• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

من هدي السيرة النبوية

كيف ندرس السيرة النبوية؟

كيف ندرس السيرة النبوية؟


مناهج البحث في السيرة


هناك عدة مناهج لدراسة سيرة الرسول (صلّى الله عليه وآله) هذه المناهج سبق وأن أتبعها أصحاب السيرة والمؤرخون الذين كتبوا عن حياة النبي الأعظم.


1ـ هناك مناهج يتبع أسلوب السرد التاريخي ولادة النبي، منشأه ـ ولادته يتيماً ـ وفاة أبيه وهو في بطن أمه كفالة جده عبد المطلب وعمه أبي طالب له ووفاة أمه آمنة وهو في السادسة من عمره وهكذا يتدرج المؤرخ في كتابة سيرة النبي حسب الأحداث الزمنية التي مر بها النبي الأحداث التي وقعت في حياته.


2ـ وهناك منهج آخر يتبع أسلوب التحليل لحياة النبي وهذا هو المنهج التحليلي فهناك كتب في السيرة تحاول أن تسلط الأضواء التحليلية على سيرة النبي وتحاول أن تستنتج من كل حادثة هدفاً وفكرة تفيد القارئ المسلم.


3ـ وهناك أسلوب ثالث ومنهج يحاول أن يأخذ جانباً معيناً من حياة الرسول مثل الجانب العسكري أو الجانب السياسي والقيادي والجانب الاجتماعي من حياة الرسول فيسلط الضوء على هذا الجانب، والسؤال ما هو منهجنا نحن لدراسة سيرة النبي حيث نريد أن ندرس سيرة رسول الله بطريقة تحقق لنا الأهداف التي ذكرناها في الدرس السابق:


أ. أن نعرف سر عظمة النبي ولا نكتفي بمجرد الإعجاب العاطفي بشخصية رسول الله بأن نحاول أن نتجاوز هذه المرحلة إلى مرحلة أكثر تقدماً وتطوراً وهو محاولة تلمس النقاط المضيئة في شخصية الرسول.


ب. محاولة الاتباع والاقتداء بسيرة الرسول.


ج. الهدف الثالث أن نكتشف الروح الحضارية من خلال دراستنا لسيرة الرسول تلك الروح التي نفخها النبي في جسد الأمة وبعثها في الحياة وتلك الروح التي بثها النبي في نفوس بلال وعمّار وسمية وأبي ذر وأمثال هؤلاء الأفذاذ.

فكيف يكون منهجنا لدراسة سيرة الرسول (صلّى الله عليه وآله) إذن؟

يمكن أن نطرح ثلاثة مناهج موضوعية أو ثلاث تصورات لمنهج موضوعي لدراسة السيرة النبوية الشريفة:


• المنهج الأول:

أن نعرف الثوابت، أي تلك القوانين والسنن التي تجسدها لنا سيرة النبي وأن نعرف مناهج العمل والتحرك في سيرة الرسول أو بعبارة أخرى نريد أن نعرف أسباب الخلود وعوامل الاستمرار في سيرة رسول الله.

ممّا لا شك فيه انه تأتي هذه الدنيا شخصيات فذة غيروا وجه التاريخ وصنعوا حياة أمتهم من جديد وغيروا مجتمعاتهم التي عاصروها وعاشوا فيها.

هذه الشخصيات الخارقة أو الرجال الأفذاذ إنما هم من جنس البشر وفي قالب البشر ومن لحم ودم لكنهم يتميزون بما أوتوا من روح وإرادة وتصميم وقدرة على التغيير لم يؤتها سائر الناس هؤلاء يأكلون ويشربون وينامون ويستيقظون ويعيشون حياة إنسانية عادية ولكن حياتهم مليئة بالعطاء والبركة وإذا ماتت أجسادهم تبقى سيرتهم وتبقى آثارهم شعلة تضيء حياة البشرية من بعدهم.

هؤلاء لأنهم تمكنوا أن يفجروا مواهبهم الإنسانية داخل أنفسهم وتمكنوا أن يكتشفوا عوامل التغيير وعوامل التقدم بل وحاربوا عوامل التخلف وحاربوا الانحراف والتضليل وكل العقبات التي تؤخر حياة الإنسان وتشل حركة الحياة وهؤلاء لأنهم قاموا بهذا الدور الجهادي النضالي فتمكنوا أن يحولوا أولئك الفقراء المحرومين وأولئك الأشخاص المسحوقين في مجتمعهم إلى قادة للإنسانية ومحررين للبشرية بعد مجيء هؤلاء العظماء ويتحولون إلى حملة مشاعل التحرر والحضارة.

أذن لا يمكن أن ننكر دور هذه الشخصيات والرجال الأفذاذ في التاريخ.


ما هو المحرك للتاريخ؟


في الحقيقة هناك نقاش بين علماء التاريخ وعلماء الاجتماع أي أن هناك سؤال حول من الذي يغيّر التاريخ؟ ومن الذي يصنع التاريخ؟ وما هي العوامل التي تحرك المجتمعات؟

لقد اختلفت النظريات في تحديد العامل المحرك للتاريخ والعنصر المغير للمجتمعات.

فثمة نظرية تقول شخص واحد أو عدة أشخاص هم الذين يغيّرون التاريخ ويحركون المجتمعات ولولا وجود أشخاص عظماء وقادة يأتون إلى المجتمع ويحركون ويقودون الأمة ويوجهون الناس ويفجرون طاقات الشعب فلا يمكن أن يحدث تغيير وتقدم في حياة الأمة ومن أولئك... المؤرخ الفرنسي (اميرسون)، هذا المؤرخ حين يؤرخ التاريخ الإسلام، فيحدد تلك اللحظة التي بدأ فيها تاريخ الإسلام، بهذه العبارة: (عندما التقت اليد الصغيرة ـ يد علي (عليه السلام) ـ بيد محمد (صلّى الله عليه وآله) تغيّر وجه التاريخ، فيحدد عامل التغيير في وجود هذين الرجلين العظيمين في تاريخ الإسلام).

هذه نظرية وهناك نظرية أخرى تقول: إن الأشخاص ليس لهم دور أساسي في تغيير التاريخ إنما الأشخاص هم عامل مساعد بل العامل المحرك للتاريخ، هو تحرك الأمة كلها ويقولون: مثلاً لو جئنا بأشجار وزرعناها في صحراء قاحلة فهل تتحول هذه الأشجار المثمرة في هذه الصحراء القاحلة إلى حديقة غناء أو روضة يانعة، كلا فما هو تأثير أشجار مثمرة في أرض جرداء يابسة؟ كذلك ما فائدة وجود أشخاص عظماء إذا كانت أرضية الإمرة غير مهيأة والأمة لن تتحرك بنفسها ولم تغير تاريخها، فمجيء أشخاص عظماء ووجود قادة أفذاذ لا يحرك الأمة ولا يغيّر التاريخ.


