طباعة

الخلق الكريم

الخلق الكريم

وقد فاضت من هذه النفس الكريمة تلك الأخلاق الحسنة التي تحدثنا بها كتب التاريخ، أوليس الطيب دليل الزهـرة، والشعاع دليل الضياء ؟ وهل الإيمان إلاّ الحب، وهل دليل الحب غير تلك الأخلاق الحسنـة ؟

كان (ع) في قمة التواضع وحسن المعاشرة مع الناس هكذا ينقل إبراهيم بن العباس يقول : ما رأيت أبا الحسن الرضا جفا أحداً بكلامه قط، وما رأيته قطع على أحد كلامه حتى يفرغ منه، وما ردّ أحداً عن حاجة يقدر عليها، ولا مدّ رجليه بين يدي جليس له قط، ولا اتكأ بين يدي جليس له قط، ولا رأيته شتم أحداً من مواليه ومماليكه قط، ولا رأيته تفل قط، ولا رأيته يقهقه في ضحكه قط، بل كان ضحكه التبسم .

وكان إذا خلا ونصبت مائدته أجلس معه على مائدته مماليكه حتى البواب والسائس، وكان (ع) قليل النوم بالليل، كثير السهر يحيي أكثر لياليه من أولها إلى الصبح، وكان كثير الصيام فلا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر، ويقول : ذلك صوم الدهر، وكان (ع) كثير المعروف والصدقة في السر، وأكثر ذلك يكون منه في الليالي المظلمة، فمن زعم أنه رأى مثله في فضله فلا تصدقوه (23).

وكان من تواضعه (ع) أنه دخل الحمام فقال له بعض الناس : دلكني فجعل يدلكه، فإذا بالناس يدعون الرجل يعرّفونه بالإمام، وإذا الرجل جعل يستعذر منه ولكنه يطيب قلبه ويستمر في تدليكه (24) .

ويروي رجل من أهل بلخ رافق الإمام في سفره إلى خراسان ويقول : دعا يوماً بمائدة له فجمع مواليه من السودان وغيرهم، فقلت : جعلت فداك لو عزلت لهؤلاء مائدة، فقال : مه إن الرب تبارك وتعالى واحد والأم واحدة والأب واحد، والجزاء بالأعمال (25) .

وكان يكره لغلمانه أن يقوموا له احتراماً عندما يكونون على الطعام ويقول : “ إن قمت على رؤوسكم وأنتم تأكلون، فلا تقوموا حتى تفرغوا “ (26) .

وكان عظيم الحلم والعفو، ويذكر من حلمه أن قائداً من أتباع بني العباس يسمى بـ (الجلودي) أمره هارون الرشيد بأن يذهب إلى المدينة ويسلب نساء آل أبي طالب، ولا يدع على كل واحدة منهن إلاّ ثوباً واحداً، ففعل الرجل، مما أثار سخطاً عظيماً عند الإمام الرضا (ع)، ولكن بعد أن عهد إلى الإمام الرضا بولاية العهد عارض ذلك الجلودي ونقم من بيعة الإمام فغضب عليه المأمون، وأخرجه يوماً ليقتله من بعد أن قتل اثنين قبله فلما تمثل أمامه شفع له الإمام الرضا عند المأمون وقال :

“ يا أمير المؤمنين هب لي هذا الشيخ “ .

فظـن الجلودي أنه يعين عليه، فأقسم على المأمون ألا يقبل قوله . فقال المامون والله لا أقبل قوله فيـك، وأمر بضرب عنقه (27) .

وكان سخياً كريماً . وكان من آدابه في الصدقات أنه إذا جلس للأكل أتى بصفحة فتوضع قرب مائدته، فيعمد إلى أطيب الطعام مما يؤتى به فيأخذ من كل شيء شيئاً فيوضع في تلك الصفحة، ثم يأمر بها للمساكين ثم يتلو هذه الآية :

{ فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ } (البلد /11) .

ثم يقول :

“ علـم الله عز وجل أن ليـس كل إنسان يقدر على عتق رقبة فجعل لهم السبيل الجنة (عبر الإطعام) “ (28) .

وفرّق بخراسان ماله كله في يوم عرفة، فقال له الفضل بن سهل : إن هذا لمغرم، فقال (ع) :

“ بل هو المغنم، ولا تعدن مغرماً ما اتبعت به أجراً وكرماً “ (29) .

وكان إذا أعطى أحداً سعى ألا يذهب بهاءه ولا يراق ماء وجهه، والقصة التالية تعلمنا كيف نجعل صدقاتنا خالصة لوجه الله لا منّة فيها ولا استعلاء .

يروي اليسع بن حمزة ويقول : (كنت أنا في مجلس أبي الحسن الرضا (ع) أحدثه وقد اجتمع إليه خلق كثير يسألونه عن الحلال والحرام، إذ دخل عليه رجل طوالٌ أدم، فقال له : السلام عليك يا ابن رسول الله، رجل من محبيك ومحبي أبائك وأجدادك (ع) مصدري من الحج، وقد افتقدت نفقتي وما معي ما أبلغ به مرحلةً، فان رأيت أن تنهضني إلى بلدي ولله علي نعمة، فإذا بلغت بلدي تصدقت بالذي توليني عنك، فلست موضع صدقة فقال له : إجلس رحمك الله، وأقبل على الناس يحدثهم حتى تفرقوا، وبقي هــو وسليمان الجعفري وخيثمة وأنا، فقال : تأذنون لي في الدخول ؟ فقال له : يا سليمان قدم الله أمــرك، فقام فدخل الحجرة وبقي ساعة ثم خرج ورد الباب، وأخرج يده من أعلى الباب وقال : أين الخراساني ؟ فقال : ها أنا ذا فقال : خذ هذه المائتي دينار واستعن بها في مؤنتك ونفقتك وتبرك بها ولا تصدق بها عني، وأخرج فلا أراك ولا تراني .

ثم خرج فقال سليمان : جعلت فداك لقد أجزلت ورحمت، فلماذا سترت وجهك عنه ؟ فقال :

“ مخافـة أن أرى ذلك السؤال في وجهه لقضائي حاجته ،أما سمعت حديث رسول الله (ص) : “المستتر بالحسنة، تعدل سبعين حجة، والمذيع بالسيئة مخذول والمستتر بها مغفور له “ أما سمعت قول الأول :

متـى آتــه يومــاً لأطلـب حــاجــة * رجعت إلى أهلــي ووجهي بمــائــه “ (30)

وقد أعطى أبا نواس ثلاثمائة درهم لم يكن عنده سواها، وقدّم إليه بغلته التي كان يمتطيها، وحينما أعطى دعبل الخزاعي ستمائة دينار اعتذر إليه .

وكان كثير الصدقة في السر، وأكثرها كان في الليالي المظلمة (31) .

وكان (ع) مكتمل الجسم عظيم الهيبة . وكأيِّن من ذي حاجة دخل عليه ليطلبها منه فشغله جلاله وهيبته عنها فبادره الإمام بقضائها، وسنذكر جانباً من ذلك عن بيان علمه .