تمهيد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطيبين والطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين .
يقول الله سبحانه وتعالى : ( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ )(1) .
الحق في اللغة بمعنى الثبوت، ( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ) أي : أفمن يهدي إلى الأمور الثابتة القطعية اليقينية، هذا الذي يهدي إلى الواقع، ( أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ ) أم الذي لا يهتدي ( إِلاَّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) .
____________
(1) سورة يونس : 35 .
هذا الذي يقوله الله سبحانه وتعالى إرشاد إلى قاعدة عقلية قطعية عند جميع العقلاء من مسلمين وغير مسلمين، إنّهم إذا أرادوا الوصول إلى أمر واقع وإلى حقيقة من الحقائق، يهتدون بمن يعلم بتلك الحقيقة ويهدي ويوصل الإنسان إلى تلك الحقيقة، يرجعون إلى هكذا شخص، أمّا الذي ليس بمهدي، ليس بعارف بالحقيقة، الذي لا يهتدي إلى الواقع، كيف يمكن أن يكون هادياً للآخرين إلى الواقع ؟
ومن هنا قرّر العلماء من الفريقين على أنّ العقائد يجب أن يتوصل إليها الإنسان بالقطع واليقين، ولا يكفي في العقيدة الظن والتقليد، ويقول الله سبحانه وتعالى ( إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً )(1)، الظن لا يغني من الواقعيّات شيئاً، الواقعيّات والأمور الحقيقيّة، المطلوب فيها القطع واليقين، ولا يكفي فيها الظن، ولا يكفي فيها الأخذ بأقوال الآخرين، وهذه قاعدة عقليّة، والقرآن الكريم يشير ويرشد إلى هذه القاعدة العقلية القطعية .
____________
(1) سورة النجم : 28 .
وحينئذ إذا دار الأمر بين رجلين، أحدهما مهتدي ويمكنه هداية الآخرين إلى العقائد الحقة والأُمور الواقعية، والشخص الآخر يحتاج إلى من يهديه، يحتاج إلى من يرشده ويأخذ بيده، كيف يمكن الحكم بالاهتداء وبأخذ الحقائق والواقعيات ممّن هو بنفسه يحتاج إلى من يهديه ؟
أمّا نحن فنعتقد بأنّ الإمامة أمر لا يكون إلاّ من الله سبحانه وتعالى، الإمامة جعل ونصب من الله سبحانه وتعالى، ولا فرق بين الإمامة والنبوّة من هذه الحيثيّة، وحينئذ نحتاج في معرفة الإمام وتعيّنه إلى نصٍّ قطعيّ، أو إلى أدلّة تقتضي أن يكون الشخص هو الإمام لكونه مهتدياً وهادياً .
وأيضاً، لو قام الدليل على عصمة شخص أو أشخاص، فإنّ العصمة إنْ وجدت في شخص لا يجوّز العقل الإهتداء بغير هذا الشخص مع وجوده، ومع التمكن منه ولو بالواسطة، لذا جعلنا الإمامة إمّا بالنص وإمّا بالعقل، والنص إمّا من الكتاب وإمّا من السنّة القطعيّة .
وكان حديث المنزلة ـ وهو آخر الأدلة اللفظية التي بحثنا عنها ـ دليلاً على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) من الجهات الثلاثة جميعاً ، فلقد كان هذا الحديث نصّاً في إمامة أمير المؤمنين، ودليلاً على عصمته، ودليلاً على أفضليّته (عليه السلام) من سائر الصحابة .
وقد بحثنا عن مدلول هذا الحديث وفقهه، وبيّنا اندفاع الشبهات التي طرحت في كتب الأُصول والكلام على هذا الحديث والإستدلال به على إمامة أمير المؤمنين، وكان عمدة تلك الشبهات ، ثلاثة شبهات ذكرتها، وقد كانت شبهات مترابطة، وبيّنّا اندفاع تلك الشبهات بأدلّة عديدة تجتمع تلك الأدلّة على اندفاع المناقشات الثلاثة كلّها في دلالة حديث المنزلة .
وموضوع بحثنا في هذه الليلة هو الاستدلال بما يحكم به العقل على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام)، أي الدليل العقلي على الإمامة .