طباعة

تحقيق النص عند الأميني‏

 تحقيق النص عند الأميني‏

 إنّ ظاهرة ( تحقيق النص وتصحيح نسبته إلى قائله ) - على سبيل المثال - تظل واحدة من الأدوات التي يتوكأ عليها ( الأميني ) في معالجته للظاهرة...
 وهذه الأداة ( أي تحقيق النص... إلخ ) تمثل في التراث الإسلامي ( التراث الحوزوي خاصة ) ممارسة لا مماثل لها في التراث البشري،...وحتى ( اُوربياً ) نجد أن المنهج التاريخي ( عبر اعتماده إحدى الأدوات المتمثلة في تحقيق النص... إلخ ) قد اكتسب طابعه الأكاديمي في القرن الماضي فصاعداً... وهذا يفصح عن مدى الجدية التي تطبّع المؤسسة الحوزويّة في نشاطها البحثي، حيث نجد أحد منعكساتها على شخصية الأميني، فيما نقل الظاهرة من نطاقها الفقهي إلى النطاق التاريخي ليمارس ( تحقيق النص وتصحيح نسبته إلى قائله ) وفق ماتتطلبه الممارسة من جهة ومعرفة تخصصية من جهة اُخرى. يستوي في ذلك أن يحوم التحقيق على السند أو الدلالة، مضافاً - بطبيعة الحال - إلى أدوات البحث التاريخي الاُخرى، وفي مقدمتها ( عنصر المقارنة ) سواء أكانت المقارنة ( موضعية ) أو
( شاملة ) تتجاوز تخوم الظاهرة المبحوث عنها.
 
 نجاح الأميني في الإقناع
 بيد أنّ الأهمّ من ذلك كله هو: أن ينجح الباحث في مهمته بنحو يحقق من خلاله عنصر ( الإقناع ) لدى ( المتلقي - القارئ )، وهذا مانجده فعلاً في ( الغدير ) بحيث يفرض على المتلقي ( قناعته ) المطلوبة: حتى لو كان غير منتسب إلى الطائفة المحقة، ويكفينا أن نقرأ
( تقويمات ) المنتسبين إلى المذاهب الاُخرى عبر المقدمات التي أثبتها الأميني من أجزاء كتابه لملاحظة العنصر المذكور.
 
 مفاد حديث الغدير
 على أ يّة حال يجدر بنا أن نقف - ولو عابراً - على شريحة بحثيّة من كتابته المذكورة، متمثلة في العنوان الآتي: ( مفاد حديث الغدير)، حيث يتحدث المؤلّف عن ( الدلالة ) فيما جاء في الحديث المشهور «...من كنت مولاه فعليّ مولاه ».. إلخ. بعد أن انتهى من الحديث عن ( السند ) وفق الطابع المدهش الذي أشرنا إليه، حيث قطع أكثر من مئتي ( 200 ) صفحة ترتبط بالتعامل مع السند بشكل لافت للنظر، فيما يتطلب قابلية تصل حد الخيال.
 المهم: إذا تركنا الحديث عن السند، إلى الدلالة التي أشرنا إليها، نجدممارسته البحثيّة في دلالة الحديث المذكور، مفصحة عن تحقيقها لعنصر ( الإقناع ) المطلوب.
 
