• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

تصفية الوجود الوثني داخل الجزيرة

الفصل الثالث
تصفية الوجود الوثني داخل الجزيرة


1 ـ إعلان البراءة من المشركين :
لم يبق في الجزيرة العربية من بقي على الشرك والوثنية سوى أفراد قلائل بعد أن انتشرت العقيدة الإسلامية والشريعة السمحاء في أرجائها واعتنقها كثير من الناس. وهنا كان لابد من إعلان صريح حازم يلغي كل مظاهر الشرك والوثنية في مناسك أكبر تجمع عبادي سياسي.
وحان الوقت المناسب لتعلن الدولة الإسلامية شعاراتها في كل مكان وتنهي مرحلة المداراة وتأليف القلوب التي تطلبتها المرحلة السابقة.
واختار النبي (صلى الله عليه وآله) يوم النحر زماناً ومنطقة منى[1] مكاناً لهذا الإعلان واختار أبا بكر ليقرأ مطلع سورة التوبة[2] التي نزلت لذلك وتضمّنت إعلان البراءة من المشركين جميعاً بصراحة وتمثّلت بنود البراءة في ما يلي:
1 ـ لا يدخل الجنة كافر.
2 ـ لا يطوف في البيت الحرام عُريان; إذ كانت تقاليد الجاهلية تسمح بذلك.
3 ـ لا يحج بعد هذا العام مشرك.
4 ـ من كان بينه وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله) عهد فأجله إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فإلى أربعة أشهر ثم يقتل من وُجِدَ في دار الإسلام مشركاً.
ونزل الوحي الإلهي ليبلّغ النبي (صلى الله عليه وآله) مبدأً مهمّاً نصّه: أ نّه لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك. فاستدعى النبي (صلى الله عليه وآله) علياً وأمره أن يركب ناقته العضباء ويلحق بأبي بكر ويأخذ منه البلاغ ويؤديه للناس[3].
ووقف علي بن أبي طالب بين جموع الحجيج وهو يتلو البيان الإلهي بقوة وجرأة تتوائم مع حزم القرار ووضوحه. ووقف الناس ينصتون إليه بحذر ودقة. وكان أثر الإعلان على المشركين أن قدموا مسلمين على رسول الله (صلى الله عليه وآله).
2 ـ مباهلة نصارى نجران :
اجتمع زعماء نصارى نجران وحكماؤهم يتدارسون أمر كتاب النبي (صلى الله عليه وآله) الذي يدعوهم فيه إلى الاسلام. ولم يتوصلوا إلى رأي قاطع إذ كانت في أيديهم تعاليم تؤكد وجود نبي بعد عيسى (عليه السلام)، وما ظهر من محمد فهو يشير الى نبوّته. من هنا قرّروا أن يرسلوا وفداً يقابل شخص النبي(صلى الله عليه وآله) ويحاوره.
واستقبل النبي (صلى الله عليه وآله) الوفد الكبير وقد بدى عليه عدم الرضا لمظهرهم الذي كان يحمل طابع الوثنية، فقد كانوا يرتدون الديباج والحرير ويلبسون الذهب ويحملون الصلبان في أعناقهم. ثم غدوا عليه ثانية وقد بدّلوا مظهرهم فرحّب بهم واحترمهم وفسح لهم المجال ليمارسوا طقوسهم[4].
ثم عرض عليهم الإسلام وتلا عليهم آيات من القرآن فامتنعوا وكثر الحجاج معهم، فخلصوا إلى أن يباهلهم النبي(صلى الله عليه وآله) وكان ذلك بأمر من الله عزّ وجلّ واتفقوا على اليوم اللاحق موعداً.
وخرج إليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو يحمل الحسين وبيده الحسن وخلفه ابنته فاطمة وابن عمّه علي بن أبي طالب امتثالاً لأمر الله تعالى الذي نصّ عليه الذكر الحكيم قائلاً: (فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين)[5] ولم يصحب سواهم أحداً من المسلمين ليثبت للجميع صدق نبوته ورسالته وهنا قال أسقف نجران: يا معشر النصارى اني لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني.
