• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

أمن الحرم

أمن الحرم

الدعاء كان السمة البارزة في حركة جميع الأنبياء وبالذات في حركة نبيّ الله إبراهيم الخليل(عليه السلام) وهو يخطو خطواته المتقنة في مسيرته المباركة; لتنفيذ أوامر السماء في جوف تلك الصحراء النائية، وفي ذلك الوادي المقفر الأجرد الذي تظلله الجبال ذات الصخور الصماء وتحف به التلال، وهو بين لحظة وأخرى يرمق السماء رافعاً يديه متوسّلا بالله تعالى أن يسدّد خطواته، وأن يعينه على ما أمره به. فكان من دعائه (عليه السلام): { ربِّ اجعل هذا بلداً آمناً }..
صفة الأمن ما أعظمها وما أروعها وما أوقعها في النفوس! فبدونها تفقد الحياة كلّ معانيها الجميلة، وكل ما فيها من خير وعطاء. فالأمن ضرورة لكلّ تقدم وحضارة وبناء. خاصّة لذلك الوادي الذي يُراد له أن يكون مكاناً تنبعث منه رسالة السماء إلى النّاس كافّة. وتؤدى فيه أدقّ عبادة وأشقّها.. وبغير أمان وطمأنينة قد لا يستطيع أحد أداء مناسكها على ما هو مرسوم لها، ولا يتمكن أحد من أن يعمر ذلك الوادي وإلاّ، قل لي : كيف تؤدى مثل هذه الفريضة ذات المناسك المتعدّدة والشاقة والدقيقة؟ وكيف تبنى بذلك الوادي حضارة يراد لها أن تكون مشعل نور للأجيال وقبلة لها إذا كان ساكنوه يئنّون تحت أجواء الخوف وقسوة الجوع..؟!
لم تشغل شيخ الأنبياء تلك المحنة المتمثلة بترك زوجته وابنه، وكم هي عظيمة وخطرة أن يترك الزوج زوجته والأب ابنه في مثل ذلك المكان وفي مثل تلك الظروف! لم تشغله تلك المحنة التي تنوء بالعصبة أولي القوة عن طلب الأمان إلى جبال هذا الوادي وإلى رماله وتلاله وإلى ساكنيه ، فلقد قدر لكلّ صخرة فيه ولكلّ ذرة رمل ولكلّ تل صغيراً كان أو كبيراً، ولكلّ ساكن فيه رجلا كان أو امرأة، شاباً كان أو شيخاً، قويّاً كان أو ضعيفاً ، سيداً كان أو عبداً ، شريفاً كان أو وضيعاً.. دورٌ في حياة هذا الوادي وفي أحداثه. ويمكننا القول بقوة: إن شيخ الأنبياء كأنه انكشف له ما سيؤول إليه واقع هذا الوادي من اقتتال وتنازع وتخاصم من جهة ، ومن جهة أخرى أنه سيتحول إلى بقعة من أقدس بقاع الدنيا وأعظمها ، وما يستتبع ذلك من خير وبركة وعطاء وسيصبح مهبطاً لوحي السماء ، ومنبعاً للنور الإلهي بعد أن يغرق بالظلام والجهالة، وأنه سيتحول من واد رملي خال من أي عود أخضر إلى ربيع زاه تخفق فيه طيور المودّة والمحبة، وتتردد في جنباته ونواحيه أصوات التلبية والتسبيح وآيات القرآن. فتهوي إليه الأفئدة أفئدة الناس من كل ناحية وصوب { واجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم} من أجل هذا وغيره كان لابد لإبراهيم من أن يطلب الأمن والأمان لهذه الأرض وحتى يأنسوا به ويعرفوا قيمة الأمان ، ثمّ يميّزوا بينه وبين الخوف ، وبالتالي بين السلام وثماره والحرب وآثارها، وبين الاستقرار من جهة والنزاع والتشرد من جهة اُخرى. بين المعاني الجميلة والعظيمة للخير والمعاني القبيحة والوضيعة للشر وما يترتب عليه من تناحر وتشتت وتفرق..
لقد أراد شيخ الأنبياء من دعائه أن تكون مكّة بعيدة عن الغدر والكراهية والبغضاء والاحتيال.. وأن تبقى أرضاً مقدّسة مباركة لا مكان فيها لسياط الجلادين الظلمة ، التي تلهب ظهور العبيد والمظلومين، وأن لا تكون مقبرة للبنات ، التي تُقتل حال ولادتها خوفاً من العار المزعوم، لم يرد هذا ولا غيره ، بل أرادها أن تكون مكاناً وأرضاً نابضة بالحياة يلوذ بها المظلومون، ويأوي إليها الضعفاء والمشردون; ليجدوا فيها حقوقهم التي سحقت، وكراماتهم التي سلبت، وأموالهم التي نهبت.
يقول سيد قطب: هذا البيت الحرام الذي قام سدنته من قريش فروّعوا المؤمنين ، وآذوهم وفتنوهم عن دينهم حتى هاجروا من جواره.. لقد أراده الله مثابة يثوب إليه الناس جميعاً، فلا يروّعهم أحد، بل يأمنون فيه على أرواحهم وأموالهم. فهو ذاته أمن وطمأنينة وسلام1.
لقد أراد لها أن تكون أرضاً تسير فيها قوافل الإيمان، وتزداد أعدادها وتتضاعف، ويشعّ نورها ويتسع; ليتعدى الجزيرة وما حولها إلى كلّ الدنيا وما فيها، وبالتالي يعمّ نموذجُ الأمن وتجربته كلّ البقاع وكلّ الأمم الأخرى.
يقول صاحب التفسير المنير: ومن نعمه تعالى على العرب التي أمر الله نبيّه أن يذكّرهم بها: دعاء إبراهيم (عليه السلام): أن يجعل هذا البلد في أمن وطمأنينة، فلا يتسلط عليه الجبارون، ولا يعكر صفوه المجرمون الآثمون2.
فهل تحقق كلّ هذا ولم تعبث بهذا الوادي الأيدي القذرة والنفوس السيئة؟
لئن مرّت على هذا البيت الكريم سنوات خير وأمان وطمأنينة، فقد تعرّض طيلة سنوات عديدة لحوادث سلب ونهب، وضرب بالمنجنيق، وقتل فيه الأبرياء والآمنون، وتسلط عليه الجبارون، وعكر صفوه المجرمون الطغاة، كالقرامطة الذين قاموا بفعلتهم القذرة، من قتل الحجّاج الأبرياء الذين جاءوا يطلبون رحمة الله ومغفرته ورضوانه، وقاموا بسرقة الحجر الأسود والاحتفاظ به بعيداً عن مكانه لأكثر من عشرين سنة إلى غيرها من الأعمال المشينة قديماً وحديثاً آلمت قلوب المسلمين جميعاً وواجهوها باستنكار بالغ، ومازالت مرارتها في نفوسنا جميعاً.
هذه الأيدي لم ترع للبيت حرمة ولا كرامة، وتغافلت عن تكريم الله تعالى له بجعل نعمة الأمان آية من آياته، وهبة من مواهبه لعباده، أن جعل قطعة من الأرض تشعر فيها النفوس بحلاوة الأمن والطمأنينة بعد أن عانت من فقدان الأمن، وهي تعيش بعيداً عنه تحت سوط الطغاة والجلادين والغزو والقتال { أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم}3.
فالأمن إذن لم يعد بعد تلك الجرائم والاعتداءات صفة للبيت، ممّا جعلنا نتساءَل هل حوداث الاعتداء هذه على بيت الله الحرام، وإراقة الدماء وإزهاق الأرواح البريئة على أرضه المقدّسة وعلى ترابه الطاهر تتعارض مع نصوص الأمن القرآنية، وبالتالي تزعزع صفة البيت الآمن الذي حدّدته الآيات الكريمة؟
إن ظاهر هذا كلّه يفيد أنّ هناك تناقضاً بين ما حدث وبين ما قاله الله تعالى في كتابه العزيز : { وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً } { وهذا البلد الأمين}، فالبيت وُصفَ بالأمن في الوقت الذي دخله القتلة، وأثاروا فيه الرعب والفزع والقتل، وتركت هذه الجرائم آثارها على النّاس الآخرين الذين يقصدون البيت ولكنّهم خائفون وجلون ممّا قد يتكرّر، وممّا قد يقع.