ما هو رأي الإسلام؟


الإسلام يجمع بين هاتين النظريتين فمن جانب يقول: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) فيعطي الدور للأمة لكي تتحرك وتغير نفسها وتصنع تاريخها من جديد لكن هذا لا يلغي دور الفرد ولا يجرد الإنسان عن المسؤولية.

(كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) و(كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) وكل إنسان يتحمل مسؤوليته بمفرده ولا يتمكن أن يبرر تخليه عن المسؤولية بالظروف الاجتماعية وبأن الآخرين لم يتحركوا ولم يشجعوا.

الإسلام كذلك يحمل الفرد دوراً في تغيير الحياة وصناعة التاريخ.

خصوصاً إذا كان هذا الإنسان (رسولاً ومبشراً ونذيراً وسراجا منيرا).

فلا يمكن أن ننكر دور هذا الإنسان الرسول.

من خلال سيرة الرسول نعرف بأن الرسول إنسان متميز مجسد للقيم والمبادئ، صحيح أن الفرد وحده لا يغيّر التاريخ بل أن هناك مجموعة عوامل وقوانين وسنن طبيعية، لكن الفرد يجسد القوانين والسنن وإن علاقتنا بالأشخاص بمقدار تجسيدهم للقيم وتطبيقهم للقانون كما أن تقديسنا للرسول تقديساً لشخصه إنما هو تقديس للقيم التي جسدها في حياته وتقديس لتلك المبادئ والفضائل التي كان رمزاً وقدوة لها وعلينا أن ننظر إلى تلك الثوابت في حياة الرسول.

الرسول له جانبان، جانب بشري وهذا الجانب محدود بولادة الرسول ووفاته.

(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ)

والجانب الآخر هو الجانب الثابت في حياة الرسول جانب الرسالة والقضية جانب الفكرة والمبدأ فعلينا أن نكتشف تلك الثوابت والسنن وعوامل الخلود والاستمرار في رسالة النبي لكي نستفيد منها.

قد يموت الرسول جسماً لكن بالرسالات لن يموت الرسول.


نبي الرحمة:


مثلاً من الثوابت والسنن ومن قوانين الحياة الإنسانية في سيرة النبي والتي تشكل سر عظمة النبي وخلوده، الرحمة. (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ)

الرسول صورة من الرحمة الإلهية كما يقول بنفسه: (إنما أنا رحمة مهداة)

هدية الله إلى البشر رسول الله، حقاً كان الرسول كتلة من الرحمة، كان رحمة للمؤمنين.

(لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ)

(عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ).

ليس فقط كان رحمة للمؤمنين بل كان رحمة حتى لأعدائه الكافرين الذين حاربوه فكان كلما خرج يدعون الناس إلى التوحيد كان يتبعه الكفار ويأمروا الصبيان والجهال ليتبعوه بالسب والإهانة ويرموا عليه الأحجار والقذارة.

فإذا انتقل عنهم وجلس في فناء الكعبة رفع يديه إلى السماء بالدعاء: (اللّهم اهد قومي فانهم لا يعلمون)، بل كانت رحمته لكل كائن، فمرة كان النبي نائماً فلما استيقظ من نومه رأى قطة نامت على طرف ردائه وهي غارقة في نوم عميق فلم يشأ النبي أن يقطع على هذه القطة نومها اللذيذ بل جلس وانتظر مدة من الزمن حتى تستيقظ بنفسها فلما انتبهت وقامت ومشت قام النبي إلى عمله.

ومرة كان النبي في طريقه مع بعض الصحابة فرأى قطة تريد أن تشرب الماء فكانت تلحس قعر الإناء بلسانها فجاء النبي وأمال طرف الإناء ليجتمع الماء فتشرب القطة من الماء حتى ترتوي، فقال الأصحاب للنبي: نحن نكفيك هذا، قال: لا بنفسي أحب أن أساعد هذه القطة على شرب الماء فلما ارتوت القطة من الماء وانصرفت، انصرف النبي.

أذن الرحمة سنة من سنن الحياة وقانون ثابت والرحمة تسري في كل جوانب الحياة فلولا الرحمة لم تحن الأم على طفلها، لأن الله تبارك وتعالى جعل ذلك الوعاء الذي يتكون فيه الجنين وسماه الرحم واشتقه من الرحمة، فحنان الأم، صورة من الرحمة الإلهية.

يقال أن موسى (عليه السلام) في يوم من الأيام مرّ على امرأة كانت تمسك في حضنها ولداً صغيراً فكان ولدها أسود اللون وسخاً قبيح المنظر ولم تكن ملامحه تبعث الإنسان على الميل إليه ولكن هذه الأم كانت قد أخذت طفلها وتضمه إلى صدرها وتقبله وتغرقه بقبلات حانية والطفل يبكي ويصرخ ولا يرضى أن يسكت والأم تحاول إرضاء الطفل بالقبلات والحنان المتزايد عليه فتعجب موسى ولفت نظره هذا المنظر فقال يا رب: هذا ليس طفلاً جميلاً ووديعاً حتى تحن النفس إليه أو يميل القلب إليه فكيف صارت الأم هذه وبأي دافع تحن على الطفل وتقبله وتعطف عليه وتعامله بهذا الحنان والرأفة، فقال الله لموسى:

يا موسى هل تريد أن تعرف السبب؟ قال نعم يا رب! قال: اصبر هنيئة فوقف موسى لكي يرى هذه الأم ماذا تصنع فما هي إلا لحظات وإذا بالأم تغضب على الطفل غضباً شديداً فتأخذه من حضنها وترميه بعيداً عنها وتقوم وتذهب عنه كأن لم يكن هذا طفلها ولم تكن قبل لحظات تعامله بذلك الحنان والطفل كان يصرخ ويبكي ويستغيث ويستنجد والأم لا تلتفت إليه لكن مرت لحظات على هذه الحالة وإذا بالأم بعد ما سارت خطوات ترجع فجأة وتركض مهرولة باتجاه الطفل وتأتي إليه تحمله وتحضنه بحرارة وتقبله وتمسح دموعه وتعتذر منه وتعامله بكل رافة وحنان، فقال الله يا موسى:

أنا وضعت الرحمة في قلب الأم فتحن عن طفلها ولما نزعت الرحمة من قلبها لحظة واحدة رأيت أنها كيف تركت الطفل وكأنها لا تعرفه.

فالرحمة قانون ثابت وفي سيرة الرسول نجد ملامح من هذه الرحمة كما نجد هناك قيماً وفضائل ومبادئ أخرى فهذه ليست أمور زائلة ولا تتغير ولا تتبدل ولا يغيرها الزمن بل هي سنن إلهية ثابتة.

(وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً)

ونحن من خلال دراستنا لسيرة النبي نريد أن نكتشف هذه القيم والمبادئ وهذه الثوابت حتى تكون درساً لنا ومنهجاً لحياتنا هذه النقطة الأولى.


مدرسة السيرة النبوية:


أما النقطة الثانية: أن نتتلمذ على سيرة النبي أن نطرح الأسئلة التي نشعر بها ونطرح مشاكلنا وحاجاتنا التي نعانيها ففي سيرة النبي دواء لمشاكلنا وفي السيرة النبوية نجد الحلول والمناهج التي تنفعنا في حياتنا العملية يجب أن يكتب كل جيل سيرة النبي من جديد.

وكل مرحلة يمر بها الإنسان والأمة الإسلامية يجب أن تكون هناك محاولة جديدة لدراسة سيرة النبي على ضوء حاجاتنا المرحلية التي تعاني منها أمتنا فنحاول أن نعرض واقعنا على سيرة النبي فهذه الروح روح التتلمذ على سيرة النبي وروح البحث عن حلول لمشاكلنا من خلال سيرة النبي يجب أن نطبق واقعنا على سيرة الرسول بدل أن نجعل سيرة الرسول جزءاً من واقعنا فلا نقر أسيرة الرسول بعقلية منغلقة وبعقلية تبريرية وانهزامية وبروح مستسلمة.

إنما يجب أن نقرأ سيرة الرسول ونقرأ حياة الرسول بروح جديدة وبعقلية متفتحة ونتجرد من واقعنا المتخلف ولو فسرناها حسب عقلياتنا الضيقة لأصبحت هذه الرسالات جزءاً من واقعنا المتخلف وأصبحت هذه الرسالات تغطية وتبريراً لواقعنا الفاسد وليس من الصحيح.


أذن الخلاصة:


نصل إلى طريقتين في دراستنا لسيرة النبي (صلّى الله عليه وآله):

المنهج الأول: أن نحاول التعرف على تلك النقاط الثابتة والقيم والسنن الاجتماعية وقوانين التاريخ وعوامل تغيير المجتمعات ونتعرف من خلال سيرة النبي على تلك القيم التي جسدها النبي وهذا هو الجانب الخالد والثابت لشخصية الرسول ويشكل عوامل خلود النبي وسر استمراره رسولاً وقائداً ومعلماً للحياة إلى يوم القيامة.

والمنهج الثاني: أن نحاول التتملذ على سيرة النبي ونحاول أن نعرض واقعنا ونطابق واقعنا بسيرة النبي ونطابق أنفسنا بما يريده النبي منا حتى نكتشف من سيرة النبي ذلك الدواء والعلاج لما نعانيه من واقع متخلف ومشاكل اجتماعية ومعاناة نفسية وأمراض روحية واجتماعية من هنا يكون الرسول شهيداً وشاهداً على مسيرتنا التي نريد أن نبدأها لإصلاح واقعنا.

(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً).

فنحن نتحمل مسؤولية التغيير ولكن نهتدي بهدى الرسول ومنهج التغيير من سيرة الرسول فكيف بدأ الرسول مسيرته الرسالية وكيف تمكن أن يغيّر ذلك المجتمع الجاهلي الذي بعث فيه، في الدروس القادمة سنتعرف على مناهج أخرى في دراستنا لسيرة النبي.


 

سيرة الرسول وعمليات التحريف

سيرة الرسول وعمليات التحريف


الفاصل الزمني الذي يفصل بيننا وبين عصر الرسول يشكل جداراً سميكاً عبارة عن (1400) سنة بما رافقتها من الظروف المتغيرة أو تطور وسائل الحياة والمستجدات التي طرأت على علمنا حتى اليوم، وبما تحمل هذه القرون في طياتها كثيراً من ظروف الانتكاسة التي مر بها العالم الإسلامي بالذات، فهل يشكل هذا الفاصل الزمني عقبة أمام فهمنا الحقيقي لسيرة الرسول؟ أن سيرة الرسول بصورة خاصة تعرضت لمحاولات الطمس وعمليات التشويه والتحريف.

فهذه الفاصلة الزمنية هل تمنع من تطبيق سيرة الرسول على واقعنا مع أن ظروف الحياة قد تغيرت وتطورت فلم يكن في عصر الرسول وسائل المواصلات على شكلها المتطور في هذا العصر مثل الكهرباء والذرة ولا هذه الاكتشافات العلمية!

بالنسبة إلى النقطة الأولى وهي أن الفاصل الزمني بيننا وبين عصر الرسول يحمل في طياته حجباً كثيفة من محاولات الطمس محاولات الإخفاء على آثار الرسول، ففي حديث عن الرسول (صلّى الله عليه وآله) يبين أن محاولات الإخفاء والتشويه والتحريف بدأت تتجه إلى سيرة الرسول وكلماته والرسول لا زال على قيد الحياة: (لقد كثرت عليّ الوضاعة فمن افترى عليّ حديثاً فليتبوأ مقعده في النار)

هذا في زمن الرسول، والرسول لا زال بين ظهرانيهم فقد كان يحاول البعض أن يفتري على الرسول وفي الأجيال المتعاقبة بعد الجيل الرسالي حيث تزايد محاولات التشويه وتزداد ظروف الابتعاد عن آثار الرسول، ولا سيما قد سيطر على مصير الأمة الإسلامية حزب طالما تآمر ضد الإسلام وكاد عليه الدسائس عندما كان يشعر بالتنافس معه على سيادة الجزيرة العربية، فلما انتصر الإسلام أظهر هذا الحزب الأموي إسلامه علناً ليواصل كيده وتآمره سراً وهذه المرة من مركز الحكم والسيطرة باسم الإسلام أيضاً.

هذا الحزب الأموي منذ بدأ تسلطه على الأمة الإسلامية كان يهدف أن يعيد الرسالة إلى الجاهلية ويحول الخلافة إلى ملكية وراثية والحكم الإسلامي العادل إلى ملك عضوض وأن يعيد أمجاد الجاهلية، لهذا أراد أن يقدم المبررات الشرعية لتصرفاته المنحرفة عن الإسلام فماذا يفعل؟

طبعاً بدأ بإيجاد جهاز إعلامي لتضليل الناس وتحريف الأفكار وتشويه الحقائق حتى سيرة الرسول وكلمات الرسول وآثار الرسول لم تسلم من محاولات التشويه والتحريف من قبل هذا الجهاز الإعلامي.