وحين أبوا أن يباهلوا النبي وأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين قال لهم الرسول: أمّا إذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما على المسلمين، فأبوا، فقال : إني أناجزكم القتال. فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تردّنا عن ديننا على أن نؤدي إليك في كل عام ألفي حلّة، ألفاً في صفر، وألفاً في رجب، وثلاثين درعاً عادية من حديد، فصالحهم على ذلك، وقال: والذي نفسي بيده إنّ الهلاك قد تدلّى على أهل نجران، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي ناراً، ولاستأصل نجران وأهله حتى الطّير على رؤوس الشّجر، ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا. فرجعوا إلى بلادهم دون أن يسلموا[6].
وروي أن السيد والعاقب من زعمائهم لم يلبثا إلاّ يسيراً حتى عادا إلى النبي (صلى الله عليه وآله) ليعلنا إسلامهما[7].
3 ـ حجة الوداع :
كان الرسول الأكرم القدوة الحسنة للإنسانية جمعاء، يبلّغ آيات الله ويفسّرها ويفصّل أحكامها ببيان جلي، وجماهير المسلمين حريصة على الاقتداء به في القول والعمل. وبحلول شهر ذي القعدة من العام العاشر للهجرة عزم النبي (صلى الله عليه وآله) على أداء فريضة الحج ـ ولم يكن قد حج من قبل وذلك ليطلع الاُمة على أحكام الله في فريضة الحج فتقاطرت ألوف المسلمين على المدينة وتجهّزوا للخروج مع النبي(صلى الله عليه وآله) حتى بلغ عددهم ما يقارب مائة ألف مسلم من مختلف الحواضر والبوادي والقبائل، تجمعهم المودة الصادقة والاُخوة الإسلامية والاستجابة لنداء الرسول القائد (صلى الله عليه وآله) بعد أن كانوا بالأمس القريب أعداءاً متنافرين، جُهّالاً كافرين. واصطحب النبي(صلى الله عليه وآله) معه كل نسائه وابنته الصديقة فاطمة الزهراء، وتخلّف زوجها علي بن أبي طالب في مهمة بعثه بها رسول الله(صلى الله عليه وآله)، واستعمل على المدينة أبا دجانة الأنصاري.
وفي منطقة ذي الحليفة أحرم النبي (صلى الله عليه وآله) فلبس قطعتين من قماش أبيض ولبّى عند الإحرام قائلاً: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لبيك لا شريك لك لبيك.
وفي الرابع من شهر ذي الحجة الحرام شارف النبيّ (صلى الله عليه وآله) مكة وقطع التلبية، ثم دخل المسجد الحرام وهو يكثر الثناء على الله ويحمده ويشكره فأستلم الحجر وطاف سبعاً وصلّى ركعتين عند مقام إبراهيم ثم سعى بين الصفا والمروة والتفت الى الحجيج قائلاً: من لم يَسُق منكم هدياً فليحلّ وليجعلها عُمرة، ومن ساق منكم هدياً فليقم على إحرامه.
ولم يستجب بعض المسلمين لأمر الرسول هذا ظناً منهم أنّ عليهم أن يفعلوا كما يفعل الرسول القائد (صلى الله عليه وآله) من عدم التحلّل من الإحرام، فغضب النبي(صلى الله عليه وآله) لموقفهم وقال: لو كنت استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كما أمرتكم[8].
وأقفل علي بن أبي طالب (عليه السلام) راجعاً من اليمن الى مكة ليلتحق برسول الله(صلى الله عليه وآله) وقد ساق معه (34) هدياً. وعلى مقربة من مكة تعجل لدخولها واستخلف أحد افراد سريته عليها. وسرّ النبي (صلى الله عليه وآله) بلقاء عليّ وما حقّقه من نجاح باهر في اليمن وقال له: انطلق فطف بالبيت وحِلّ كما حلّ أصحابك. فقال (عليه السلام): يا رسول الله اني أهللت كما أهللت، ثم قال (عليه السلام): إني قلت حين أحرمت: اللهم إني أهلّ بما اهل به عبدك ونبيك ورسولك محمد (صلى الله عليه وآله). ثمّ أمره (صلى الله عليه وآله) أن يعود إلى سريته ويصحبها إلى مكة، ولما قدموا على النبي (صلى الله عليه وآله) اشتكوا علياً (عليه السلام) لأنه كان قد رفض تصرّفاً خاطئاً فعلوه في غيابه، فأجابهم النبي (صلى الله عليه وآله) قائلاً: أيها الناس لا تشكوا علياً، فوالله إنه لأخشن في ذات الله من أن يشتكى[9].