 بين الإقناع والتذوّق اللغوي‏
 لقد قدّم المؤلّف ستة ( أدلة ) رئيسة أو عامّة بالنسبة إلى دلالة الحديث المذكور على إمامة الإمام علي عليه السلام: بدءاً من علماء الجمهور بعامة إلى مفسريهم إلى مؤرخيهم الذين ( نقلوا ) ذلك أو فسروه.
 ويعنينا من العرض المذكور جانبان: أحدهما: عنصر الإقناع، والآخر: -  وهذا ما نحرص عليه الآن  -: الأداة اللغويّة التي استخدمها العلّامة الأميني من خلال ( ذائقته الفنيّة ) لتحقيق العنصر المطلوب ( الإقناع ).
 طبيعياً أنَّ الحديث عن ذائقة الأميني فنياً من خلال اللغة، إنّما يستمد مشروعيته أو مسوغه من كون الظاهرة المبحوث عنها هي ظاهرة لغويّة، حيث أنكر نفر من الجمهور انسحاب ( المولى ) - في حديث الغدير - على مفهوم ( الإمامة )، وهذا ما دفع الأميني إلى التدليل على أنَّ مفردة ( المولى ) منسحبة لغوياً على مفردة ( الأولى ) التي لا تشكيك فيها على مفهوم ( الإمامة ).
 على أ يّة حال أنَّ كلّاً من عنصري ( الإقناع بشكل عام ) و ( التذوّق اللغوي ) بشكل خاص يمكننا أن نلحظهما في طبيعة استدلاله الذي بدأه:
 أوّلا: بالدليل الذاهب إلى أنَّ ( الحاضرين ) في الحشد ممن سمع مقالة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة مثل حسان بن ثابت الذي صاغ ذلك شعراً، والشيخين اللذين أقبلا مهنّئين، والفهري الذي عاجلته العقوبة، مضافاً إلى من سمع المقالة ممن لم يحضر الحشد ثم امتداد ذلك إلى الأجيال اللاحقة، ممن فهم هذا المعنى.
 ثانياً: وأردف ذلك بالدليل الثاني متمثلاً في الاستدلال بأقوال اللغويين والمفسرين البالغ عددهم بالعشرات، وقد تخلل ذلك مناقشته للرازي في تنكّره للمعنى المذكور، حيث قطع شوطاً طويلاً من النقض والحل حيال الشخص المذكور في فهمه المخطئ، وانتهى‏ من ذلك إلى‏ عدم إمكان إرادة غير الأولى‏.
 ثالثاً: وقد جاء الدليل الثالث خاصاً بأنَّ المعنى‏ الحقيقي للمولى‏ هو الأولى‏ فحسب.
 رابعاً: وجاء الدليل الرابع مصحوباً بعشرين قرينة تومئ إلى الدلالة المذكورة.
 خامساً: وجاء الدليل الخامس معتمداً على الأحاديث المفسرة لمعنى المولى بالأولويّة.
 سادساً: بينما جاء الدليل الأخير خاصاً بإقرار علماء الجمهور بالدلالة المتقدمة.
 طبيعياً جاء الاستدلال بمستوياته المذكورة، مصحوباً بالسمة المتميزة للأميني وهي: صبره المعجز في ملاحقة الظاهرة من مختلف زواياها...
 ولكن هدفنا الآن هو:
 ملاحظة ما كررناه من الركون إلى ( تذوّقه اللغوي ) في إثبات الظاهرة، طالما يظل الأمر المرتبط بحادثة الغدير منصبّاً أساساً على محوري السند والدلالة... أما وأنّ السند قد عالجه بالنحو المعجز حقاً حتى إنَّ الكتّاب الذين قوّموا دراسته أشاروا إلى هذا الإعجاز البحثي المتمثل في رصد المؤلّف لكل المظان التاريخيّة حتى في دراسته لشعراء الغدير، فضلاً عن دراسته السنديّة لحديث الغدير.
 وأمّا المحور الآخر المهم فهو: طبيعة الدلالة التي يتضمنها حديث الغدير، حيث أنّ اللغة هي المادة التي يتوكأ عليها في فهم الدلالة المقصودة، أي ( المولى ) ودلالتها على الإمامة، وهذا ما توفّر عليه الأميني من خلال امتلاكه لناصية التذوّق الفني للغة.
 ونكتفي بالاستشهاد ببعض الموارد فحسب ...
 من ذلك مثلاً: مناقشته للرازي في ذهاب الرّازي إلى أنَّ ( المولى ) لم تجئ بمعنى ( الأولى )، بدليل أنَّ أحدهما لا يصح استعماله مكان الآخر، فلا يصح القول ( هذا مولى من فلان ) مكان ( هذا أولى من فلان )، كما أ نّه لو كان الأمر كذلك لصح أن يقرن كل ما يصح اقترانه بالآخر، حيث لا يصح استخدام أو اقتران ( مِنْ ) في سياق ( المولى ) العارية من الأداة المذكورة، وقد أوضح دليله المتقدم بأ نّ واضع اللغة يضع الكلمة للمعنى المفرد، وليس التركيب: كما لو وضع لفظ الإنسان للحقيقة الخاصّة، ولفظ الحيوان للحقيقة الخاصّة،... وهذه هي الوظيفة التي يضطلع بها اللغوي، أمّا التركيب الذي يضم أحدهما للآخر في قولنا: ( الإنسان حيوان ) فأمر عقلي لا وضعي.