وقبل التعرض إلى ذلك لابدّ من ذكر الأمن لغة وآياته والأقوال المتعددة في مسألة أمن الحرم; لنصل إلى حلّ ما قد يُرى من تناقض بين النصوص والواقع التاريخي لأمن الحرم.
الأمن لغة: من أمِنَ يَأمنُ أمْناً وأماناً وأمانةً وأمَناً وإمْناً وأمَنَةً: اطمأنَّ وَلم يَخَفْ، فهو آمنٌ وأمِنٌ وأمينٌ يُقال: لك الأمانُ: أي قد آمنتُك أي جعلتك في أمن بعيداً عمّا يخيفك ويقلقك: وأمن يأمن البلدُ اطمأنّ فيه أهلُه.. والأمن: ضد الخوف.
فالبلد الأمين أي بلد الأمن أو البلد المأمون فيه، يأمن فيه من دَخله. { وآمنهم من خوف} أي آمنهم من خوف وقد نكر لبيان شدّته، فجعلهم في أمن وسلامة وطمأنينة على أنفسهم وأموالهم و...
يقول السيّد السبزواري: ومادة (أَمَنَ) تأتي بمعنى الطمأنينة، وزوال الخوف، وسكون النفس، وقد استعملت جملة من مشتقاتها بالنسبة إلى الحرم الأقدس الإلهي، قال تعالى: { وإذ جعلنا البيت مثابةً للناس وأمناً } وقال تعالى: { وهذا البلد الأمين}..
الآيات:
{وإذ قال إبراهيم ربّ اجعل هذا بلداً آمناً...}4.
{فيه آيات بينات... ومن دخله كان آمناً}5.
{وإذ قال إبراهيم ربّ اجعل هذا البلد آمناً}6.
{أو لم نمكن لهم حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كلّ شيء}7.
{أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً...}8.
{وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً}9.
{وهذا البلد الأمين}10.
{الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف}11.
الروايات ومنها :
1 ـ فعن جابر، قال: سمعتُ رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: «لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح».
2 ـ وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) يوم فتح مكة: «إن هذا البلد حرّمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لا يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلاّ ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلاّ من عرَفها، ولا يختلى خلالها (أي لا يجز ولا يقلع كلؤها). فقال العباس: يا رسول الله إلاّ الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم. فقال: إلاّ الإِذخر».
3 ـ وأخرج مسلم عن أبي سعيد عن النبي(صلى الله عليه وآله) قال: «اللهم إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حراماً، وإني حرمت المدينة، حراماً ما بين مأزميها أن لا يهراق فيها دم، ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا تخبط فيها شجرة إلاّ لعلف،...».
4 ـ قال الإمام الصادق(عليه السلام): من دخل الحرم مستجيراً به فهو آمن من سخط الله عزّوجلّ، ومن دخله من الوحش والطير كان آمناً من أن يهاج أو يؤذى حتى يخرج من الحرم.
الأقوال في أمن الحرم:
إن الحديث عن أمن البيت الحرام مما اختلفت فيه الأقوال، وتشعبت فيه الآراء وذهبت مذاهب شتى في المراد منه..
ففريق ذهب إلى أن الأمن المقصود في الآيات أمن من عذاب الله تعالى، فالذي يدخل الحرم وهو معظم له، عارف به وبمنزلته ومكانته الدينية والذي يقصده للأجر والثواب، فهو يخرج من ذنوبه، وقد يبعد الله عنه عذاب الآخرة. قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «من حجّ فلم يرفث ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه».
في حين ذهب فريق ثان إلى أن أمن الحرم هو أن الجاني يأمن من أن يقام الحدّ عليه، فلا يقتل به الكافر، ولا يقتص فيه من القاتل، ولا يقام الحد على المحصن والسارق، وهذا ما ذهب إليه أبو حنيفة.
بينما ذهب فريق ثالث إلى أن المقصود هو أن الله نهى المؤمنين عن قتال أعدائهم من مشركين وغيرهم داخل الحرم حتى يبدأوا بقتالهم انطلاقاً من قوله تعالى: { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين}.
أو أنه إخبار عن عدم وقوع القتل في الحرم، وهذا مردود، لان القتل الحرام وقع فيه، والقتل المباح قد يوجد فيه بدليل الآية: { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام}..
وقد ذهب فريق رابع إلى أنه مكان آمن يلوذ به الناس; ليبعدوا أنفسهم عن التشفي والانتقام، فلا تنتقم العرب ممن دخل البيت، فكان الشخص يرى قاتل أبيه أو أخيه.. داخل الحرم فلا يتعرض له بسوء حتى يخرج منه ، مع أن الثأر كان متجذراً في نفوسهم، بل العربي الذي لا يأخذ بثأره يكون موضع سخرية وعار ومع هذا لا يثأر لمقتوله داخل الحرم.
كما أن هناك فريقاً خامساً ذهب إلى أن الله تعالى جعل الحرم آمناً وأيضاً آمناً من القحط والجدب على ما قاله تعالى: { أو لم نمكن لهم حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كلّ شيء} فإن إبراهيم أسكن أهله في واد تحيط به المخاوف وهو غير ذي زرع ولا ضرع; ولهذا رفع يديه بالدعاء سائلا الله تعالى: { ربّ اجعل هذا البلد آمناً} أي أمناً من كلّ ما يخيف ثم عقبه بقوله: { وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم...} فإبراهيم رأى أن يطلب هذين الأمرين: الأمن والرزق { .. أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف} فبدونهما لا تدب حياة في هذا الوادي ولا يدوم بقاء وخير.
بينما ذهب فريقٌ سادس إلى أن المقصود بالأمن هو الأمن من القحط والجدب فقد ذكر صاحب التفسير الكبير أن (أبو بكر الرازي) ذكر وجوهاً للأمن المسؤول في الآية: ومن تلك الوجوه أنه سأله الأمن من القحط.. واحتج عليه بأنه(عليه السلام) سأله الأمن أولا، ثمّ سأله الرزق ثانياً، ولو كان الأمن المطلوب هو الأمن من القحط لكان سؤال الرزق بعده تكراراً فقال في هذه الآية : { ربّ اجعل هذا البلد آمناً وارزق أهله من الثمرات}.
... ثم يقول : واعلم أن هذه الحجة ضعيفة فإن لقائل أن يقول: لعلّ الأمن المسؤول هو الأمن من الخسف والمسخ، أو لعلّه الأمن من القحط، ثمّ الأمن من القحط قد يكون بحصول ما يحتاج إليه من الأغذية، وقد يكون بالتوسعة فيها فهو بالسؤال الأول طلب إزالة القحط، وبالسؤال الثاني طلب التوسعة العظيمة12.
وهناك فريقٌ سابع يقول: إن المقصود بالأمن هو أن الله تعالى آمن هذا البلد وأهله من الخسف والمسخ وكما يقول الزحيلي: ويحميه سبحانه وتعالى من الخسف والزلزال والغرق والهدم، ونحو ذلك من مظاهر سخط الله على بلاد أخرى13.
أقول: نعم قد تكون مكّة بعيدة عن الحوادث والظواهر الطبيعية، التي تأتي تعبيراً عن سخطه تعالى وعقوبة منه كما حدث لبعض الأقوام حينما سخط عليهم، وكان سخطه هذا عذاباً حلّ بهم، وعقوبة جماعية نزلت عليهم; بسبب كفرهم وطغيانهم وتكذيبهم الرسول والأنبياء، وقد حدّثنا القرآن عن :
قوم لوط { ثمّ دمرنا الآخرين * وأمطرنا عليهم مطراً فساء مطر المنذَرين}14.
