وبعد كلّ ذلك انتقل المؤلف إلى أنّ هناك بعضاً من العلماء لا يأبه في عمله إلّا بالخبر المتواتر في وقت يعمل فيه جمعٌ منهم بالآحاد.
ومن اُولئك: الشيخ الطبرسي صاحب تفسير مجمع البيان "ت 548 ه" حيث قال في كتابه "إعلام الورى":
'لم يولد قط في بيت اللَّه تعالى مولود سواه لا قبلَه ولا بعدَه، وهذه فضيلة خصّه اللَّه تعالى بها إجلالاً لمحلّه ومنزلته وإعلاءً لقدرته' [اعلام الورى: 153.]
ومن اُولئك: الشريف المرتضى "ت 436 ه" وهو يشرح القصيدة المذهبة للسيّد الحميري قال:وروي أ نّها يعني فاطمة بنت أسد- ولدته في الكعبة، ولا نظير له في هذه الفضيلة [شرح القصيدة المذهبة: 51.]
وهنا يقول المؤلف: وليس قصده من إيرادها بلفظ 'روي' إسنادها إلى رواية مجهولة، وإنّما جرى فيها على ديدنه في هذا الكتاب من سرد الحقائق الراهنة مقطوعة عن الأسانيد لشهرتها وتضافر النقل لها وتداولها في الكتب لفتاً للأنظار إليها وإشادة بذكرها على نحو الاختصار، وعلى ذمّة الباحث إخراجها من مظانّها، ولذلك تراه يقول بعد الرواية غير متلكى ء ولا متلعثم: 'ولا نظير له' كجازمٍ بحقيقتها، مؤمن بصحّتها وتواترها، وإلّا لَلَفَظَها كما هو دأبه في غير واحد من الأحاديث. والشريف الرضيّ، "ت 406 ه" في كتابه "خصائص الأئمّة" حيث قال: 'ولد عليه السلام بمكة في البيت الحرام لثلاث عشرة ليلة خلت من رجب بعد عام الفيل بثلاثين سنة، واُمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، وهو أوّل هاشميّ في الإسلام وُلِدَ من هاشم مرّتين، ولا نعلم مولوداً في الكعبة غيره' [خصائص الأئمة: 39.]
كما حذا حذوهما شيخ الطائفة الطوسي، "ت 460 ه" في "التهذيب" ثالث الكتب الأربعة المعوّل عليها عند الشيعة حيث قال: 'ولد بمكّة في البيت الحرام يوم الجمعة' [التهذيب 19:6 كتاب المزار.] وروى في "مصباح المتهجّد" تأريخ شهر الولادة ومحلّها [مصباح المتهجد: 741 و 754.]
ومنهم أيضاً الشيخ المفيد، "ت 413 ه" قال في "الإرشاد": 'ولد بمكّة في البيت الحرام يوم الجمعة ولم يولد قبلَه ولا بعدَه مولود في بيت اللَّه سواه إكراماً له من اللَّه جلّ اسمه له بذلك وإجلالاً لمحلّه في التعظيم' [الإرشاد: 90، والمقنعة: 72، ومسار الشيعة: 35.] كما روى في مزاره وشاركه في هذا كلّ من الشهيد في مزاره وابن طاوس في مصباح الزائر ما علّمه الإمام الصادق عليه السلام لمحمّد بن مسلم حين زيارته أمير المؤمنين عليه السلام: 'السلام عليك يا من وُلِدَ في الكعبة أو السلام على المولود في الكعبة' [انظر الإقبال: 608، ومصباح الزائر: 106، والمزار الكبير: 267، والبحار 374:100.]
والشيخ المفيد والقول للمؤلّف من عرفته الاُمّة بالنقد والتمحيص وأ نّه كيف كان يردّ الأخبار لأدنى علّة في أسانيدها أو متونها أو يتردّد في مفادها، يعرف ذلك كلّه من سبر كتبه ورسائله ومسائله، أو هل تراه مع ذلك يعدل عن خطته القويمة فيرمي القول على عواهنه بذكر الواهيات على سبيل الجزم بها لا سيّما في كتاب "الإرشاد" الذي قصد فيه إعلاء ذكر آل محمّد صلى الله عليه و آله والتنويه بفضلهم وإمامتهم وتقدّمهم فيها، فهل يذكر فيه إلّا ما هو مسلّم بين الفريقين أو الملأ الشيعي على الأقلّ؟! وتبع الشيخ المفيد معاصره النسّابة ابن الصوفي [انظر المجدي: 11.]
مع السيّد الحميري:
وقد أوشك هذا الفصل على نهايته، ارتأى الشيخ أن يقتطع شيئاً ممّا نظمه السيّد الحميري "ت 179 ه" فيما يخصّ ولادة الإمام عليه السلام في الكعبة:
ولدته في حرم الإله وأمنه والبيت حيثُ فناؤه والمسجدُ
بيضاءُ طاهرةُ الثياب كريمة طابَتْ وطابَ وليدُها والمولدُ
وله أبيات اُخرى منها:
طِبت كَهلاً وغُلاما ورَضيعاً وجَنينا
وببَطْنِ البيتِ مولُو داً وفي الرَمْلِ دَفينا
[انظر المناقب "لابن شهر آشوب" 175:2-176، وروضة الواعظين: 81، وأعيان الشيعة 324:1.]
وقد عدّ المؤلّف نظم السيّد الحميري هذا أثبت لمفاده من أسانيد متساندة والسبب في هذا كما يقول المؤلّف: هو أنّ السيّد الحميري الذي كان يسير بشعره الركبان في القرن الثاني، والذي راح ينافح الآخرين من أعداء أهل بيت الوحي عليهم السلام وحتّى تكون حجّته قويّة لابدّ له من أن يحاججهم لا بالواهيات ولا بما لا يعرفه الناس أو لا يعترفون به.
وممّا نظمه كلّ من السرخسي:
ولدتْهُ منجبةٌ وكان وِلادُها في جوف كعبة أفضل الأكنان
والشفهيني:
أم هل ترى في العالمين بأسرهم بَشَراً سواه ببيتِ مكّة يولَدُ؟
ويختم هذا الفصل بقول ثقة الإسلام النوري: 'إنّ هذه الفضيلة الباهرة جاءت في أخبار غير محصورة، ومنصوص بها في كلمات العلماء وفي ضمن الخطب والأشعار وهنا يقول المؤلّف: ومهما حملنا قوله إنّها: 'جاءت في أخبار غير محصورة' على المبالغة، فإن أقل مراتبه أن تكون متواترة.