فهذه العملية عرضت سيرة الرسول المزيد من الطمس والإخفاء فماذا أخفي من آثار رسول الله هو الكثير الكثير وما وصل إلينا منه هو اليسير اليسير.

فكيف نتصرف أمام هذه المشكلة؟ وكيف نتعامل مع هذه الندرة ممّا وصلنا من آثار رسول الله ثم هذا الذي وصلنا فيه كثير من الدس والتشويه والتحريف ولا يؤمن عليه من عمليات الوضع والاختلاف التي فرضتها الظروف السياسية التي مرت على الأمة الإسلامية في عصر الردة الجاهلية في عصر تسلط الأمويين ومحاولاتهم الجادة للقضاء على رسالة وآثار رسول الله.

هذا جانب من المشكلة التي يشكلها الفاصل الزمني بيننا وبين عصر الرسول، الجانب الثاني من هذه المشكلة قلنا تغير الظروف واختلاف ظواهر الحياة والتعقيدات التي تميز حياتنا المعاصرة.

كيف نواجه مشكلة الفاصل الزمني؟

الحقيقة أن هذا الفاصل الزمني لا يعني بشكل من الإشكال أننا نستغني يوماً من الأيام عن سيرة الرسول مهما كان الفاصل الزمني بيننا وبين عصر الرسول فهل يستغني الإنسان عن الشمس يوماً بحجة أن الشمس صار لها زمن طويل وهي تشرق على الأرض أو يستغني عن الطعام والهواء والأوكسجين كذلك لا يمكن أن يستغني عن تلك القيم التي جسدها رسول الله.

هل يستغني الإنسان يوماً عن الخبز بحجة أن الخبز اصبح موضة قديمة كان يمارسها الإنسان منذ أن ولد والى يومنا هذا، إذن مرور الزمن على شيء معين أو تغيّر الظروف لا يعني استغناء الإنسان عن ذلك الشيء كذلك لا نستغني عن تلك القيم مهما تغيرت الظروف أو ظواهر الحياة وتطورت أساليب العصر الحاضر لأن الرسول رسم لنا طريق ومنهجاً ورسالة شاملة لكل العصور ولكل الأجيال.

(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)

(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَ كَافَّةً لِلنَّاسِ)

وهناك رواية عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ينقلها أحد أحفاده وهو الإمام الباقر (عليه السلام) قال جدي رسول الله:

(أيها الناس حلالي حلال إلى يوم القيامة، وحرامي حرام إلى يوم القيامة، إلا وقد بينها الله في الكتاب وبينتها لكم في سيرتي وبينها شبهات الشيطان، وبدع تكون بعدي من تركها صلح له أمر دينه ومن تلبس بها وقع فيها ومن تلبس بها واتبعها كان كمن رعى غنمه قرب الحمى ومن رعى ماشيته قرب الحمى نازعته نفسه إلى أن يرعاها في الحمى إلا وأن لكل ملك حمى وأن حمى الله عز وجل محارمة فتوقوا حمى الله ومحارمه).

فإذن، رسالة الرسول خالدة لكل العصور ولكل الأجيال وسلوكه وسيرته منهج لكل الإنسانية ولا زالت الشعوب بحاجة إلى أن تستلهم من سيرة رسول الله ذلك المنهج الذي ينير طريقها وينير درب جهادها ضد الطغاة، ونتمكن هنا أن نذكر مثالين للقيم التي جسدها رسول الله بسيرته، وتشكل هذه القيم تلك الثوابت والمبادئ، التي تصلح منهجاً لكل جيل وعصر.

كيف ننقل سيرة الرسول إلى هذا العصر؟

كيف نتصرف رسول الله لو كان يأتي إلى الحياة في عصرنا؟

كيف كان يتصور ويعمل وأين كان يذهب؟

هل كان يذهب إلى قصور الطغاة، هل كان يذهب إلى أبواب السلاطين والحكام، هل كان يقف على أعتاب الطواغيت ويطلب منهم الشرعية ويقدم لهم مراسيم التملق كما يفعل وعاظ السلاطين في هذا الزمان حيث يذهبون إلى قصور السلاطين يتسكعون على أعتاب الطغاة ويقدمون لهم آداب الاحترام والتملق ويضفون على حكمهم وجرائمهم صبغة الشرعية، رسول الله واجه أمثال هؤلاء الطغاة واجه طغاة الروم وطغاة الفرس كان يواجه الملوك والحكام ويبعث الرسائل إلى هرقل ملك الروم وكسرى ملك الفرس والمقوقس ملك مصر ويدعوهم إلى الإسلام ويدعوهم إلى احقاق العدالة والحرية.

2ـ نجري مقارنة بين طريقة حياة النبي وسلوكه كقائد أمة ورئيس دولة وبين حياة البذخ والترف والفساد الذي يعيشه الملوك والأباطرة والأكاسرة والقياصرة في عصر النبي، فحياة النبي أعظم درس وأبلغ موعظة لحكام هذا العصر والترف والبذخ والإفراط في المراسيم والتشريفات التي يعيشها كل حاكم ورئيس وملك إلى جانب الفقر والحرمان والطبقية المقيتة التي تعانيها الشعوب والناس المحرومين وهذه قيمة خالدة أيضاً نستفيدها من سيرة النبي ومهما تغيرت الظروف والمظاهر، إلا أن هذه القيمة يجب أن تحكم الحياة ويتخذها الحكام والمسؤولون منهجاً لسلوكهم ومراسيمهم ويقتدوا بسيرة الرسول الأعظم.

(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ)

أولاً: لننقل لكم صورة عن حياة هذا الإنسان ثم ننقل صورة عن حياة القياصرة ولأكاسرة وملوك الشرق والغرب الذين كانوا في عصر الرسول، لنجري مقارنة بين حياة الرسول وبين حياة أولئك، لنستخرج من هذه المقارنة قيمة مقدسة ومنهجاً نقدمه إلى حكام هذا العصر ليكون سلوك رسول الله مشعلاً ومنهجاً لمن أراد أن يسير ويقتدي بسلوك رسول الله ولكي يكون سلوك رسول الله سيفاً وسلاحاً بأيدي المستضعفين لتحدي المستكبرين لنقرا الصورة الأولى: عن أبي هريرة قال:

(ما شبع رسول الله ثلاث أيام تباعاً من خبز حنطة حتى فارق الدنيا)

وقال: (ما اجتمع عند رسول الله إدامان إلا أكل أحدهما وتصدق بالآخر، ما كان يجتمع لرسول الله لوناً لقمة في فمه، إن كان لحماً لم يكن خبزاً وإن كان خبزاً لم يكن لحماً، هذا أكل رسول الله).