وفي اليوم التاسع من ذي الحجة توجه النبي (صلى الله عليه وآله) مع جموع المسلمين نحو عرفات.
ومكث رسول الله (صلى الله عليه وآله) في عرفات حتى غروب اليوم التاسع، ومع الظلام ركب ناقته وأفاض إلى المزدلفة وأمضى فيها شطراً من الليل ولم يزل واقفاً من الفجر الى طلوع الشمس في المشعر الحرام. ثمّ توجّه في اليوم العاشر إلى منى وأدّى مناسكها من رمي الجمرات والنحر والحلق ثمّ توجّه نحو مكة لأداء بقية مناسك الحج.
وقد سمّيت هذه الحجة بـ حجة الوداع لأن الرسول(صلى الله عليه وآله) ودّع المسلمين في هذه الحجة التي اشار فيها الى دنوّ وفاته كما سُمّيت بـ حجة البلاغ لأنه (صلى الله عليه وآله) قد بلّغ فيها ما اُنزل إليه من ربّه في شأن الخلافة من بعده، ومنهم من سمّاها بـ حجة الإسلام لأنها الحجّة الاُولى للنبي (صلى الله عليه وآله) والتي بيّن فيها أحكام الإسلام الثابتة في مناسك الحج.
خطبة النبي (صلى الله عليه وآله) في حجة الوداع :
وروي أن النبي (صلى الله عليه وآله) خطب خطاباً جامعاً فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أيها الناس اسمعوا مني اُبين لكم فإني لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا. أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. فمن كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى الذي ائتمنه عليها وإنّ ربا الجاهلية موضوع، وإن أوّل رباً أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب. وإنّ دماء الجاهلية موضوعة، وإنّ أول دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وإنّ مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية، والعمد قود وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر ففيه مائة بعير فمن زاد فهو من أهل الجاهلية.
أيها الناس إنّ الشيطان قد يئس أن يُعبد في أرضكم هذه ولكنه رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحتقرون من أعمالكم.
أيها الناس إنما النسيء زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا يُحلّونه عاماً ويحرّمونه عاماً ليواطئوا عدّة ما حرّم الله. وإن الزمان استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وإن عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات وواحد فرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الذي بين جمادى وشعبان. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.
أيها الناس إن لنساءكم عليكم حقاً وإن لكم عليهن حقاً. لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم غيركم ولا يدخلن أحداً تكرهونه بيوتكم إلاّ بإذنكم ولا يأتين بفاحشة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهنّ بالمعروف، وإنما النساء عندكم عوار لا يملكن لأنفسهن شيئاً، أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهنّ خيراً .
أيها الناس إنما المؤمنون إخوة فلا يحلّ لامرىً مال أخيه إلاّ عن طيب نفس. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض; فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.
أيها الناس إن ربكم واحد، وإنّ أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي على عجميّ فضل إلاّ بالتقوى، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال (صلى الله عليه وآله) : فليبلّغ الشاهد منكم الغائب[10].
أيها الناس إن الله قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث ولا يجوز لوارث وصية في أكثر من الثلث، والولد للفراش وللعاهر الحجر، من ادّعي إلى غير أبيه أو تولّى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً... والسلام عليكم ورحمة الله[11].
4 ـ تعيين الوصي[12] :
أتمّ المسلمون حجّهم الأكبر وهم يحتفّون بالنبي (صلى الله عليه وآله) وقد أخذوا مناسكهم عنه، وقرّر الرسول(صلى الله عليه وآله) أن يعود إلى المدينة، ولما بلغ موكب الحجيج العظيم إلى منطقة رابغ قرب غدير خم وقبل أن يتفرّق الحجيج ويرجعوا الى بلدانهم من هذه المنطقة نزل الوحي الإلهي بآية التبليغ الآمرة والمحذّرة: (يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس)[13].