قوم شعيب { فكذّبوه فأخذهم عذاب يوم الظلّة..}15.
فرعون وقومه { فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليمّ..}16.
قوم ثمود { .. فأخذتهم الصاعقة..}17.
قوم عاد { فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم...}18 فهذه تكون مكّة بمنجاة ومأمن منها; لأنه تعالى لا يخلف وعده لمكّة بالأمن ولا ينقضه...
أما الظواهر الطبيعية كالسيول والعواصف وغيرها التي تأتي بأسبابها الطبيعية وليست تعبيراً عن سخط الله وغضبه، فهي تصيب مكة وبالتالي تخلّ بالأمن التكويني على فرض صحته وحتى إن كانت لا تعدّ شراً إذا عرفنا أنها حالات يستوجبها النظام الكوني العام، وهي جزء من ديمومته واستقراره، وليست حالات شاذة عنه ومخالفة للحكمة الإلهيّة ونظامها ودقتها، وإذا ما نظرنا إليها نظرة عامة في إطار ذلك النظام الكوني، وليست نظرة انعزاليه عنه أو ضيقة.. ولكنّها مع هذا كلّه تعدّ خرقاً لنظام الأمن; لأنها تسبب الخوف والهلع اللذين هما ضد الأمن. ويستطيع الإنسان بما آتاه الله من القدرات أن يستثمرها في تعمير هذه المنطقة ويبني ويؤسس ما يقيها العواصف ويمنع عنها السيول وبالتالي يحفظ مكّة منها أو على الأقل يخفف آثارها.
وأمّا السيّد السبزواري فبعد أن يذكر بعض آيات الأمن19، يقول قولا متيناً وكلاماً واضحاً: والمراد منها ما ورد عن نبينا الأعظم(صلى الله عليه وآله) في قوله يوم فتح مكة: «إنّ الله حرّم مكّة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام إلى أن تقوم الساعة، لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، ولا تحل لي إلاّ ساعة من النهار» وأمثال ذلك من الأحاديث الكثيرة التي تدلّ على أصل الحرمة والاحترام التي كانت قبل الخلق، ودعاء إبراهيم(عليه السلام) إنما كان تأكيداً لما سبق وترغيباً للناس، لا أن تكون دعوة مستأنفةً.
ثمّ راح السيّد يقول: والأمن المستعمل في القرآن إمّا أخروي، أو دنيوي، أو هما معاً. والأول كقوله تعالى: { ادخلوها بسلام آمنين}20 وقوله تعالى: { إن المتقين في مقام أمين}21. وللثاني موارد كثيرة، منها الآيات المباركة الواردة في المقام.
ثمّ واصل حديثه بقوله: والمراد بالأمن، إمّا للإرشاد إلى أن المحلَّ محلٌّ لا ينبغي أن يقع الظلم فيه مطلقاً، فيكون تنبيهاً للعقل والعقلاء إلى عظمة المحلّ، كما ورد في تعظيم القرآن، والوالدين، والمؤمن، فتترتب على المخالفة المفسدة لا محالة، أو أنه أمر تكليفي فعلي، لجعل المحل امناً ممّا حذّر ارتكابه في غيره.
ثمّ يقول بعد ذلك: وكل منهما صحيح، ولا منافاة بينهما، كما أنّهُ يصحُّ أن يكون الأمن فيه من القسم الأخير، أي أمن الدنيا والآخرة. وفي الآية المباركة امتنان عظيم على أهل الحرم وروّاده، من جعل البلد آمناً في نفسه، ومأمناً لأهله وغيرهم.
وعندما تعرض الطبرسي لتفسير { وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً} قال في (أمناً): أراد مأمناً أي موضع أمن، وإنما جعله الله أمناً بأن حكم أن من عاذ به والتجأ إليه لا يخاف على نفسه ما دام فيه، وبما جعله في نفوس العرب من تعظيمه حتى كانوا لا يتعرضون إلى من فيه فهو آمن على نفسه وماله، وإن كانوا يتخطفون الناس من حوله، ولعظم حرمته لا يقام في الشرع الحدّ على من جنى جنايته فالتجأ إليه وإلى حرمه، لكن يضيق عليه في المطعم والمشرب والبيع والشراء حتى يخرج منه فيقام عليه الحد، فإن أحدث فيه ما يوجب الحد أقيم عليه الحدّ فيه; لأنه هتك حرمة الحرم، فهو آمن من هذه الوجوه، وكان قبل الإسلام يرى الرجل قاتل أبيه في الحرم فلا يتعرض له، وهذا شيء كانوا قد توارثوه من دين إسماعيل فبقوا عليه إلى أيام نبينا(صلى الله عليه وآله)22..
كما أن رأي الشافعي فيمن دخل البيت من الذين تجب عليهم الحدود، هو أن الإمام يأمر بالتضيق عليه بما يؤدي إلى خروجه من الحرم، فإذا خرج أقيم عليه الحد في الحل، فإن لم يخرج حتى قتل في الحرم جاز، وكذلك من قاتل في الحرم جاز قتاله فيه، واحتج الشافعي بأنه(صلى الله عليه وآله) أمر عندما قتل عاصم بن ثابت بن الأقلح وخبيب بقتل أبي سفيان في داره بمكّة غيلة إن قدر عليه. قال الشافعي: وهذا في الوقت الذي كانت مكّة فيه محرمة، فدلّ على انّها لا تمنع أحداً من شيء وجب عليه، وأنها تمنع من أن ينصب الحرب عليها كما ينصب على غيرها.
أمّا أبو حنيفة فقال: لا يجوز، واحتج بهذه الآية: { وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً}.
وأمّا صاحب المنار الذي أخذ المراغي منه فيقول في تفسير { وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً}: واذكر أيها الرسول ـ أو أيها الناس ـ إذ جعلنا البيت الحرام مثابة للناس وأمناً أي ذا أمن بأن خلقنا بما لنا من القدرة في قلوب الناس من الميل إلى حجّه والرحلة إليه المرة بعد المرة من كل فجّ وصوب ما كان به مثابة لهم، ومن احترامه وتعظيمه وعدم سفك دم فيه ما كان به آمناً...
ثمّ واصل حديثه بقوله: يذكّر الله تعالى العرب بهذه النعمة أو النعم العظيمة وهي جعل البيت الحرام مرجعاً للناس يقصدونه ثمّ يثوبون إليه، ومأمناً لهم في تلك البلاد بلاد المخاوف التي يتخطف الناس فيها من كل جانب... وكونه ـ أي البيت ـ مثابة للناس أمر معروف في الجاهلية والإسلام، وهو يصدق برجوع بعض زائريه إليه، وحنين غيرهم وتمنيهم له عند عجزهم عنه، وكذلك جعله أمناً معروف عندهم، فقد كان الرجل يرى قاتل أبيه في الحرم فلا يزعجه على ما هو معروف عندهم من حبّ الانتقام والتفاخر بأخذ الثأر23.
ثمّ راح يذكر سؤالا قد سأل به الشيخ محمد عبده والجواب عنه فيقول:
(الاستاذ الإمام) قد يقال: ما وجه المنة على العرب عامة بكون البيت أمناً للناس والفائدة فيه إنّما هي للجناة والضعفاء، الذين لا يقدرون على المدافعة عن أنفسهم؟ والجواب عن هذا: أنّهُ ما من قوي إلا ويوشك أن يضطر في يوم من الأيام الى مفزع يلجأ إليه لدفع عدو أقوى منه، أو لهدنة يصطلح في غضونها مع خصم يرى سلمه خيراً من حربه، وولاءه أولى من عدائه، فبلاد كلها أخطار ومخاوف لا راحة فيها لأحد، وقد بين الله المنة على العرب إذ جعل لهم مكاناً آمناً بقوله في سورة العنكبوت (29: 67) { أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون}24.
