النقطة الثالثة : قصة الغدير
أنهى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مناسكه من حجة الوداع وغادر مكة المكرمة ليعود إلى مهجره الشريف « المدينة المنورة » ، سار ثلاثة أيام وهو يطوي بمن معه من اُلوف الصحابة صحراء الحجاز المحرقة ، وفي اليوم الثالث من مسيره وبعد مضيِّ خمس ساعات من النهار وصل إلى « كراع الغميم » قريباً من الجحفة ، فنزل عليه الأمر الإلهي يوعد ويعد : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ ربِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ )([1]) .
فنظر إلى شجرات هناك وأمر بتنظيف ما تحتهن ، واتخذها مقراً لتبليغ ما اُنزل إليه من ربّه ، فأمر بتأخير من تقدم وانتظر من تأخر ، ونادى منادي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) : الصلاة جامعة ، وكان يوماً شديد الحر ، حتى أنّ الرجل منهم ليضع طرف ردائه على رأسه والآخر تحت قدميه .
نصب المنبر من الأحجار وأحداج الإبل ، فقام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والجميع ينتظر ما يقوله المبلغ عن ربه ، فلعلّ هناك أمراً خطيراً قد وقع ! فخطبهم خطبة عظيمة حسب وصف ابن كثير لها ، وبالغة حسب وصف الطبري ، ووعتها الأذهان إلاّ أنها لم تستقرَّ في صحائف المؤرخين !
وكان من جملتها حسبما أثبته المحدِّثون :
« ألست أولى بكم من أنفسكم ؟
قلنا : بلى يا رسول الله !
قال : ألست أولى بكم من اُمّهاتكم ؟
قلنا : بلى يا رسول الله !
قال : ألست أولى بكم من آبائكم ؟
قلنا : بلى يا رسول الله !
قال : ألست . . ألست . . ألست ؟
قلنا : بلى يا رسول الله!
قال : من كنت مولاه فعلي مولاه اللّهم والِ من والاه وعادِ من عاداه » .
فقال عمر بن الخطاب : هنيئاً لك يا ابن أبي طالب أصبحت اليوم ولي كل مؤمن .
وفي ما خرّجه الدارقطني عن سعد بن أبي وقاص : ولمّا سمع أبو بكر وعمر ذلك قالا : أمسيتَ يا ابن أبي طالب مولى كل مؤمن ومؤمنة ([2]) .
حينها نزل قوله تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً )([3]) .
فتمتم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مستبشراً : « الحمد لله على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضا الرب » ، وأقبل الصحابة يهنئون الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام علياً (عليه السلام) بما أتحفه الله به من ولاية المؤمنين ليكون خليفة للرسول الأمين .
ولكن هناك من خذله الشيطان فاستولى على سمعه وبصره فأعماه وأصمه فجاء منتفضاً رافعاً صوته على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قائلاً : يا محمّد! أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلاّ الله وأنك رسول الله فقبلناه ، وأمرتنا أن نصلي خمساً فقبلناه منك ، وأمرتنا بالزكاة فقبلنا ، وأمرتنا أن نصوم شهراً فقبلنا ، وأمرتنا بالحج فقبلنا ، ثم لم ترضَ بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمك ففضلته علينا وقلت : من كنت مولاه فعلي مولاه ، فهذا شيء منك أم من الله عز وجل؟
فقال : « والذي لا إله إلاّ هو أنّ هذا من الله » .
فولّى الحارث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول :
اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ، فما وصل إليها حتى رماه الله تعالى بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره وقتله ، وأنزل الله عز وجل : ( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَاب وَاقِع )([4]) الآيات .
وهكذا تنتهي قصة الغدير بما تحمل من معاني الولاء والإمرة للإمام علي (عليه السلام) ، ويسير الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) نحو مدينته الطيبة « طَيبة » فرحاً مستبشراً بإكمال الدين وإتمام النعمة!
--------------------------------------------------------------------------------
[1] المائدة 5 : 67 .
[2] المناوي في فيض القدير 6 / 218 .
[3] المائدة 5 : 3 .
[4] المعارج 70 : 1 .