لقد حمل هذا الخطاب الإلهي أمراً مهماً جدّاً فأي تبليغ مهم هذا قد طُلب من الرسول (صلى الله عليه وآله) انجازه ولم يكن قد أنجزه إلى ذلك الحين؟ وقد أمضى النبي (صلى الله عليه وآله) ما يقارب ثلاثة وعشرين عاماً يبلّغ آيات الله وأحكامه ويدعو الناس إلى دين الله! وقد نال ما نال من عظيم المحن والبلاء والجهد، كي يقال له: فما بلغت رسالته.
وهنا أصدر النبي (صلى الله عليه وآله) أوامره بأن تقف القوافل حتى يلحق آخرها بأولها في يوم قائظ يضطر المرء فيه أن يلفّ رأسه وقدميه من شدة حرّ الرمضاء ليتلو عليهم أمر السماء ويتمم تبليغ الرسالة الخاتمة. إنها الحكمة الإلهية أن يتم التبليغ في هذا المكان وفي هذا الظرف كي يبقى عالقاً في وجدان الاُمة، حيّاً في ذاكرتها على مرّ الزمن حفاظاً على الرسالة والاُمة الاسلامية.
وجمعت الرحال وصنع منها منبر صعد عليه النبي(صلى الله عليه وآله) بعد أن صلّى في جموع المسلمين فحمد الله واثنى عليه وقال بصوت رفيع يسمعه كل من حضر:
أيها الناس يوشك أن اُدعى فأجيب وإني مسؤول وأنتم مسؤولون فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك بلّغت ونصحت وجاهدت فجزاك الله خيراً. قال (صلى الله عليه وآله): ألستم تشهدون أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً عبده ورسوله وأن جنته حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور؟ قالوا: بلى نشهد بذلك قال(صلى الله عليه وآله): اللهم أشهد. ثم قال:(صلى الله عليه وآله) فإني فرطكم على الحوض وأنتم واردون عليّ الحوض وإنّ عرضه مابين صنعاء وبُصرى فيه أقداح عدد النجوم من فضة فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين.
فنادى مناد وما الثقلان يا رسول الله؟ قال(صلى الله عليه وآله): الثقل الأكبر كتاب الله طرف بيد الله عز وجل وطرف بأيديكم فتمسّكوا به لا تضلوا. والآخر الأصغر عترتي. وإن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فسألت ذلك لهما ربّي فلا تقدّموهما فتهلكوا ولا تقصّروا عنهما فتهلكوا.
ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب حتى رؤي بياض أبطيهما وعرفه الناس أجمعون. فقال (صلى الله عليه وآله): أيها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال (صلى الله عليه وآله): إن الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم فمن كنت مولاه فعليّ مولاه ـ يقولها ثلاث مرات ـ .
ثم قال (صلى الله عليه وآله): اللهم وال منوالاه وعاد من عاداهوأحب من أحبه وأبغض من أبغضه وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحقّ معه حيث دار، ألا فليبلّغ الشاهد الغائب.
ثم لم يتفرّقوا حتّى نزل أمين وحي الله بقوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام ديناً)[14] فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الرب برسالتي والولاية لعلي بعدي.
ثم أمر (صلى الله عليه وآله) أن تنصب خيمة لعلي (عليه السلام) وأن يدخل عليه المسلمون فوجاً فوجاً ليسلّموا عليه بإمرة المؤمنين ففعل الناس كلهم ذلك وأمر أزواجه وسائر نساء المؤمنين ممن معه أن يفعلن ذلك.
وكان في مقدمة المهنّئين أبو بكر وعمر بن الخطاب، كلٌ يقول: بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة[15].
5 ـ ظهور المتنبئين :
تفرّقت جموع الحجيج من منطقة غدير خم متّجهة نحو العراق والشام واليمن، واتّجه النبي (صلى الله عليه وآله) نحو المدينة. وحمل الجميع وصية الرسول(صلى الله عليه وآله) بالخلافة والقيادة من بعده لربيبه علي بن أبي طالب(عليه السلام) لتستمر حركة الرسالة الإسلامية بنهج نبويّ وتجتاز العقبات بعد رحيل القائد الأوّل وذلك بعد أن عرّف بعليّ(عليه السلام) في ذلك اليوم التاريخي الخالد بل منذ يوم الدار حيث أ نّه وصفه بالوزير الناصح والأخ المؤازر والعضد المدافع والخليفة الذي يجب على الناس من بعده أن يطيعوه ويتّبعوه ويتّخذوه لأنفسهم قائداً وزعيماً.