أقول : فالمكان الذي اختار الله تعالى لعباده ليكون لهم مثابة أي ملجأً يلجأون إليه، ومأوى يأوون إليه ويلوذون به، ومرجعاً يثوبون إليه زواراً وغيرهم { لليشهدوا منافع لهم..}25، لابد من أن يتوفر فيه عنصرا الحياة والاستقرار: الأمن والرزق { .. ربّ اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات..}.
وإلاّ كيف يقصد الناس شيئاً، أو مكاناً يخيفهم ويكون سبباً في هلاكهم؟ وكيف يثوبون إلى هكذا مكان فقد فيه الأمن والرزق؟
وأين تلك المنافع التي يرجونها والمخاوف تحيطهم..؟!
يقول سعيد حوى في تفسيره :
وقال كثيرون من أئمة التفسير : إن المثابة: المجمع ، وعلى هذا القول يكون المعنى : أن الله عزّوجلّ أراد أن يكون هذا البيت ملتقىً للشعوب كلّها ، وللأجناس كلّها ، يجتمعون فيه فيتعارفون وينتفعون ، قائمين بأمر الله ، عابدين له ، موّحدين معظمين شعائره26.
وأما بخصوص طلب الرزق فيجيب الرازي عن السؤال الثاني الذي يذكره في تفسيره وهو: المطلوب من الله تعالى هو أن يجعل البلد آمناً كثير الخصب، وهذا ما يتعلق بمنافع الدنيا، فكيف يليق بالرسول المعظم طلبها؟
والجواب عنه من وجوه: أحدها: أن الدنيا إذا طلبت ليتقوى بها على الدين، كان ذلك من أعظم أركان الدين، فإذا كان البلد آمناً وحصل فيه الخصب: تفرغ أهله لطاعة الله تعالى، وإذا كان البلد على ضد ذلك كانوا على ضد ذلك. وثانيها: أنه تعالى جعله مثابة للناس، والناس إنّما يمكنهم الذهاب إليه إذا كانت الطرق آمنة والأقوات هناك رخيصة. وثالثها: لا يبعد أن يكون الأمن والخصب ممّا يدعو الإنسان إلى الذهاب إلى تلك البلدة، فحينئذ يشاهد المشاعر المعظمة، والمواقف المكرمة، فيكون الأمن والخصب سببَ اتصاله في تلك الطاعة27.
وقد رأيت أن ابن العربي في أحكام القرآن28 يذهب إلى أن المراد بالأمن هو أن من دخل الحرم كان آمناً من التشفي والانتقام، كما كانت العرب تفعله فيمن أناب إليه من تركها لحق يكون لها عليه، وهذا هو القول الثاني من الأقوال الأربعة التي يذكرها ابن العربي في أحكام القرآن حول المراد من الأمن. حيث يقول بعد سرده لتلك الأقوال: والصحيح فيه القول الثاني، ثمّ واصل حديثه بقوله: وهذا إخبار من الله تعالى عن منته على عباده، حيث قرّر في قلوب العرب تعظيم هذا البيت، وتأمينَ من لجأ إليه; إجابة لدعوة إبراهيم(عليه السلام) حين أنزل به أهله وولده، فتوقع عليهم الاستطالة، فدعا أن يكون أمناً لهم فاستجيب دعاؤه.
ثمّ ردّ الأقوال الثلاثة التي ذكرها فقال: وأمّا من قال: إنّهُ أمنٌ من عذاب الله تعالى، فإن الله تعالى نبّه بجعله مثابةً للناس وأمناً على حُجّته على خلقه، والأمنُ في الآخرة لا تقام به حجّة.
وأمّا بخصوص عدم إقامة الحد على الجاني فيقول: وأمّا امتناع الحد فيه فقول ساقط; لأن الإسلام الذي هو الأصل، وبه اعتصم الحرم، لا يمنع من إقامة الحدود والقصاص، وأمر لا يقتضيه الأصل أحرى ألا يقتضيه الفرع.
أقول: وهذا مردود بأن الإسلام نفسه الذي أمر بالقصاص والحدود له أن يمنع من إقامتها في مكان معين كالحرم، أو يمنع عنها في زمن معين وهذا حقّ له، وهو ما يقتضيه الأصل دون الفرع ولهذا أمر بالتضيق على الجاني في المأكل وأن لا يبايع.. حتى يضطره للخروج، وعند ذاك يقام عليه الحدّ أما الذي يرتكب جنايته داخل الحرم فيُقام الحد عليه داخله.
فالإسلام لم يجعله آمناً فقط بل ذكر أحكاماً لحفظ هذا الأمن، ورعاية حرمته.. ومن تلك الأحكام ـ وحتى لا يتمادى المجرم في إجرامه، والسارق في فعله وضلاله، وحتى لا يكون بمنأى عن العقوبة ـ ترى الشارع المقدّس أمر بالتضيق عليه حتى يخرج منه ـ بعد أن دخله ليستفيد من نعمة الأمان المتوفرة فيه، التي استغلها ـ ليُقام الحد عليه.
ثمّ واصل ابن العربي حديثه قائلا: وأمّا الأمن عن القتل والقتال فقول لا يصح; لأنه قد كان فيه القتل والقتال بعد ذلك ويكون إلى يوم القيامة، وإنّما أخبر النبي(صلى الله عليه وآله)عن التحليل للقتال، فلا جرم لم يكن فيها تحليل قبل ذلك اليوم، ولا يكون لعدم النبوة إلى يوم القيامة، وإنّما أخبر النبي(صلى الله عليه وآله) عن امتناع تحليل القتال شرعاً لا عن منع وجوده حسّاً.
أقول: إن حصر المراد من الأمن بأن من دخله كان آمناً من التشفي والانتقام أو بأن لا يُقام الحدّ فيه على الجاني أمر لا يتناسب مع آيات الأمن وتأكيدها، وهو تفريغ للأمن من محتواه الأوسع والأعظم والأنفع للناس جميعاً. والصحيح أن الأمن يراد منه كل ما هو يدفع الخوف عن ساكني الحرم سواء أكان خوفاً من الانتقام أو خوفاً من القتل والقتال أو من الحدّ أو من السرقة أو من الجوع أو من أي شيء آخر يدعو لعدم الاستقرار والطمأنينة ويثير الرعب والهلع في النفوس.. فحينما نقول هذه منطقة آمنة يفهم منها الناس أو العرف أنها بعيدة عما يثير الخوف والرعب..
كما أن التواجد في هذه المنطقة ورعاية أحكامها وأداء مناسكها بإخلاص وصدق قد يكون ذلك نجاة للإنسان من عذاب الآخرة، وأماناً له من عقابها. وموضعاً للتزود من أجر الآخرة وثوابها، فهي إذن يمكن أن تكون أيضاً أماناً من العذاب. منطقة هيّأها الله تعالى لعباده; ليستجلبوا فيها منافع الدنيا والآخرة وليتذوقوا فيها طعم الأمان والاستقرار وكذلك حلاوة الإيمان والطاعة، وبالتالي أجر ذلك في الآخرة وهو أجر عظيم وثواب جزيل.
فالحرم منطقة آمنة ومثابة للناس تتوفر بها كلّ مقومات الأمن والسلامة، ويشعر فيها الإنسان بكامل حريته وبنعمة الأمان والإيمان شريطة محافظته ورعايته لقوانينها وأحكامها، وإذا ما أساء إليها وانتهك حرمتها يعاقب بما يناسب مخالفته ومعصيته في الدنيا وفي الآخرة. فهو أمن وأمان ومأمن ينبغي على الناس بل يجب عليهم حفظه ورعايته لتحصل آثاره، ويجنوا ثماره.
أما حصرها بهذا المراد (المنع من التشفي والانتقام أو من إقامة الحد فقط) يعني وكأنها شرعت للقتلة وللجناة دون غيرهم!
وقال القرطبي29 في تفسير هذه الآية: { وإذ قال إبراهيم ربّ اجعل هذا بلداً آمناً...}:
وفيه ثلاث مسائل، ونحن نذكر منها مسألتين يخصّان المقام.
