تنبيهات
لا بأس بالإشارة في نهاية المطاف إلى ]عدّة تنبيهات[ :
الأول : أنّ الفخر الرازي قد أورد شبهة على ضوء الهيئة القديمة([1])] سوف نتعرّض لها في بحث حقيقة الإرادة الإلهيّة([2]) لمناسبتها مع ذلك البحث ، فانتظر[ .
الثاني : ]وحاصله : أنّه[ سبق أن قلنا أن الفعل الخارجي الصادر من العبد بحسب اختياره منسوب إلى الله تعالى وإلى العبد نفسه ، فباعتبار أنّ قدرة العبد نحو العمل إنّما هي من قبل الله تعالى فالعمل منسوب إليه تعالى ، وباعتبار أنّ العبد أعمل قدرته بحسب اختياره وأوقع العمل بنفسه خارجاً فالعمل منسوب إلى العبد ، فكان للعمل فاعلان : فاعل مباشر ، وفاعل موجد للمقتضي بلا فرق بين أن تكون الأعمال حسنة أو قبيحة .
وقد ينسب العمل إلى واحد منهما دون الآخر في نظر العرف ، فالأعمال الحسنة إن صدرت من الشخص فهي منسوبة إلى من هيّأ مقدّمات ذلك الشيء ، أمّا الأعمال القبيحة إن صدرت فهي منسوبة إلى فاعلها ، مثلاً لو بذل شخص زاداً وراحلة لشخص آخر في الذهاب إلى الحج ، وسعى له في انجاز مهمّاته ، وقد أحضر له طائرة خاصّة فذهب بها إلى الحج وأدّى الفريضة ، فالعرف يرى صدور الفعل ممن هيّأ له المقدّمات دون فاعله ، أمّا لو اتّفق أن استقلّ الطائرة ، وذهب بها إلى أماكن لا ترضي الله ورسوله وعمل ما عمل هناك ، فالفعل في نظر العرف منسوب إلى الفاعل دون من هيّأ المقدّمات ، وهكذا الأمر في أفعال العبيد ، فإن كانت أفعالهم حسنة استندت في نظر العرف إلى الله تعالى ، وإن فعلها العبد بنفسه ـ وإن كانت قبيحة ـ استندت إلى العبد نفسه دون ربّه ، وإن كان العمل في الحقيقة منسوباً إلى كليهما كما عرفت .
وعلى هذا يحمل ما ورد في بعض الروايات بحسب المضمون « إنّي أولى بحسناتك من نفسك ، وأنت أولى بسيئاتك منّي » فإنّ المنظور إليه هو النظر العرفي دون الدقي ، وهذا المعنى لا يتنافى مع ما قلناه ، من صحّة استناد العمل إلى الله تعالى ، وإلى فاعله ]وهو[ العبد([3]) .
] الثالث [ : إنّ قولك في الصلوات « بحول الله وقوّته أقوم وأقعد » يشير إلى ما ذكرناه من الأمر بين الأمرين ، وأنّ إفاضة القدرة دائماً يكون من المولى ، وهكذا جميع مبادئ الفعل من الإدراك والحبّ والإشتياق والقدرة يكون منه تعالى ، وأنّ البناء والاختيار يكون من العبد ، ولذا أسند الفعل في قول « بحول الله أقوم » إلى نفس العبد ، والحول والقوة إلى الله تعالى ، وأمّا قوله تعالى : (وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْء إِنِّي فَاعِلٌ ذلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَاءَ)([4]) ، فقد ذكر بعض المفسّرين أنّ الاستثناء يكون من المنهي عنه ، وأنّ المعنى هو النهي عن قول إنّي فاعل ذلك غداً بتّاً ، وعدم النهي عنه إذا انضم إليه قول إلاّ أن يشاء الله ، ولكنّه محتاج إلى التقدير وهو خلاف الظاهر ، بل الظاهر أن يكون المراد هو النهي عن مجموع تلك الجملة بأن يكون الاستثناء أيضاً مقول القول ، فقول «إلاّ أن يشاء الله» يكون هو المنهي عنه : وذلك لأن ظاهره التفويض .
