي طالب القمي عن أبي عبداللهعليه السلام ، قال ، قلت : اجَبَر الله العباد على المعاصي ؟ قال : «لا ، قال ، قلت : ففوّض اليهم الأمر ؟ قال : لا ، قال ، قلت : فماذا لطف من ربّك ؟ قال : بين ذلك » .
10 ـ رواية الوشاء عن أبي الحسن الرضاعليه السلام ، قال : سألته فقلت : الله فوّض الأمر إلى العباد؟ قال : «الله أعزّ من ذلك ، قلت : فجبرهم على المعاصي ؟ قال : الله أعدل وأحكم من ذلك ، قال : ثمّ قال : قال الله : يا ابن آدم أنا أولى بحسناتك منك ، وأنت أولى بسيّئاتك منّي ، عملت المعاصي بقوتي التي جعلتها فيك» .
11 ـ رواية هشام بن سالم عن الصادقعليه السلام ، قال : «الله أكرم من أن يكلّف الناس ما لا يطيقون ، والله أعزّ من أن يكون من سلطانه ما لا يريد» .
12 ـ ما روي عن الصادق جعفر بن محمّدعليه السلام أنـّه قال : «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين . . .» .
13 ـ رواية عن أبي حمزة الثمالي أنـّه قال : قال أبو جعفرعليه السلام للحسن البصري : « إيّاك أن تقول بالتفويض ، فإنّ الله عزّ وجلّ لم يفوّض الأمر إلى خلقه وهناً منه وضعفاً ، ولا أجبرهم على معاصيه ظلماً » .
14 ـ رواية المفضل عن أبي عبداللهعليه السلام قال : «لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين» ، وغيرها من الروايات الواردة في هذا الموضوع ، وقد بلغت تلك الروايات من الكثرة حدّ التواتر .
15 ـ فهذه الروايات المتواترة معنىً وإجمالاً ، الواضحة الدلالة على بطلان نظريتي الجبر والتفويض من ناحية ، وعلى إثبات نظرية الأمر بين الامرين من ناحية اُخرى وحدها كافية لإثبات المطلوب فضلاً عمّا سلف من إقامة البرهان العقلي على بطلان كلتا النظريتين . وعلى هذا الأساس فكلّما يكون بظاهره مخالفاً لتلك الروايات فلابدّ من طرحه بملاك أنـّه مخالف للسنة القطعية وللدليل العلمي العقلي ، انظر اُصول الكافي 1 : 157 ـ 160 . بحار الأنوار 5 : 4 ، 9 ، 17 ، 53 ، ح1 ، 26 ـ 28 ، 89 .
[5] المحاضرات 2 : 85 ـ 87 .