وعن انس بن مالك قال: جاءت فاطمة عليها السلام بكسرة خبز لرسول الله، فقال ما هذه الكسرة، قالت قرص خبزته ولم تطب نفسي حتى أتيتك بهذه الكسرة فقال: (أما أنه أوّل طعام دخل فم أبيك منذ ثلاث أيام) ثم قال رسول الله: (إن أهل الجوع في الدنيا هم أهل الشبع في الآخرة، وإن أبغض الناس إلى الله المتخمون الملئى، وما ترك المرء أكلاً يشتهيها إلا كانت له درجة في الجنة، فسلوك رسول الله كان درساً لنا كان منهجاً لنا كيف أن الإنسان يريّض نفسه على عدم الشبع وعلى عدم التعلق بملذات الحياة حتى لا تتحول الحياة إلى هدف عند الإنسان.

في رواية أخرى أخرج أحمد بإسناد صحيح عن ابن عباس قال حدثني عمر بن الخطاب قال: دخلت على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو على حصير قال: فجلست وإذا عليه ازار وليس عليه غيره وإذا الحصير قد اثر في جنبيه ـ يعني انطبعت صورة الحصيرة على جسد الرسول ـ وإذا أنا بقبضة من شعير نحو صاع وقرص في جانب الغرفة ـ يعني هذا أثاث رسول الله ـ وإذا أهاب معلق ـ جلد كبش معلق ـ هذا كان الأثاث الذي كان يوجد في بيت الرسول، وهو رسول الله وسيد المرسلين وقائد أمة ورئيس دولة ومجتمع، فابتدرت عيناي فقال رسول الله ما يبكيك يا بن الخطاب، فقال يا نبي الله وما لي لا أبكي وهذا الحصير قد أثر في جنبك وهذه خزانتك لا أرى فيها ما أرى وذاك كسرى وقيصر في الثمار والأنهار وأنت نبي الله وصفوته وهذه خزانتك وهذا أثاث بيتك قال يا بن خطاب: (أما ترضى أن تكون لنا الآخرة وتكون لهم الدنيا)

هذه الصورة، والصورة الثانية التي نقلها لنا المؤرخون عن طريقة البذخ والترف التي كان يتبعها ملوك ذلك العصر وطواغيت الروم والفرس يقول المؤرخ الأوروبي (درايد): لما بلغت الدولة الرومية من القوة الجريئة والنفوذ السياسي أوجها ووصلت بالحضارة إلى أقصى الدرجات وهبطت في فساد الأخلاق وفي الانحطاط في الدين والتهذيب إلى اسفل الدركات بطر الرومان وفي معيشتهم وأخلدوا إلى الأرض واستهتروا استهتاراً وكان مبدئهم، إن الحياة إنما هي فرصة للتمتع ينتقل فيها الإنسان من نعيم إلى ترف ومن لهو إلى لذة وكانت موائدهم تزهو بأواني الذهب والفضة مرصعة بالجواهر يحتف بها خدام في ملابس جميلة خلابة وغادات رومية حسناء ويزيد من نعيمهم حمامات باذخة وميادين للهو واسعة ومصارع يتصارع فيها الأبطال مع الأبطال أو مع السباع وما يزالون يتصارعون حتى يخر الواحد منهم صريعاً وقد أدرك هؤلاء الذين دوخوا العالم إن كان هناك شيء يستحق العبادة فهو القوة والمنعة.

أما الفرس فقد كان الأكاسرة ملوك فارس ينظرون إليهم كآلهة وفوق القانون وفوق البشر وقد استحوذت على الناس في الإمبراطورية الفارسية حياة البذخ والترف وكان لكسرى برويز (212 ألف امرأة وخمسين ألف جواد)، هذه الصورة التي ينقلها لنا التاريخ عن حياة البذخ والترف والإسراف التي كان عليها ملوك ذلك العصر وطواغيت الشرق والغرب في كل مكان.

يجب أن نعرض سيرة رسول الله بطريقة تكون مشعلاً ونبراساً ينير طريق أجيالنا الصاعدة وتتخذ منها شعوبنا سلاحاً فعالاً لشهره بوجه الطغاة والحكام الذين يتجبرون ويتغطرسون ويتخذون عبادة الله خولاً ومال الله دولاً، وهم يدعون زيفاً ونفاقاً بأنهم مسلمون والإسلام منهم براء.

فلا زالت سيرة رسول الله حية والقيم التي جسدها في سلوكه نحتاج إليها اليوم اكثر من أي وقت مضى.


شخصية الرسول وأبعادها الإنسانية

شخصية الرسول وأبعادها الإنسانية


• الرسول الإنسان:

قال الله العظيم في محكم كتابه المبين:

بسم الله الرحمن الرحيم

(قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُواْ لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً).

إن شخصية الإنسان تبدأ بالتكون منذ الولادة بل تتحكم فيه عوامل الوراثة كما هو واضح، إلا أن عامل التربية يبقى عاملاً قوياً في تكوين شخصية الإنسان وبالنسبة إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) نجد أن القرآن الكريم أشار إلى عامل الوراثة والى أن شخصية النبي إنما هي خلاصة لشخصيات آبائه وأجداده من الرسل كإبراهيم وإسماعيل ومن حمل في صلبه نطفة هذا الكائن.

(الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ).

وجاء في تفسير هذه الآية (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) أي انتقالك في أصلاب الآباء الساجدين الموحدين لله تبارك وتعالى، وفي الأحاديث توجد إشارة إلى أهمية العامل الوراثي باعتبار أن نطفة الجنين تتكون أوّل ما تتكون من جينات وراثية (كروموسومات).

هذه الجينات تحمل كل الصفات الجسدية والروحية التي يتأثر بها الإنسان من آبائه وأجداده.

(اختاروا لنطفكم فإن العرق دساس) كما في الحديث.

إذن لا ينكر العامل الوراثي في تكوين شخصية الإنسان إلا انه يبقى عاملاً مساعداً ويأتي عامل التربية ليكمل دور العامل الوراثي ونحن نريد أن نخصص حديثنا عن الشخصية الاجتماعية لرسول الله، هذا الجانب الذي يبدأ من الساعات الأولى لولادة الإنسان ومنذ اللحظات الأولى التي تبصر عينه نور الحياة فتبدأ شخصية الإنسان بالنمو وتصاغ حسب الأجواء المحيطة به، أجواء الأسرة والبيئة والمجتمع.

إن دوائر التأثير في شخصية الإنسان عبارة عن الأسرة والعائلة والبيت الذي ينشأ فيه الإنسان وكذلك البيئة والمحيط الاجتماعي والإنسان تتقولب شخصيته ضمن قوالب معينة وضيقة مثل قالب البيئة والأسرة والمحيط الاجتماعي بينما المطلوب في إنسان كالرسول أن لا تتقولب شخصيته ضمن هذه القوالب المتعارفة.

