طباعة

في حصر الاستعانة في اللّه

في حصر الاستعانة في اللّه

 إنّ التوسل بالنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و إن كان استعانة به لكنّه لاينافي حصر الاِستعانة باللّه تبارك وتعالى وذلك أنّ المسلمين في أقطار العالم يَحصرون الاستعانة في اللّه سبحانه و مع ذلك يستعينون بالاَسباب العادية، جرياً على القاعدة السائدة بين العقلاء، ولا يرونه مخالفاً للحصر، كما أنّ المتوسّلين بأرواح الاَنبياء يستعينون بهم في مشاهدهم و مزاراتهم ولايرونه معارضاً لحصر الاستعانة باللّه سبحانه، و ذلك لاَنّ الاستعانة بغير اللّه يمكن أن تتحقق بصورتين:
 1ـ أن نستعين بعامل ـ سواء أكان طبيعياً أم غير طبيعي ـ مع الاعتقاد بأنّ عمله مستند إلى اللّه، بمعنى أنه قادر على أن يعين العباد و يزيل مشاكلهم بقدرته المكتسبة من اللّه و إذنه.
 وهذا النوع من الاستعانة ـ في الحقيقة ـ لا ينفك في الواقع عن الاستعانة باللّه ذاته، لاَنّه ينطوي على الاعتراف بأنّه هو الذي منح تلك العوامل، ذلك الاَثر، وأذن لها، و إن شاء سلبها وجرّدها منه.
 فإذا استعان الزارع بعوامل طبيعية كالشمس و الماء وحرث الاَرض، فقد استعان باللّه ـ في الحقيقة ـ لاَنّه تعالى هو الّذي منح هذه العوامل: القدرة على إنماء ما أودع في بطن الاَرض من بذر و من ثمّ إنباته و الوصول به إلى حدّ الكمال.
 2ـ أن يستعين بإنسان حىّ او ميّت أو عامل طبيعي مع الاعتقاد بأنّه مستقلّفي وجوده، أو في فعله عن اللّه، فلا شكّ أنّ ذلك الاعتقاد شرك و الاستعانة به عبادة.
  فإذا استعان زارع بالعوامل المذكورة و هو يعتقد بأنّها مستقلّة في تأثيرها أو أنّها مستقلّة في وجودها ومادتها كما في فعلها وقدرتها، فالاعتقاد شرك والطلب عبادة للمستعان به.
 وبذلك يظهر أنّ الاستعانة المنحصرة في اللّه المنصوص عليها في قوله تعالى:"و إيّاكَ نَسْتَعينُ" هي الاستعانة بالمعونة المستقلّة النابعة من ذات المستعان به، غير المتوقّفة على شيء، فهذا هو المنحصر في اللّه تعالى، وأمّا الاستعانة بالاِنسان الذي لا يقوم بشيء إلاّ بحول اللّه و قوّته و إذنه و مشيئته، فهي غير منحصرة باللّه سبحانه، بل إنّ الحياة قائمة على هذا الاَساس ، فإنّالحياة البشرية مليئة بالاستعانة بالاَسباب التي توَثّر و تعمل بإذن اللّه تعالى.
 وعلى ذلك لا مانع من حصر الاستعانة في اللّه سبحانه بمعنى، و تجويز الاِستعانة بغيره بمعنى آخر و كم له نظير في الكتاب العزيز.
 و لاِيقاف القارىَ على هذه الحقيقة نلفت نظره إلى آيات تحصر جملة من الاَفعال الكونية في اللّه تارة، مع أنّها تنسب نفس الاَفعال في آيات أُخرى إلى غير اللّه أيضاً، و ما هذا إلاّ لعدم التنافي بين النسبتين لاختلاف نوعيّتهما فهي محصورة في اللّه سبحانه مع قيد الاستقلال، و تنسب إلى غير اللّه مع قيد التبعية و العرضية.
 الآيات التي تنسب الظواهر الكونية إلى اللّه و إلى غيره:
 1ـ يقول سبحانه:"و إذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ" (الشعراء|80). بينما يقول سبحانه فيه (أي في العسل): "شِفاءٌ لِلنّاسِ" (النحل|69).
 2ـ يقول سبحانه: "إِنَّ اللّهَهُوَ الرَّزّاقُ" (الذاريات|58) بينما يقول تعالى: "وَارْزُقُوهُمْ فِيها" (النساء|5).
 3ـ يقول سبحانه: "ءَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ" (الواقعة|64). بينما يقول سبحانه:"يُعْجِبُ الزُّرّاعَلِيَغيظَ بِهِمُ الكُفّارَ" (الفتح|29).
 4ـ يقول تعالى: "وَ اللّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ" (النساء|81). بينما يقول سبحانه: "بَلىوَ رُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ"(الزخرف|80).
 5ـ يقول تعالى: "ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِيُدَبِّرُ الاََمْرَ" (يونس|3). بينما يقول سبحانه:"فَالمُدَبِّراتِ أَمْراً" (النازعات|5).
 6ـ يقول سبحانه: "اللّهُ يَتَوفَّى الاََنْفُسَ حِينَ مَوْتِها" (الزمر|42). بينما يقول تعالى:"الَّذِينَ تَتَوفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبينَ" (النحل|32).
 إلى غير ذلك من الآيات التي تنسب الظواهر الكونية تارة إلى اللّه تعالى، و أخرى إلى غيره.
 والحل أن يقال: إنّالمحصور باللّه تعالى هو انتساب هذه الاَُمور على نحو الاستقلال، وأمّا المنسوب إلى غيره فهو على نحو التبعية، و بإذنه تعالى، ولا تعارض بين النسبتين ولا بين الاعتقاد بكليهما.
 فمن اعتقد بأنّ هذه الظواهر الكونية مستندة إلى غير اللّه على وجه التبعية لا الاستقلال لم يكن مخطئاً ولا مشركاً، و كذا من استعان بالنبيّ أو الاِمام على هذا الوجه.
 هذا مضافاً إلى أنّه تعالى الّذي يعلّمنا أن نستعين به فنقول: "إِيّاكَ نَعْبُدُوَإِيّاكَ نَسْتَعينُ" و يحثُّنا في آية أُخرى على الاستعانة بالصبر والصلاة فيقول: "وَاسْتَعِينُوا بالصَّبْرِوَالصَّلاةِ" (البقرة|45) و ليس الصبر والصلاة إلاّ فعل الاِنسان نفسه.