الأولى: قوله تعالى: { بلداً آمناً} يعني مكّة، فدعا لذريته وغيرهم بالأمن ورغد العيش.. وكانت مكّة وما يليها حين ذلك قفراً لا ماء ولا نبات، فبارك الله فيها.. وأنبت فيها أنواع الثمرات..
الثانية: اختلف العلماء في مكّة هل صارت حرماً آمناً بسؤال إبراهيم أو كانت قبله كذلك؟ على قولين:
أحدهما ـ أنها لم تزل حرماً من الجبابرة المسلّطين، ومن الخسوف والزلازل، وسائر المثلات التي تحل بالبلاد، وجعل في النفوس المتمرّدة من تعظيمها والهيبة لها ما صار به أهلها متميزين بالأمن من غيرهم من أهل القرى، ولقد جعل فيها سبحانه من العلامة العظيمة على توحيده ما شوهد من أمر الصيد فيها، فيجتمع فيها الكلب والصيد فلا يهيج الكلبُ الصيدَ ولا ينفر منه، حتى إذا خرجا من الحرم عدا الكلب عليه وعاد إلى النفور والهرب.
وإنّما سأل إبراهيم ربّه أن يجعلها أمناً من القحط والجدب والغارات، وأن يرزق أهله من الثمرات; لا على ما ظنه بعض الناس أنه المنع من سفك الدم في حق من لزمه القتل، فإن ذلك يبعد كونه مقصوداً لإبراهيم(صلى الله عليه وآله) حتى يقال: طلب من الله أن يكون في شرعه تحريم قتل من التجأ إلى الحرم; هذا بعيد جداً.
ثانيهما: أن مكّة كانت حلالا قبل دعوة إبراهيم(عليه السلام) كسائر البلاد، وأن بدعوته صارت حَرَماً آمناً، كما صارت المدينة بتحريم رسول الله(صلى الله عليه وآله) أمناً بعد أن كانت حلالا.
وراح القرطبي يذكر أدلّتهم بقوله:
احتج أهل المقالة الأولى بحديث ابن عباس قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) يوم فتح مكة: «إن هذا البلد حرّمه الله تعالى يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة، وأنه لم يحلّ القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلاّ ساعةً من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد30 شوكه، ولا يُنفر صيدُه، ولا تلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يُختلى خلاها31. فقال العباس: يا رسول الله إلاّ الاذخر32 فإنه لقينهم ولبيوتهم; فقال: لا، إلاّ الاذخر». ونحوه حديث أبي شُريح، أخرجهما مسلم وغيره.
ثمّ قال أيضاً: وفي صحيح مسلم أيضاً عن عبدالله بن زيد بن عاصم أن رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال: «إن إبراهيم حرّم مكّة ودعا لأهلها، وإني حرّمت المدينة كما حرّم إبراهيم مكّة، وإني دعوت في صاعها ومُدّها بمثل ما دعا به إبراهيم لأهل مكّة».
قال ابن عطية: «ولا تعارض بين الحديثين; لأن الأول إخبار بسابق علم الله فيها وقضائه، وكون الحرمة مدّة آدم وأوقات عمارة القطر بإيمان. والثاني إخبار بتجديد إبراهيم لحرمتها وإظهاره ذلك بعد الدثور. وكان القول الأول من النبي(صلى الله عليه وآله)ثاني يوم الفتح إخباراً بتعظيم حرمة مكّة على المؤمنين بإسناد التحريم إلى الله تعالى، وذكر إبراهيم عند تحريم المدينة مثالا لنفسه، ولا محالة أن تحريم المدينة هو أيضاً من قبل الله تعالى ومن نافذ قضائه وسابق علمه».
ثمّ نقل القرطبي قولا للطبري: كانت مكّة حراماً فلم يتعبد الله الخلق بذلك حتى سأله إبراهيم فحرّمها.
أقول: إن من الأدلة على أنها كانت حراماً قبل دعاء إبراهيم هو الآية القرآنية { ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرّم} لاحظ { بيتك المحرّم} فهذا خير دليل قرآني على أن البيت محرم قبل دعاء إبراهيم. ويبدو أن هذه الحرمة ملازمة لأصل البيت منذ لحظته الأولى.
والدليل الآخر الروايات التي منها قول الرسول(صلى الله عليه وآله): إن الله حرم مكّة قبل خلق السموات والأرض..
وهنا نورد ما ذكره الشيخ الطبرسي في تفسيره فيقول في تفسير هذه الآية: { إذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمناً} يعني مكّة أي اجعله ذا أمن كما يقال: بلد آهل أي ذو أهل. قيل: معناه يأمنون فيه كما يقال: ليل نائم أي ينام فيه. قال ابن عباس: يريد حراماً محرماً لا يصاد طيره، ولا يقطع شجره، ولا يختلى خلاؤه، وإلى هذا المعنى يؤول ماروي عن الصادق(عليه السلام) من قوله: «من دخل الحرم مستجيراً به فهو آمن من سخط الله عزّوجلّ، ومن دخله من الوحش والطير كان آمناً من أن يهاج أو يؤذى حتى يخرج من الحرم». وقال رسول الله(صلى الله عليه وآله) يوم فتح مكّة: «إن الله تعالى حرّم مكّة يوم خلق السموات والأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة، لم تحلّ لأحد قبليولا تحلّ لأحد بعدي، ولم تحل لي إلاّ ساعة من النهار» فهذا الخبر وأمثاله في روايات أصحابنا تدلّ على أن الحرم كان آمناً قبل دعوة إبراهيم(عليه السلام) وإنما تأكدت حرمته بدعائه(عليه السلام).
وقيل: إنّما صار حرماً بدعائه(عليه السلام) وقبل ذلك كسائر البلاد، واستدل عليه بقول النبي(صلى الله عليه وآله): إن إبراهيم حرّم مكّة، وإني حرمت المدينة. وقيل: كانت مكّة حراماً قبل الدعوة بوجه غير الوجه الذي صارت به حراماً بعد الدعوة:
فالأول: بمنع الله إياها من الاصطدام والائتفاك33 كما لحق ذلك غيرها من البلاد، وبما جعل ذلك في النفوس من تعظيمها والهيبة لها.
والثاني: بالأمر بتعظيمه على ألسنة الرسل، فأجابه الله تعالى إلى ما سأل، وإنّما سأله أن يجعلها آمنة من الجدب والقحط; لأنه أسكن أهله بواد غير ذي زرع ولا ضرع، ولم يسأله أمنها من الإئتفاك والخسف الذي كان حاصلا لها، وقيل: إنّهُ(عليه السلام) سأله الأمرين على أن يديمهما وإن كان أحدهما مستأنفاً والآخر قد كان قبل... ثمّ سأل لهم الثمرات ليجتمع لهم الأمن والخصب فيكونوا في رغد من العيش34.
وقد تقدم قول السيد السبزواري بهذا الخصوص.
أمّا الفخر الرازي فقد ميّز بين شيئين بين كون الآية { جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً} خبراً وهو ما يراه، وبين أنها أمر في حالة صرفها عن ظاهرها، ويترتب على كل من القولين مراد، فيقول:
لا شك في أن قوله { جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً} خبر. فتارة نتركه على ظاهره ونقول: إنه خبر. وتارة نصرفه عن ظاهره ونقول: إنه أمر.
أمّا القول الأول: فهو أن يكون المراد أنهُ تعالى جعل أهل الحرم آمنين من القحط والجدب، على ما قال: { أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً} وقوله: { أولم نمكن لهم حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيء}، ولا يمكن أن يراد منه الإخبار عن عدم وقوع القتل في الحرم; لأنا نشاهد أن القتل الحرام قد يقع فيه وأيضاً فالقتل المباح قد يوجد فيه، قال الله تعالى: { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم..} فأخبر عن وقوع القتل فيه.