والسؤال الآن، كيف تكونت شخصية رسول الله وما هو مصدر فكره؟

هل تكونت شخصية رسول الله مثلما تتكون شخصية أي إنسان، صحيح أن الرسول بشر ولكنه بشر متميز فليس الرسول كائناً فوق البشر أو من غير عنصر البشر إنما هو من عنصر البشر ولكنه بشر متفوق.

مثال: الزجاج أصله ومعدنه من الرمل ومن مواد رملية والزجاج أنواع هناك زجاج للشباك وهناك زجاج عدسات التصوير وهناك زجاج العدسات المكبرة وهناك زجاج عدسات التلسكوب والمجاهر العلمية وكل هذا الزجاج وكله من معدن واحد ولكن هناك فرق بين زجاج الشبابيك وبين عدسات التكبير لأنه كلما كانت شفافية الزجاج أكثر وكلما كان تركيز الزجاج وتقعيره أكثر تكون قيمته أغلى وفائدته اكثر.

كذلك شخصية الإنسان فالناس كلهم من اصل واحد ولكن اصل الإنسان وجوهره هو عقله وروحه فكلما كانت روح الإنسان شفافة أكثر كلما كان سموه وقدرته اكثر على تلقي المعنويات والكمالات النفسية والروحية فالنبي يمتلك روحاً شفافة ساعدته على تلقي تلك المعنويات السلوكية،وهي التي ساعدته على أن يرتبط بالسماء ويختاره الله لتبليغ رسالته لهذا نلاحظ بأن:

الرسول ومن أول لحظة ولادته أبعد عن دوائر التأثير الطبيعية.

أولاً: نجد أن الرسول ولد يتيماً فلماذا؟

فنشأ بعيداً عن الأبوين وذلك من أجل أن تبقى هذه الشخصية بعيدة عن دوائر التأثير الطبيعية التي تؤثر في صياغة شخصيته أو تتدخل في تكوين أفكاره، فنجد أنه (صلّى الله عليه وآله)، ولد يتيم الأب فلما كان جنيناً في بطن أمه وقبل أن يولد توفى أبوه عبد الله فأبصر الحياة وهو يتيم الأب.

وفي السنة السادسة من عمره تموت أمه آمنة وهو بعد لم يعش في حضن الأم ولم تلمسه يداها بالرعاية والعطف.


• إعداد السماء للرسول

ثانياً: يقول الرسول: (أدبني ربي فأحسن تأديبي)

والأنبياء عموماً تصاغ شخصياتهم الرسالية صياغة خاصة كما يقول الله بالنسبة إلى موسى (عليه السلام): (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) و(وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي)

فالملاحظ أن أغلب الأنبياء يولدون في ظروف غير طبيعية، إبراهيم ولد في ظروف الإرهاب، موسى ولد في عصر فرعون وفي أجواء يسودها التكتم والحذر من ملاحقة السلطة الفرعونية وعيسى ولد في ظروف غير طبيعية.

والسبب أن الأنبياء مطلوب منهم أن يخرجوا مستقبلاً على نظام المجتمع الجاهلي، فلابد أن ينشأوا بعيداً عن الأجواء الجاهلية الموجودة، لأنهم يعدون ـ بإرادة الله ـ للثورة على الأوضاع الاجتماعية الفاسدة.

فلا يصح أن تتأثر شخصيتهم بأي قالب من القوالب السائدة في المجتمع الجاهلي، بل يترك لهم مجال النمو والتكوين في أجواء تتوفر فيها العناية الربانية وتصنعهم اليد الإلهية.

كما نقرأ هذه الصورة من صور السيرة النبوية..

كانت عادة الأشراف في مكة بأن يرسلوا أولادهم إلى البادية ليتربوا وينشأوا في الجو الطلق والمناخ الصحو في البادية ولم تكن من عادتهم أن يبقوا أولادهم في المدينة لكي لا تتلوث نفسية الطفل بأجواء المدينة ولكي يتعلم في البادية على الروح المنطلقة ويتعلم نطق الكلمات فكان الأشراف في مكة يقدمون أولادهم الرضع إلى المرضعات اللاتي يقصدن مكة في السنين العجاف وكانت تلك السنة التي ولد فيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) سنة قاسية على قبيلة بني سعد، القبيلة التي نشأ فيها النبي فكانت النسوة اللاتي قدمن من قبيلة بني سعد مع غيرهن يلتمسن الأطفال طمعاً في بر الآباء وأموالهم وأوشكت القافلة أن ترجع بالنسوة ومع كل واحد رضيع وكانت حليمة بنت أبي زئيب السعدية قد رأته أولاً ورفضته كغيرهن من المرضعات ولكنها لم تجد طفلاً آخر غيره لأن أمهات الأطفال كلهن يعرض عنها لضعفها وهزالها، فكانت حالة حليمة السعدية لا تغري أمهات وآباء الرضع بتسليم أولادهم إليها وفيما هي خارجة عن مكة عز عليها أن ترجع ولا شيء معها فقالت لزوجها إني لأكره من بين صواحبي أن أعود ولم أخذ معي أحداً لأرجعن إلى ذلك اليتيم ورجح لها زوجها ذلك.

فرجعت إليه واحتضنته (وروى الرواة عن حليمة السعدية أنها قالت: (قدمنا منازل بني سعد ومعي يتيم عبد المطلب ولا أعلم أرضاً من ارض الله أجدب من أرضنا فكانت غنمي تعود حيث حل محمد فينا شباعاً فنحلب منها ونشرب ويتدفق الخير علينا واصبح جميع من في الحي يتمنى ذلك اليتيم الذي يسر لنا الله ببركته الخير ودفع عنا الفقر والبلاء، وكانت حليمة ترعاه هي وزوجها وتقدمه على أولادها إلى أن بلغ سنتين من عمره فرجعت به إلى أمه وجده كما هي في باقي المرضعات ولكن على كره منها أي تعلق قلبها بهذا الطفل تعلقاً شديداً وأحب جده عبد المطلب أن يبقى معها خوفاً عليه من الأمراض التي كانت تتعرض لها مكة بسبب الوفود التي تلتقي فيها من جميع أنحاء شبه الجزيرة ولا سيما وقد رأى عبد المطلب من عطف حليمة عليه ولهفتها على بقائه معها ما لم يره من أم على طفلها الوحيد واستجابت آمنة لرغبتها فرجعت حليمة به إلى بيتها وهي تحس بالسرور والغبطة. وجاء عن حليمة أنها قالت: (لقد قدمنا مكة على عامنا بعد أن تم لمحمد عامان ونحن نحرص على مثله فينا لما نرى من بركته، فكلمنا أمه وقلنا لها لو تركتيه معنا حتى يبلغ ويشتد ولو هذه السنة فإنا نخشى عليه وباء مكة ولم نزل بها حتى ردته معنا، وأضافت حليمة إلى ذلك انه لما ترعرع كان يخرج فينظر إلى الصبيان يلعبون وقال لي يوماً: (أماه ما لي لا أرى اخوتي في النهار فأين يذهبون) وكان اخوته من الرضاعة عبد الله وآنسة وشيماء، فقالت: (فدتك نفسي إنهم يرعون غنماً لنا فيروحون من الليل إلى الليل فقال لي: (ابعثيني معهم) فأرسلته معهم فكان يخرج مسروراً ويعود مسروراً وظل فترة من الوقت على هذه الحال.


