حكم جريان قاعدة الحسن والقبح في حقّ المتجرّي
إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ الفعل المتجرّى به من المتجرّي طغيان وظلم وعدوان ، وتعدّ على المولى وهتك لحرمته ، وإظهار للجرأة عليه بالضرورة والوجدان ، ولا فرق بينه و]بين[ العاصي في ذلك أصلاً ، وقد عرفت أنّ القبح ينطبق على الفعل الاختياري ، ومناط القبح في الفعل الاختياري أيضاً جهة اختياريّته ، لا ما لا يكون اختيارياً للفاعل . ومن المعلوم أنّ مناط القبح في فعل العاصي ليس إلاّ هذه العناوين المذكورة لا المصادفة للواقع ; فإنّها غير اختياريّة له ، وعين هذا المناط موجود في المتجرّي بلا قصور ولا نقصان ، ولاريب أنّه أيضاً ـ كالعاصي ـ ملتفت إلى أنّ فعله مصداق للهتك والظلم ، فقد هتك عن اختيار والتفات ، وهو كذلك ممّا يستقلّ العقل بقبحه ويدرك أنّه يحقّ أن يذمّ فاعله ، ولو ذمّ فاعله عليه لوقع الذمّ في محلّه . ومن هنا لو اعتقد أحد بأنّ المائع الخارجي ماء وشربه بهذا الاعتقاد ، لم يتّصف فعله وشربه بالقبح ولو كان في الواقع خمراً .
وأقوى شاهد على ما ذكرنا أنّه لم يستشكل أحد من العقلاء ولم يشك في اتّصاف الفعل المنقاد به بالحسن واستحقاق المنقاد المدح عليه ، وهل يرضى أحد أنّ من قطع بأنّ مولاه يطلبه في الليل فوافق قطعه ، وذهب إليه في الليلة الباردة المظلمة ، وتحمّل المشاقّ الكثيرة وبعد ذلك انكشف أنّ المولى لم يكن يطلبه ، أنّه لم يفعل فعلاً حسناً ولا يستحقّ المدح عليه ؟ كلاّ بل يراه العقلاء عبداً مطيعاً منقاداً طالباً لرضى مولاه ، ويمدحونه على هذا الفعل ، ويمدحه مولاه عليه ، بل يثيبه لذلك ، ومن المعلوم أنّ التجرّي والانقياد يرتضعان من ثدي واحد ، واتّصافهما بالحسن والقبح بمناط فارد .
أمّا الحيثيّة الثانية ـ وهي أنّ هذا القبح العقلي المتّصف به التجرّي هل يستتبع حكماً شرعيّاً أم لا ؟ ـ فالحقّ فيها هو عدم الاستتباع ، وذلك لأنّه لا وجه له إلاّ دعوى الملازمة بين حكم العقل والشرع ، وقد حقّقنا في محلّه أنّه لا أساس لهذه القاعدة ، وأنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد الواقعيّة ، والحسن والقبح العقليّين غير ملازمين مع المصلحة والمفسدة .
نعم ، لو أدرك العقل المصلحة الملزمة أو المفسدة كذلك ، وأحرز أنّه لا مزاحم لها ، فيترتّب عليه ـ لا محالة ـ حكم شرعيّ ; للعلم بوجود ملاكه على الفرض ، وأمّا نفس إدراك الحسن والقبح فلا يترتّب عليه شيء ، بل نقول : إنّ الخطاب الشرعي للمتجرّي ، المستتبع عن قبح المتجرّى به غير معقول ; فإنّه إمّا أن يكون نفس الخطاب الذي ]هو [متكفّل للحكم الأوّلي الثابت لنفس الخمر مثلاً أو غيره .
والأوّل بديهي البطلان ; إذ مرتبة القبح الفعلي متأخّرة عن مرتبة الخطاب والتكليف ; فإنّه يتحقّق في مقام الإتيان والامتثال . . . .
والثاني إمّا متوجّه إلى خصوص المتجرّي ، أو عنوان شامل له وللعاصي ، كعنوان المتمرّد على المولى والهاتك لحرمته . . . .
والحاصل : أنّه لايمكن القول باستتباع القبح الفعلي في المتجرّى به للحكم الشرعي بوجه من الوجوه .
وأمّا الكلام في الجهة الثالثة ، وهي الجهة الكلامية فحاصله : أنّ المتجرّي مستحقّ للعقاب بعين الملاك الذي يوجب استحقاق العاصي له ، وذلك لأنّ العقاب لابدّ وأن يكون على أمر اختياري ، وما هو اختياري في العصيان والتجرّي هو التجرّي بالمعنى اللغوي ، أي الجرأة على المولى وهتك حرمته الذي يتحقّق بمخالفة القطع سواء صادف الواقع أو لم يصادفه ; ضرورة أنّ المصادفة للواقع وعدم المصادفة له أمران خارجان عن تحت اختيار المكلّف ، ولا يترتّب عليهما أثر أصلاً ، ولذا نفس مخالفة الحكم الواقعي في ظرف الجهل وعدم الوصول لا يعاقب عليها ، فالعقاب دائماً يكون في مرتبة الوصول ، وقبلها قبيح لا يصدر من الحكيم ، ومن البيّن أنّ في هذه المرتبة ما يكون ملاكاً لاستحقاق العاصي للعقاب ليس إلاّ الجرأة على المولى وهتك حرمته ، وهذا بعينه موجود في المتجرّي ، والعقل حاكم باستحقاق العقاب في المقامين بمناط واحد .
وعلى ذلك لا يبقى مجال لما أفاده في الفصول من تداخل العقابين في فرض مصادفة القطع للواقع ، أحدهما عقاب الإتيان بمبغوض المولى ، والآخر عقاب هتكه والجرأة عليه([1]) ; وذلك لما عرفت من أنّ العقاب ]لايكون[ دائماً إلاّ على هتك حرمة المولى ، ففي فرض المصادفة أيضاً ليس إلاّ سبب واحد للعقاب .
]كما لا مجال[ لما أفاده في الكفاية([2]) من أنّ العقاب ليس على الفعل المتجرّى به ، بل على قصد العصيان وإرادة الطغيان ، الناشئة عن سوء سريرته وشقاوته الذاتيّة له ، والذاتي لا يعلّل ، و]أن[ السؤال عنه مساوق للسؤال عن أنّه لِمَ يكون الإنسان ناطقاً والحمار ناهقاً ؟ ! لما عرفت من أنّ العقاب على أمر اختياري ملتفت إليه ، وهو الهتك ، وقد مرّ في بحث الطلب والإرادة أنّ السعادة والشقاوة ليستا ذاتيّتين للإنسان ، وذكرنا وجهه مفصّلاً ، فراجع([3]) .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الفصول : 78 .
[2] كفاية الاُصول : 260 .
[3] الهداية في الاُصول 3 : 22 ـ 27 .