القول الثاني: أن نحمله على الأمر على سبيل التأويل، والمعنى أن الله تعالى أمر الناس بأن يجعلوا ذلك الموضع أمناً من الغارة والقتل، فكان البيت محترماً بحكم الله تعالى، وكانت الجاهلية متمسكين بتحريمه، لا يهيجون على أحد التجأ إليه، وكانوا يسمون قريشاً: أهل الله تعظيماً له، ثمّ اعتبر فيه أمر الصيد، حتى أن الكلب ليهمّ بالظبي خارج الحرم، فيفر الظبي منه، فيتبعه الكلب، فإذا دخل الظبي الحرم لم يتبعه الكلب. ورويت الأخبار في تحريم مكّة، قال عليه الصلاة والسلام: «إن الله حرم مكّة وأنها لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها كما كانت».
وقد رجح الفخر الرازي ما ذهب إليه الشافعي حيث قال: .. إن قوله تعالى (وأمناً) ليس فيه بيان أنه جعله أمناً فيماذا، فيمكن أن يكون أمناً من القحط، وأن يكون أمناً من نصب الحروب، وأن يكون أمناً من إقامة الحدود، وليس اللفظ من باب العموم حتى يحمل على الكل، بل حمله على الأمن من القحط والآفات أولى; لأنا على هذا التفسير لا نحتاج إلى حمل لفظ الخبر على معنى الأمر، وفي سائر الوجوه نحتاج إلى ذلك، فكان قول الشافعي أولى35.
أقول: حصر مقصودها بالقحط والجدب سواء كان خبراً إذا ما حملناه على ظاهره أم كان أمراً في حالة صرفه عن الظاهر فهو أمرٌ لا يتفقُ مع أهمية الأمن كما قلنا ومع الآية الأخرى التي تبين أن هناك شيئين قد منحتهما السماء لمكّة وأهلها وليس شيئاً واحداً، قال تعالى: { الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف }منحتهما الإطعام والأمن وإن كان الثاني أعمّ من الأول حيث آمنهم من كلّ ما يكون سبباً للخوف سواء أكان جوعاً وحرماناً أم قتلا وسلباً ونهباً. فالأمن في الآية مطلق وله مصاديق كثيرة كما نلاحظ ذلك في كلام الشيخ البلاغي فهو كلام نافع ومتين فقد عدّ أمن البيت من آياته، فعند تفسيره للآية { وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً..} (وأمناً) يأمن مَن حلّ في حماه من الناس مع وحشية الأعراب وتعاديهم وعداوتهم، وعدّ البلاغي هذا من آيات البيت، حيث واصل حديثه عن أمن البيت في تفسيره للآية الأخرى { وفيه آيات بينات مقام إبراهيم ومَن دخله كان آمناً} أي من دخل بلده وحرمه المعروف. والجملة من أقسام البدل التفصيلي من الآيات معطوفة على مقام إبراهيم أي وآمن من دخل فيه، ولعل «من» جيء بها لتغليب من يعقل على ما لا يعقل، وفي الأمن آيات ظاهرة، فإن العرب على فوضويتهم ووحشيتهم وتهوّرهم في العدوان والنخوة الجاهلية وغلظتهم في ذلك، بحيث لا يمنعهم من ذلك، ولا يردعهم شريعة ولا وازع روحي ولا سيطرة، ولا استقامة أخلاق، قد كانوا خاضعين لاحترام من دخل الحرم، منقادة نفوسهم لذلك في القرون العديدة في تلاطم أمواج الجاهلية فضلا عن الإسلام. وليس ذلك من طبع التربة والهواء، ولا بنحو الجبر السالب للاختيار، بل لأن العناية الإلهية ألهمت الناس إكراماً للبيت الحرام أن يحترموا الحرم ومَن فيه. نعم وقع التمرد من جيش يزيد والحجاج، ولعلّ الحكمة في ذلك أن يعرف الناس أن هذا الاحترام ليس من قسم الطبيعة والإلجاء وإنما هو توفيق من الله شمل المشركين ولم يشمل من تمرد على الله وحاده وعاداه. وفي الصحيح أو الحسن كالصحيح عن الحلبي عن الصادق(عليه السلام)قال: سألته عن قول الله { ومن دخله كان آمناً} قال(عليه السلام): إذا أحدثَ العبد جناية في غير الحرم، ثمّ فرّ إلى الحرم لم ينبغِ لأحد أن يأخذه من الحرم، ولكن يمنع من السوق ولا يبايع ولا يطعم ولا يسقى ولا يكلم، فإذا فُعِل ذلك يوشك أن يخرج فيؤخذ، وإذا جنى في الحرم جناية أقيم عليه; لأنه لم يرع للحرم حرمةً، ونحوها معتبرة حفص ورواية علي بن أبي حمزة عنه(عليه السلام)في السارق والجاني، ونحوها صحيحة معاوية بن عمار عنه(عليه السلام) في القاتل وفيها لا يأوي. وفي الدر المنثور أن جماعة اخرجوا من طرق سعيد وطاوس ومجاهد وعكرمة وعطا عن ابن عباس في الآية مثل ذلك. ولا ينافي ذلك ما روي من طرق الفريقين من أنه أمنَ من سخط الله، أو في الآخرة، أو من النار، فإن ذلك يكون بياناً لبعض المصاديق المندرجة في عموم الأمن. وبمقتضى الروايات المتقدّمة قال علماء الإمامية من دون خلاف يعرف، وأبو حنيفة وصاحباه.. واللؤلئي وافقوا الإمامية في قصاص النفس واحتجوا بالآية. ويرد عليهم أن الأمن فيها مطلق، فإذا قدم على دليل القصاص قدم على سائر أدلة القصاص والحدود لذلك الوجه حتى لو حملنا الخبر في الآية على الأمر، مع أن الآية لا تحمل على ذلك ولا يتوقف عليه، بل الآية تدل على جعل الأمن بنحو وضعي عام، وجعله من الله من حيث الشريعة هو أظهر الأفراد وأولاها، فإن الذهن لا يذعن بأن الله تبارك اسمه يمجد البيت بأن من آياته أن الناس يحترمونه بإلهام وتوفيق منه، وهو جل شأنه لا يشرع احترامه في حقوقهم وحقوقه. نعم إن الجاني في الحرم قد هتك حرمته فيؤخذ بجنايته في ذلك لقول الله تعالى: { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه}36{والحرمات قصاص}37... وأيضاً إن طعام العرب ممّا يصطادونه من أحناش الأرض وحيواناتها، ولهم في الصيد ولع وعادة، ومع ذلك يحترمون صيد الحرم ومكة، ومن المستفيض نقله أن الحيوانات لا يقتل بعضها بعضاً فيه، ولا تصطاد الكلاب والسباع فيه، ومن آيات البيت ما استفاض نقله من أن الطير لا يعلو عليه في طيرانه بل يحيد عنه يميناً وشمالا38.
بعد هذا الاستعراض لأقوال هذه النخبة المختارة من المفسرين والعلماء في خصوص المراد من أمن الحرم وتأريخه وحكم الجاني.. أقول: إنّ أمن الحرم سواء أكان قبل دعاء إبراهيم(عليه السلام)وأنه تأكد بدعائه(عليه السلام)، أو أنه صار آمناً بعد استجابة الله تعالى لدعائه(عليه السلام)وسواء أكانت مصاديقه ضيقة أو كانت واسعة لكلّ ما يترك ضرراً أو يسبب خوفاً أو تلفاً للأموال والأنفس ومصادرة للحقوق والحريات، فإن المهم هو حلّ ما يرى من بعد أو تناقض بين نصوص الأمن وما تعرّض له هذا المكان من اعتداءات على ضوء ما يستظهر مما ذكرناه من آيات وروايات وأقوال وآراء.. فلهذا نقول: إنّ مثل ذلك التناقض الذي يبدو للبعض منا بين النصّ الوارد بالأمن والواقع الخارجي للبيت الذي اخترق أمنه مرّات عديدة كما حدّثنا بذلك التأريخ.. يعزى إلى عدم تفريقنا بين أمرين مهمّين وردا في الخطاب القرآني:
الأوّل: يتعلّق بأشياء ثابتة لا تتغير ولا تبتدل يُراد به أمور تكوينية ليس للإنسان القدرة في تغييرها أو تبديلها.. ومثل هذا في القرآن الكريم الكثير، منه: { وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة.. }39 يخلف كلّ منهما الآخر فيتعاقبان. ومثل: { الشمس تجري لمستقرٍّ لها.. } حركة الشمس دائبة متواصلة منذ أن خلقها الله تعالى.. فهذهِ وغيرها أمور ثابتة ليس لنا قدرة على تغيير مسيرتها أو إيقافها.