وبعد أن انبسط سلطان الدين وقويت مركزية القرار في المدينة لم يعد بأمر خطير نفور جماعة عن الدين أو ارتداد أفراد عن التسليم لما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) أو وجود أفراد في الأطراف البعيدة عن المدينة يرون في عنصر الدين وسيلة لتحقيق بعض آمالهم ورغباتهم المريضة.
من هنا أخذ مسيلمة يدّعي النبوّة كذباً وكتب إلى النبي(صلى الله عليه وآله) كتاباً ذكر فيه أ نّه بُعث أيضاً ويطلب فيه من النبي(صلى الله عليه وآله) أن يشاركه في سلطان الأرض. ولما وقف النبي (صلى الله عليه وآله) على مضمون الرسالة التفت إلى من حملها اليه وقال:
لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما لأنكما أسلمتما من قبل وقبلتما برسالتي فلِمَ اتّبعتما هذا الأحمق وتركتما دينكما؟.
ثم ردّ على مسيلمة الكذّاب برسالة كتب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذّاب. السلام على من اتّبع الهدى، أما بعد فإنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين[16].
وقد أفلح المسلمون في القضاء على حركات الارتداد التي قام بها بعض الدجّالين مثل الأسود العنسي ومسيلمة وطلحة.
6 ـ التعبئة العامّة لغزو الروم[17] :
أبدى النبي (صلى الله عليه وآله) اهتماماً كبيراً للحدود الشمالية للدولة الإسلامية حيث تتواجد دولة الروم المنظمة وصاحبة الجيش القوي. ولم تكن دولة فارس ذات أثر مُقلق على الدولة الإسلامية لأنّ علامات الانهيار كانت قد بدت عليها، كما أنها لم تكن تملك عقيدة روحية تدافع عنها كالمسيحية لدى الروم، فهي التي كانت تشكّل خطراً على الكيان الإسلامي الفتيّ، خاصة وأن بعض عناصر الشغب والنفاق قد أجليت عن الدولة الإسلامية فذهبت إلى الشام ولحق بها آخرون، وكان وجود نصارى نجران عاملاً سياسياً يدفع الروم لنصرتهم.
ومع ذلك فإنّ كل هذه الاُمور لم تكن عوامل آنيّة تستدعي الاهتمام الكبير الذي ظهر واضحاً من إعداد النبي (صلى الله عليه وآله) لجيش كبير ضمّ وجوه كبار الصحابة ما خلا علياً وبعض المخلصين معه فقد أراد النبي (صلى الله عليه وآله) أن يخلو الجو السياسي من اُمور قد تعيق عمليّة انتقال السلطة إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) للقيام بمهام الخلافة من بعده، بعد أن لمس النبيّ تحسّساً وانزعاجاً من بعض الأطراف بعد تأكيده المستمر على مرجعيّة عليّ (عليه السلام) وصلاحيّته لإتمام مسيرة النبي (صلى الله عليه وآله) وخصوصاً بعد بيعة الغدير، فأراد النبي (صلى الله عليه وآله) أن يخلو الظرف من التوتر السياسي في المدينة ليتم استلام علي(عليه السلام) لزمام الدولة من بعده دون صِدام وشجار; ولهذا عقد النبي (صلى الله عليه وآله) لواءً وسلّمه الى اُسامة بن زيد ـ القائد الشاب الذي نصبه الرسول(صلى الله عليه وآله) في اشارة بليغة إلى أهمية الكفاءة في القيادة ـ وجعل تحت إمرته شيوخ الأنصار والمهاجرين، وقال له: سر إلى موضع قتل أبيك فأوطئهم الخيل فقد ولّيتك هذا الجيش فاُغز صباحاً على أهل اُبنى.