 هذه الشبهة التي أثارها الرازي، قد دحضها الأميني من خلال ( تتبّعه ) اللغوي الذي هو جزء من طابع عام يسم معالجته ( أي: التتبع المدهش في المجالات البحثيّة جميعاً )، ثم من خلال ( تذوّقه اللغوي )، حيث أوضح بأنَّ الترادف بين الألفاظ ( يقع في جوهريات المعاني لا عوارضها الحادثة من أنحاء التركيب وتصاريف الألفاظ وصيغها ) بمعنى: أنَّ الطبيعة التركيبيّة لبنية ( الأولى ) تتطلب ( الباء ) أو ( مِنْ ) فيقال: ( أولى من ) و ( أولى ب )، بينما تتجرد ( المولى ) منهما، لذلك يتماثل قولنا: ( فلان أولى بفلان ) مع قولنا: ( فلان مولى فلان )...
 والحق: أنَّ هذه إلتفاتة ذكيّة من حيث فرزها للترادف الذي ينحصر في ( الدلالة ) لا ( التركيب ) تأتي من خلال ( التذوّق الفني للغة ) كما هو واضح...
 والأمر كذلك حينما يتابع سائر أنماط التركيب في ذهابه إلى أنَّ ( الأولى ) ذاتها تستعمل مضافة إلى المثنى والجمع أو ضميرهما بغير الأداة التفضيليّة ( من ) فيقال: ( زيد أفضل الرجلين أو أفضلهما، وأفضل القوم أو أفضلهم ).
 ولايكتفي الأميني بهاتين الملاحظتين، بل يتجاوزهما إلى ملاحظة تذوقيّة ثالثة هي: ذهابه إلى أنَّ ما زعمه الرازي في المفردة اللغويّة المذكورة ( أي عدم مجي‏ء المولى بمعنى الأولى )، يطّرد في المفردات التي فسر بها معنى ( المولى ) مثل ( الناصر ) حيث لم تستخدم بمعنى المولى، فلا يقال: ( مولى دين اللَّه ) مقابل ( ناصره ) أو ( مَنْ مواليّ إلى اللَّه ) مقابل ( مَنْ أنصاري إلى اللَّه ) إلخ...
 ثم يتجه إلى ملاحظة تذوقيّة رابعة هي: إلزام الآخر بما ألزم نفسه، حيث ذهب الآخر إلى أنَّ أحد معاني ( المولى ) هو ( المنعم عليه ) حيث يتطلب الأخير الأداة ( على ) بينما يتجرد ( المولى ) من الأداة المذكورة.
 بعدها: يتجه إلى ملاحظة تذوقيّة جديدة يرتبها على ما تقدم ألا وهي: إطّراد ما لاحظه سابقاً في أمثلة متنوعة، مثل ( أجحف به ) و ( جحفه )، و ( نسأ اللَّه في أجله ) و ( أنسأ أجله )...إلخ، فيما قدّم نماذج لغوية متنوّعة في هذا الميدان.
 هذا ولم يغفل عن الملاحظة السادسة وهي: الإشارة إلى أدوات اُخرى، كأداتي الاستثناء ( غير ) و ( إلّا ) وأداتي الترديد ( أم ) و ( أو ) وأداتي الاستفهام ( هل ) و ( الهمزة )، ثم ( لدى ) و ( لدن )، حيث إنَّ هذه الأدوات مع ترادف أحدها مع الآخر في الاستثناء أو الترديد أو الاستفهام، إلّا أنَّ أحد المترادفين يفترق عن الآخر بعدة وجوه: قد تكون أربعة أو ستة أو حتى عشرة إلخ...
 وهذا النمط من التذوّق الذي عرضناه عبر جملة من ملاحظات الأميني التذوقيّة تفصح بوضوح عن امتلاكه لناصية اللغة كما قلنا...
 وبالمستوى ذاته من التتبع والرصد الشامل لكل الأوجه، يتابع الأميني مناقشته للرازي وسواه في مسائل تتصل بالدلالة اللغويّة ل ( المولى ) وما قيل حيالها من المعاني المتنوعة حتى أ نّه ليقطع رحلات طويلة عند كل موقف يتطلب ذلك.
 ومنها: وقوفه عند الرّد على الرازي في إنكاره لمجي‏ء ( مفعل ) الموضوع للحدثان أو الزمان أو المكان بمعنى ( أفعل ) الموضوع لإفادة التفضيل، يشير إلى أنَّ ذلك لو تم لاستوجب عدم مجيئه بمعنى الفاعل والمفعول وفعيل، مع أ نّه صرح بإتيانه بمعنى الناصر والمعين والمعتق، والحليف... إلخ.
 بعد ذلك يشير إلى جملة وجوه ورد فيها استعمال مخصوص بمادة واحدة: مثل كلمة ( أعجف ) تجمع على ( عجاف ) وحدها، ومثل عدم ظهور ضمير المثنى والمجموع فى أسماء الأفعال إلّا في ( ها ) دون سواها.. ومثل عدم ورود المضارع المضموم العين إلّا في ( وجد ) ( يَجدُ ) دون سواها... إلخ.