الثاني: يتعلّق بأمور تشريعيّة من قبيل الأحكام العبادية والمعاملاتية..، من قبيل ما أحلّ الله فعله وما حرّم فعله، من قبيل أوامر الله تعالى ونواهيه، افعل ولا تفعل، مع أنّه سبحانه وتعالى ترك لنا في ذلك الاختيار، فكما أمرني أن أفعل جعلني في الوقت نفسه قادراً أيضاً على أن لا أفعل، وحينما قال لي ناهياً، لا تفعل الشيء الفلاني، جعلني في الوقت نفسه قادراً على الفعل بدليل قوله لي لا تفعل.. وبيّن لنا ثواب ذلك أو عقابه، ثواب إلتزامنا وطاعتنا، وعقاب تخلّفنا وعصيانا أوامره..
فالآية: { ومن دخله كان آمناً } وآيات الأمن الأخرى تبين أن جعل البيت آمناً ليس من قبيل تعاقب الليل والنهار، أو مسيرة الشمس، وليس من قبيل: { لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار }40 حتى يقع التناقض، وإنما تدخل ضمن الأمر الثاني، ضمن التشريع، أي يكون تقديره ومن دخله فأمنوه; لأنّه استجار ببيت الله تعالى، ومن استجار به فعليكم أن تؤمنوه ولا تفزعوه فيه وتخيفوه، وإلاّ فإنّكم استهنتم ببيت الله تعالى ولم تحترموا جواره، وخالفتم ما أمركم به الله تعالى من توفير الأمن والاستقرار والأمان لداخل هذا البيت ولمن استجار به، وأن لا يؤذى ولا يُضايق إلاّ بالقدر الذي يخرجه من البيت إن كان مطلوباً للقضاء والعدل وكما سمحت به الشريعة; ليُقام عليه الحدّ، وإلاّ فإنّه خلاف الأمن والأمان أن يبقى المجرم داخل البيت آمناً يعيش بعيداً عن العدل وإقامة الحدّ عليه، وبالتالي سيتحوّل البيت إلى ملاذ آمن للخونة والمجرمين.. ويكون مشجّعاً ـ والعياذ بالله ـ لهم على التمادي بجرائمهم.
وقد وردت في هذا الأمر الروايات والتي منها صحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد الله(عليه السلام) في الرجل يجني في غير الحرم ثم يلجأ إلى الحرم؟ قال: «لا يُقام عليه الحد، ولا يُطعم ولا يُسقى ولا يُعلم ولا يبايع، فإذا فُعل به ذلك يوشك أن يخرج فيُقام عليه الحد، وإن جنى في الحرم جناية أقيم عليه الحد في الحرم، فإنه لم ير للحرم حرمة فقد قال(صلى الله عليه وآله): «إن أعتى الناس على الله القاتل غير قاتله والقاتل في الحرم» فالروايات تبين إمكان وقوع القتل في الحرم وحكم الجناة الذين يلجأون إليه..
إذن أمرنا الله تعالى بأن نرعى للبيت حرمته وأمنه، وهي طاعة نستحقّ عليها أجراً وثواباً، وإن خالفنا وعصينا وأسئنا لأمنه، فإنّ العقاب جزاؤنا إزاء ما اقترفناه، ويبقى كلام الله تعالى لا يمسّه شيء وبعيداً عن التناقض، ذلك أنّ الله سبحانه وتعالى قال: { من دخله كان آمناً }... أي من دخل بيتي فاجعلوه آمناً، فإذا لم نجعله آمناً فالمخالفة منّا والذنب ذنبنا، بدليل الآية الأخرى: { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتّى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين }، نهى المؤمنين عن قتال المشركين لعلمه بأنّ نفوس المؤمنين قد حدّثتهم بقتال المشركين في مكان أمر الله تعالى بحفظ أمنه ورعاية أحكامه. فنهاهم عن ذلك، عن قتالهم المشركين حتّى يبدأ المشركون بقتالهم فشرع لها حكماً آخر: { فإن قاتلوكم فاقتلوهم.. } وهذا أيضاً يدل على أنّ أمن البيت بعيد عن التكوين، قريب من التشريع، فإذا دخل البيت قوم، يصرّون على المعصية، وعلى سفك الدماء داخل بيت الله، وعلى الإساءة له وعدم تقدير لحرمته ـ كالذي يرتكب جريمة داخله فإنه لم ير للحرم حرمة ـ وعلى ترويع الآمنين.. فإن بدأوا بأفعالهم القذرة هذه، فليس عليكم إلاّ قتالهم وإلاّ إقامة القصاص عليهم. فلو كان الأمن تكوينياً لما نهانا الله تعالى عن القتال، ولما توعد مَن يعزم على الشر بعذاب مؤلم شديد { .. ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} وكيف ينهانا عن أمر يخالف التكوين والثبات، أَو يصح أن ينهانا عن تغيير مسيرة الشمس أوالقمر بقوله: لا تغيّروا مسيرة الشمس ولا القمر وهي أمور خارجة عن قدرتنا واختيارنا؟ ولو كان أمن الحرم يتعدّى كونه تشريعاً إلى أنّه أمر تكويني وأمن تكويني لما وقع مثل هذا القتال، ولمّا استطاع المجرمون من انتهاك حرمته وتقويض أمنه وكما في الرواية... وإذا جنى في الحرم جناية أقيم عليه الحد في الحرم لأنه لم يرع للحرم حرمة.
في رواية أخرى حول من يسرق ويلتجأ إلى الحرم:... وإن أحدث في الحرم ذلك الحدث أُخذ فيه41. فحفظ أمن الحرم ورعايته أمر شرعه الله تعالى وأوكله إلينا، وخصص لمن يحفظه ويرعاه أجراً عظيماً يتناسب وعظمة البيت وأمنه، وأعدّ لمن خالف ذلك وانتهك حرمته وأمنه عذاباً عظيماً كما قلنا سابقاً; لأنّه إثم عظيم وكفرٌ بالنعمة. فالثواب والعقاب يتناسبان مع عظمة البيت وقداسته وطهارته، وأنّ بمراعاة أحكام الشريعة المختصة بأمن البيت من قبل النّاس يتحقّق الأمن والأمان وهم يعيشون على ترابه، ويتفيئون ظلاله.
يقول سيد قطب: فنعمة الأمن نعمة ماسة بالإنسان، عظيمة الوقع في حسّه، متعلّقة بحرصه على نفسه، والسياق يذكرها هنا ليذكر بها سكان ذلك البلد، الذين يستطيلون بالنعمة ولا يشكرونها، وقد استجاب الله دعاء أبيهم إبراهيم فجعل البلد آمناً، ولكنّهم هم سلكوا غير طريق إبراهيم، فكفروا النعمة..42
يقول السيد الطباطبائي في تفسير الميزان: فالحقّ أنّ قوله: { ومن دخله كان آمناً } مسوق لبيان حكم تشريعي لا خاصّة تكوينيّة، غير أنّ الظاهر أن تكون الجملة إخبارية يخبر بها عن تشريع سابق للأمن، كما ربّما استفيد ذلك من دعوة إبراهيم المذكورة في سورتي إبراهيم والبقرة، وقد كان هذا الحقّ محفوظاً للبيت قبل البعثة بين عرب الجاهلية ويتصل بزمن إبراهيم (عليه السلام).