ولكنّ روح التمرد والطمع في السلطان وقلّة الانضباط دفعت بعض العناصر إلى عدم التسليم التام لأمر النبي (صلى الله عليه وآله) ولعلّها كانت عارفة بالأهداف التي قصدها النبي(صلى الله عليه وآله) ومن هنا حاولت أن تؤخّر حركة الجيش المجتمع في معسكر الجرف. وبلغ النبي (صلى الله عليه وآله) ذلك فغضب وخرج ـ وهو ملتحف قطيفة، وقد عصَّبَ جبهته بعصابة من ألم الحمّى التي أصابته ـ إلى المسجد فصعد المنبر ثم حمد الله وأثنى عليه وقال: أما بعد أيها الناس فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري اُسامة، ولئن طعنتم في إمارتي اُسامة لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله وأيم الله إن كان للإمارة لَخليقاً وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إليّ وإنّهما لمخيلان لكل خير[18]، واستوصوا به خيراً فإنه من خياركم[19].
واشتدت الحمى برسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يُغفله ثقل المرض عن الاهتمام الكبير لخروج الجيش فكان يقول: أنفذوا جيش اُسامة[20] لكل من كان يعوده من أصحابه ويزيد إصراراً بقوله: جهّزوا جيش اُسامة لعن الله من تخلف عنه[21]. وأوصل بعض المسلمين أنباء تدهور صحة النبي (صلى الله عليه وآله) الى معسكر المسلمين في الجرف فرجع اُسامة لِيعود النبي (صلى الله عليه وآله) فحثّه النبيّ على المضيّ نحو هدفه الذي رسمه له وقال له: اُغد على بركة الله.
فعاد اُسامة مسرعاً إلى جيشه يحثه على الرحيل والتوجه للقيام بالمهمة المخوّلة إليه ولكن المتقاعسين وذوي الأطماع في الخلافة تمكّنوا من عرقلة مسيرة الجيش زاعمين أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) يحتضر، بالرغم من تأكيد الرسول (صلى الله عليه وآله) بالتعجيل في المسير وعدم التردّد في المهمّة التي جعلها على عاتق جيش اُسامة.

_____________________________________
[1] العاشر من ذي الحجة عام ( 9 هـ ) .
[2] التوبة (9) : 1 ـ 13 .
[3] الكافي: 1 / 326، الارشاد: 37، الواقدي: 3 / 1077، خصائص النسائي: 20، صحيح الترمذي: 2 / 183، مسند أحمد: 3 / 283، فضائل الخمسة من الصحاح الستة: 2 / 343.
[4] السيرة الحلبية: 3 / 211، السيرة النبوية: 1 / 574.
[5] آل عمران (3) : 61.
[6] التفسير الكبير (للرازي): 8 / 85 .
[7] الطبقات الكبرى: 1 / 357.
[8] بحار الأنوار: 21 / 319.
[9] السيرة النبوية: 2 / 603، بحار الأنوار: 21 / 385.
[10] بحار الأنوار: 21 / 405.
[11] العقد الفريد: 4 / 57، الطبقات الكبرى: 2 / 184، الخصال: ص487، بحار الأنوار: 21 / 405، وقد ورد النص في مصادر السيرة والتأريخ مع اختلاف بالزيادة والنقصان.
[12] للمزيد من التفصيل راجع موسوعة الغدير للعلاّمة الأميني الجزء الأوّل.
[13] المائدة (5) : 67 .
[14] المائدة (5): 3 .
[15] راجع تأريخ اليعقوبي: 3 / 112، ومسند أحمد: 4 / 281، البداية والنهاية: 5 / 213، وموسوعة الغدير: 1 / 43، 165، 196، 215، 230، 238، 276، 283، 285، 297، 379، 392، 402، والجزء: 11 / 131.
[16] السيرة النبوية: 2 / 600.
[17] عقد النبي(صلى الله عليه وآله) اللواء لاُسامة في صفر عام ( 11 هـ ) .
[18] بمعنى أنهما ممن يتفرّس فيهما كل خير. والخوليّ: هو الراعي الحسن القيام على المال.
[19] الطبقات الكبرى: 2 / 190، ط دار الفكر.
[20] المصدر السابق.
[21] الملل والنحل : 1 / 23.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page