• منعطفات في حياة النبي

ولما بلغ رسول الله السنة الثالثة من عمره ذهبت به آمنة إلى يثرب ليزور أخواله بني عدي بني النجار وصحبته في هذه الرحلة، حاضنته أم أيمن وهي بركة الحبشية جارية أبيه التي خلفها له مع ما خلفه من ميراث قليل، وفي هذه الرحلة رأى محمد قبر أبيه ولعله هذه أول مرة أحس فيها بلدغة الحزن في فؤاده ولعلها كذلك أول مرة عرف بها معنى اليتم، ثم رجعت به أمه إلى مكة فلما قطعت به من الطريق نحو مرحلة فاجأها الموت عند قرية الأبواء فدفنت هنالك ورجع محمد وحيداً تمتلئ عيناه بالدمع ويمتلئ قلبه بالأسى.

ثم نأتي إلى المرحلة الثانية، مرحلة الرعاية والكفالة، هذه المرحلة التي ترعرع فيها رسول الله في كفالة جده عبد المطلب في هذه المرحلة نجد أن حياة الرسول تتسم بملامح خاصة فكان عبد المطلب سيد قريش وكانت لقريش تقاليد خاصة وعادات تعارفوا عليها كابراً عن كابر فكانوا يربون أولادهم وصبيانهم على عادات معينة وكانت مجالس الآباء خالصة للكبار ويبعد عنها الصغار ولا يسمح لهم أن يشاركوا الآباء والكبار في مجالسهم وندواتهم حتى يربوا الطفل على آداب الاحترام والحشمة، فلما يبلغ لطفل مبلغ الرجال يسمح له أن يرافق أباه إلى مجالس الكبار وأندية الشخصيات البارزة في المجتمع ويجب أن يلتزم هذا الشاب مع أبيه ومع وجود الكبار في المجالس بآداب خاصة ولا يتجاوز حدوده الطبيعية (كان هذا عرفاً سائداً في قريش وفي مكة والجزيرة العربية) لكن بالنسبة إلى رسول الله أتيح له جو آخر فكان يعطف عليه جده عبد المطلب عطفاً كثيراً لأنه كان محروماً من الأب، وربما كان دافع عبد المطلب في احترام هذا الطفل هو دافع العاطفة والإحساس بيتم محمد (صلّى الله عليه وآله) والعطف عليه لكي لا يشعر بالفراغ العاطفي والحاجة إلى عاطفة الأبوة في نفسه، ولكن الله يريد شيئاً آخر يريد أن يتيح لهذا الطفل أجواء خاصة ليختلط مع الكبار وينفتح فيها على أندية الرجال ويأخذ ويعطي ويتربى تربية الرجال الكبار وكان من عادة عبد المطلب أن يتخذ له مجلساً في فناء الكعبة يتحدث فيه إلى رجال قريش ويتحدثون إليه فكان يوقد له سراج في ظل الكعبة وكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه ولا يجلس على فراشه أحد إجلالاً لأنه كان سيد قريش إلا رسول الله فإنه كان يأتي وهو غلام حتى يجلس على فراش جده فيأتي إليه أعمامه ليؤخروه ويبعدوه فيمنعهم عبد المطلب فيقول دعوا ابني ثم يجلسه معه على فراشه ويمسح ظهره بيده ويسره ما يراه يفعل فكان عبد المطلب يعامل هذا الغلام معاملة خاصة خارجة عن المتعارف وكان يقربه ويدخله عليه إذا خلا بنفسه وإذا قام وكان لا يأكل طعاماً إلا قال، عليّ بابني فيؤتى به إليه.

ثم إن الإنسان كما هو واضح مثل معدن الذهب والفضة والبترول يملك من المواهب والطاقات الهائلة ما يحتاج إلى كشف وإخراج وتنمية، فالبترول معدن مدفون تحت طبقات سميكة من الأرض وبحاجة إلى من يأتي ويكتشف ويستخرج البترول ويصفيه ويصنعه ويحوله إلى أداة للحياة والتقدم.

وهكذا هو جوهر الإنسان ومعدنه وطاقاته ومواهبه النفسية والعقلية.

فتتدخل ظروف التربية في المجتمع وعوامل النمو الطبيعية والأحداث والمراحل التي يمر بها الإنسان في إبراز شخصيته وتنمية مواهبه.

حتى الأحداث القاسية من الفقر والحرمان والنكبات التي تصدم الإنسان في تفجير أحاسيس التحدي والمقاومة وتقوي روح الصمود والإصرار في نفسه. كما في الحديث: (عند تقلب الأحوال تعرف حقائق الرجال)

فالأحداث الذي مرّ بها الرسول في أيام صباه وشبابه وقبل بعثته الشريفة ساعدت على إبراز شخصية الرسول الاجتماعية فكان يتفاعل مع الأحداث الاجتماعية، وذلك لما بلغ سن الشباب.

مثلاً سفره إلى الشام وانفتاحه على العالم الخارجي وتعامله التجاري في أموال خديجة ـ ثم زواجه منها ـ وكذلك مساهمته في مشاريع اجتماعية، مثل حلف الفضول ومشاركته في بناء الكعبة ومبادرته بحل ذلك النزاع الذي حدث بين قبائل العرب عندما أرادوا وضع الحجر الأسود في موضعه.

ثم اشتهاره بين الناس بالصادق الأمين حتى أصبح هذا اللقب ملازماً لشخصية الرسول وتأمله في غار حراء واعتزاله الناس وابتعاده عن مكة وأجوائها الصاخبة وانقطاعه عن التأمل والتحنث في غار حراء على جبل النور في مكة المكرمة.

هذه الأحداث والمنعطفات في حياة النبي الأولى ـ قبل البعثة ـ كلها كانت تدفع شخصية النبي للبروز وتدل على شخصية خارقة، هذا الإنسان يكتب له أن يؤدي دوراً عظيماً جداً في المستقبل.