وبعبارة اُخرى ، تارة : يخبر الإنسان عن فعل عمل بتّاً من دون تعليق ، وربّما يكون ذلك مع الالتفات إلى لوازمه مستلزماً للكفر . واُخرى : ربّما يخبر معلّقاً على حول الله وقوّته ومشيئته ، وهذا هو المحبوب . وثالثة : يخبر ويجعل إرادة الخلاف من الله تعالى مانعاً عن ذلك بأن يقول : « أفعل ذلك غداً إلاّ أن يشاء الله خلافه ويمنعني عنه » ، وكثيراً ما يستعمل ذلك في محاورات أعضاء الدولة ، مثلاً يقول الوزير : « أخرج غداً إن لم يمنعني السلطان » ، ومعنى ذلك هو الاستقلال في العمل والاستغناء عن السلطان والإخبار بأنّه أقدر منه ، فإن شاء منعه ، وهذا تفويض محض ، وهو المنهي عنه في الآية المباركة ، فتأمّل .
] الرابع [ : أنّه لا ينافي ما ذكرناه من الأمر بين الأمرين ما ورد في بعض الآيات والأخبار من اسناد فعل العبد إلى الله تعالى أو تعليقه على مشيئته ، كما في قوله تعالى شأنه في سورة هل أتى (وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ)([5]) فإنّه واقع في ذيل قوله تعالى : (فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً)([6]) ، وحيث إنّه أمر خير اُسند ذلك إلى الله ، وهكذا ما ورد في الحديث القدسي ، وما مضمونه : « بمشيئتي ]كنت [أنت الذي تشاء »([7]) .
وبالجملة ، لا منافاة بين ثبوت الأمر بين الأمرين ، وكون نسبة الأعمال من المعاصي والطاعات الى المولى والى العبد على حدٍّ سواء بحسب الدقّة العقليّة ، وكون إسناد الطاعة إلى الله جلّ شأنه أولى عرفاً ، وإسناد المعصية إلى العبد أولى كذلك ، ونوضّحه بمثال عرفي ، فإنّه لو أعطى الوالد لولده مالاً وبيّن له طرق التجارة وطرق الملاهي ، وأمره بالتجارة ونهاه عن صرف المال في الملهى وحذّره ذلك ، فإن صرف الولد المال في التجارة وربح منها يسند الربح إلى المولى عرفاً ، ويقال هذا الخير وصل إلى الولد من والده ، وأمّا لو صرفه في اللّهو والخسران يسند ذلك عرفاً إلى الولد ، ويقال هو خسّر نفسه ، ونظير ذلك إسناد الطاعات إلى المولى الحقيقي والمعاصي إلى العبد ، وهذا معنى الأولويّة([8]) .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] المحاضرات 2 : 95 .
[2] وهي مذكورة تحت عنوان : « تعلّق المشيئة الإلهيّة بحركة الأجرام على نحو خاص » ، وسوف يأتي أنّها على هذه النظرية ساقطة جداً » .
[3] مصابيح الاُصول : 201 ـ 202 ، وفي المحاضرات 2: 98 ـ 99 ما يقرب منه معنىً، فإنّه قال : «قد عرفت أنّ للفعل الصادر من العبد إسنادين حقيقيين : أحدهما : إلى فاعله مباشرة . وثانيهما : إلى معطي مقدّماته ومباديه التي يتوقّف الفعل عليها ، وهو الله سبحانه وتعالى ، ولكن قد يكون إسناده إلى الله تعالى أولى في نظر العرف من إسناده إلى العبد ، وقد يكون بالعكس...» .
[4] الكهف : 23 و24 .
[5] الإنسان : 30 .
[6] الإنسان : 29 .
[7] توحيد الصدوق : 343 ـ 344 ، ح13 .
[8] دراسات في علم الاُصول 1 : 169 ـ 171 .