وأمّا كون المراد من حديث الأمن هو الإخبار بأن الفتن والحوادث العظام لا تقع ولا ينسحب ذيلها إلى الحرم فيدفعه وقوع ما وقع من الحروب والمقاتلات واختلال الأمن فيه; وخاصّة ما وقع منها قبل نزول هذه الآية، وقوله تعالى: { أو لم يروا أنّا جعلنا حرماً آمناً ويتخطّف النّاس من حولهم }، لا يدلّ على أزيد من استقرار الأمن واستمراره في الحرم، وليس ذلك إلاّ لما يراه النّاس من حرمة هذا البيت ووجوب تعظيمه الثابت في شريعة إبراهيم (عليه السلام) وينتهي بالآخرة إلى جعله سبحانه وتشريعه.
وراح السيد الطباطبائي يقول:
وكذا ما وقع في دعاء إبراهيم المحكي في قوله تعالى: { ربِّ اجعل هذا البلد آمناً } وقوله: { ربِّ اجعل هذا بلداً آمناً }، حيث سأل الأمن لبلد مكّة فأجابه الله بتشريع الأمن وسوق النّاس سوقاً قلبياً إلى تسليم ذلك وقبوله زماناً بعد زمان43.
وفي مكان آخر من تفسيره لسورة إبراهيم الآية 35 يقول السيد الطباطبائي:
والمراد بالأمن الذي سأله(عليه السلام) الأمن التشريعي دون التكويني.. فهو يسأل ربّه أن يشرع لأرض مكّة حكم الحرمة والأمن، وهو ـ على خلاف ما ربّما يتوهم ـ من أعظم النعم التي أنعم الله بها على عباده، فإنا لو تأملنا هذا الحكم الإلهي الذي شرعه إبراهيم(عليه السلام) بإذن ربّه أعني حكم الحرمة والأمن وأمعنا فيما يعتقده الناس من تقدير هذا البيت العتيق وما أحاط به من حرم الله الآمن، وقد ركّز ذلك في نفوسهم منذ أربعة آلاف سنة حتى اليوم وجدنا ما لا يحصى من الخيرات والبركات الدينية والدنيوية عائدة إليها وإلى سائر أهل الحقّ ممن يحنّ إليهم ويتعلّق قلبه بهم، وقد ضبط التأريخ من ذلك شيئاً كثيراً وما لم يضبط أكثر، فجعل تعالى مكّة بلداً آمناً وهي من النعم العظيمة التي أنعم الله بها على عباده44.
أقول: وهذا الفهم للأمن ممّا تعارف عليه الناس قديماً وكان مرتكزاً في أذهانهم فقد حدّثتنا المصادر التأريخيّة أنّ (أبو طاهر القرمطي) ضرب الحجر الأسود بفأس كانت بيده في محاولة منه لقلعه، فانكسر الحجر، ثمّ التفت إلى جموع النّاس قائلا لهم: أيّها الجهلة! أنتم تقولون: إنّ كلّ من يرد البيت فهو آمن، وقد رأيتم ما فعلتُ أنا إلى الآن، فتقدّم إليه رجل من الحاضرين ممن كان قد هيّأ نفسه للموت، فأمسك بلجام حصان أبو طاهر وأجابه قائلا: إنّ معنى ذلك ليس كما قلتَ بل إنّ المعنى هو أن من يدخل هذا البيت فعليكم منحه الأمان على نفسه وماله وعرضه حتّى يخرج منه، فامتعض القرمطي وتحرّك بحصانه دون أن ينبسّ ببنت شفة45.
هذا وقد اعترض بعض على نظرية الأمن للسيد الطباطبائي قائلا : إن الاقتطاف أمر تكوينيٌّ ولذا فإن الأمن مقابل ذلك يعدّ أمناً تكوينياً.. وجاء بأدلته التي لا أظنها تنهض لتأييد مدعاه مؤجلا مناقشتها إلى كتابنا حول نظرية أمن الحرم إن شاء الله تعالى.
وإن تعجب فعجب قول القائل:.. ولابدّ من الالتفات إلى هذه النقطة، وهي أن استجابة الله لدعاء إبراهيم بخصوص أمن مكّة له جهتان: فمن جهة منحها أمناً تكوينياً، ولذلك لم تشهد في تاريخها إلاّ النزر القليل من إخلال الأمن، ومن جهة ثانية منحها الأمن التشريعي...46
أقول: النزر لغة القليل التافه، فهل ما مرّ على هذه الأرض المقدّسة من سلب ونهب وتخريب وسفك للدماء وإزهاق للأرواح البريئة.. كلّ هذا من القليل التافه، وبالتالي لا يقدح ولا يخل بالأمن التكويني؟!
والرازي في جواب عن سؤال يفترضه:
أليس أن الحجاج حارب ابن الزبير وخرب الكعبة وقصد أهلها بكل سوء وتمّ له ذلك؟
لم يكن مقصوده تخريب الكعبة لذاتها، بل كان مقصوده شيئاً آخر47.
فالأول يريد أن يبرر وجود الأمن التكويني فجعل ما أصاب الكعبة من النزر القليل! والثاني يريد أن يبرر عدم نزول العذاب على الحجاج وجنده وعدم إرسال الطير الأبابيل بأن الحجاج لم يكن قاصداً الكعبة بسوء بل كان يقصد رأس ابن الزبير!

_____________________________________________________
(1) في ظلال القرآن 1: 113.
(2) التفسير المنير 1 : 305.
(3) العنكبوت: 67.
(4) البقرة: 126.
(5) آل عمران: 97.
(6) إبراهيم: 35.
(7) القصص: 57.
(8) العنكبوت: 67.
(9) البقرة: 125.
(10) التين: 3.
(11) التين: 4.
(12) التفسير الكبير للفخر الرازي 3: 59 ـ 60.
(13) التفسير المنير 1: 305.
(14) الشعراء: 172 ـ 173.
(15) الشعراء: 189.
(16) الذاريات: 40.
(17) هود: 82.
(18) الأحقاف: 24.
(19) تفسير مواهب الرحمن للسيّد السبزواري 2: 28 ـ 29.
(20) الحجر: 46.
(21) الدخان: 51.
(22) تفسير معجم البيان 1: 383.
(23) تفسير المنار 1: 460.
(24) تفسير المنار 1: 461، وتفسير المراغي ـ أحمد مصطفى المراغي 1: 210 ـ 211.
(25) سورة الحج : 28 .
(26) الأساس في التفسير 1: 267.
(27) التفسير الكبير 3: 59.
(28) أحكام القرآن 1: 58 ـ 59.
(29) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1: 117 ـ 118.
(30) لا يعضد: لا يقطع.
(31) الخلى (مقصور): النبات الرطب الرقيق ما دام رطباً; واختلاؤه: قطعه.
(32) الإذخر (بكسر الهمزة والخاء): حشيشة طيبة الرائحة يسقف بها البيوت فوق الخشب، ويحرق بدل الخشب والفحم. والقين: الحداد.
(33) ائتفك البلد بأهله: انقلب.
(34) مجمع البيان، الطبرسي 1: 387، التبيان للطوسي 1: 356 ـ 357.
(35) التفسير الكبير للرازي 4: 52 ـ 53.
(36) سورة البقرة 191.
(37) سورة البقرة 194.
(38) آلاء الرحمن، البلاغي 1: 124 و314، 315، 316.
(39) الفرقان : 62.
(40) يس : 40.
(41) انظر زبدة البيان في أحكام القرآن عن الكافي 4: 226 و227.
(42) في ظلال القرآن 4: 2109.
(43) الميزان في تفسير القرآن 3 : 390 ـ 391.
(44) تفسير الميزان 12: 69.
(45) المنتظم لابن الجوزي 6 : 43.
(46) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل 7: 461.
(47) التفسير الكبير 4: 59.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page