التوحيد محور السيرة النبوية

التوحيد محور السيرة النبوية


(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ)

رسول الله (صلّى الله عليه وآله) معلم التوحيد، التوحيد هو: الخط البياني للسيرة النبوية، والخلفية التي كانت وراء ك خطوة من خطوات الرسول، وكل حركة وسكنة، وكل لمحة أو لفتة هو: التوحيد، بل أن التوحيد هي النقطة المركزية في هذا الكون، والنواة الأولى التي يقوم عليها نظام الحياة، فكل ذرة من ذرات الكون تحكي عن نظام التوحيد.

من الذرة التي هي اصغر جزيء في هذا الكون إلى المجرة يحكمها نظام واحد فالنظام الذي تقوم عليه الذرة هو نفس النظام الذي تقوم عليه المجرة لأن المنظم واحد والخالق المبدع واحد.

أم كيــــف يجـــحده الجاحد

 كـــل تســـــكينة شــــــاهد

تـــدل علـــى انــــه واحـــد
 

 

فواعجبا كيف يعصي الإله

ولله فــي كل تحريكة وفي

وفي كــــل شـــيء له آية

إذن التوحيد هي الروح التي تسري في جسد هذا الكون، كما أن التشريعات السماوية ورسالات الأنبياء تأتي مطابقة للنظام التكويني وهدفها تجسيد نظام التوحيد في الحياة المعلية والحياة الاجتماعية للإنسان لكي تكون حياة الإنسان موافقة لمسيرة الكون وسير الإنسان في هذا التيار العام الذي تسير فيه كل كائنات الطبيعة.

وفي السيرة النبوية نجد لمسات التوحيد واضحة على كل جانب من جوانبها فأولاً: هذا النجاح الباهر الذي حققه رسول الله في دعوته دليل واضح على ذلك التوفيق الإلهي والإرادة السماوية التي كانت تدفع بهذه المسيرة نحو النجاح فالحركة التي فجرها رسول الله كانت حركة سياسية اجتماعية قائمة على أساس عقائدي رصين، هذا ما أدركه أعداء الرسالة، متمثلاً في الموقف العنيد الذي وقفوه من الرسالة والرسول، وثاني: إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وصموده وإصراره وتفانيه في سبيل الرسالة كان أيضاً دليلاً على انه ينطلق من منطلق مبدئي عقائدي ولم يكن الاختلاف بين رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وطغاة قريش اختلافاً شكلياً على ترك الأصنام أو نبذ الأوثان ولو كانت المسألة تنتهي عند هذا الحد لكانت المسألة تنتهي عند هذا الحد لكانت المسألة بسيطة لكن من ناحية هذا الإصرار والعناد الذي اتخذه الجاهلون وعتاة قريش إلى درجة إعلان الحرب المسلحة وتجنيد كل الطاقات والقوى لإفناء الرسالة ومن ناحية أخرى نلاحظ الصمود الرسالي الذي تجسد في حياة رسول الله في سلوك المسلمين الأوائل من أصحاب رسول الله كان دليلاً على تلك الخلفية العقائدية والمنطلق التوحيدي الذي كان ينطلق منه الرسول وأصحابه.

فنقرأ صوراً من هذه المواقف التي حدثت بين أعداء الرسالة ممّا يؤكد أن الطرفين كانا يدركان أهمية القضية وجديتها وحجمها المستقبلي.

روي ابن إسحاق لمّا مشوا إلى أبي طالب وكلموه وهم أشراف قومه عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف وأبو سفيان بن حرب وفي رجال من أشرافهم جاءوا إلى أبي طالب وقالوا: (يا أبا طالب إنك منا حيث قد علمت وقد حضرك ما ترى وتخوفنا عليك وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك فخذ لنا منه وخذ له منا ـ يعني أنقل له وجهة نظرنا وأنقل لنا وجهة نظره ـ ليكف عنّا ولنكف عنه وليدعنا وديننا ولندعه ودينه).

فبعث إليه أبو طالب فجاءه فقال: يا ابن أخي هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليعطوك وليأخذوا منك فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (كلمة واحدة تعطونها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم)

فقال أبو جهل: نعم وأبيك وعشر كلمات قال: تقولون (لا إله إلا الله) وتخلعون ما تعبدون من دونه، فصفقوا بأيديهم وأما هذه الكلمة فلا، لأنهم يدركون مغزى هذه الكلمة وأن هذه الكلمة لا تنتهي عند مجرد تردادها بل إنها تتطلب منهم أن يتنازلوا عن مصالحهم الشخصية وعن أفكارهم الجاهلية ويتنازلون عن ظلمهم واستغلالهم للمستضعفين وبالتالي يخضعوا لنظام اجتماعي جديد ولما لم ينفع الحوار مع النبي ولم يؤد إلى نتيجة توسلوا بطريقة أخرى وهي طريقة الإغراء وعرض الإغراءات السخية على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لاستدرجوه إلى مواقفهم ويثنوا عن طريقته ودعوته.

جاء عتبة بن ربيعة يوماً إلى رسول الله يعرض عليه العروض السخية ويعرض عليه الملك إليه مستعلياً بإيمانه معتزاً بإسلامه:

(ما جئتكم لما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم والملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولاً وأنزل كتاباً وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوا عليه أصبر لأمر الله حتى يحكم بيني وبينكم).

ولما فشلت سياسة الإغراء ووسائل التطميع ولم تؤثر العروض والمغريات على رسول الله.

فجاءوا هذه المرة وأرادوا أن يتفقوا مع رسول الله على حل وسط حتى يرضوه ويخففوا من مواقفه الرسالية المتشددة تجاههم: (فاقترحت قريش على النبي أن يعبد آلهتهم شهراً ليعبدوا الله شهراً آخر فنزل القرآن الكريم بذلك الموقف الحاسم الذي لا يقبل الحلول الوسط ولا يقبل المهادنة مع أعداء الله أو المساومة معهم على أنصاف الحلول، بل جاء القرآن بموقف رسالي حاسم في سورة (الجحد) أو (الكافرون).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)

فحاولوا بشتى الطرق الممكنة ليثنوا النبي عن دعوته ورسالته.

وهذه المرة حاولوا عن طريق التهديد والتعذيب والتنكيل لأصحابه المؤمنين، فأوعزت دار الندوة إلى كل قبيلة من القبائل لتوعز إلى أفرادها بأن ينظروا إلى كل من يصبوا إلى دين محمد (صلّى الله عليه وآله) فيأخذوه ويسلموه إلى قبيلته لتعاقبه وتحبسه وتمنعه من التوجه إلى الدين الجديد وبدأت حملات الاعتقال والمطاردة لتبتلع الشباب المؤمن من أبناء القبائل وبدأ المستضعفون من صحابة رسول الله يتعرضون لأقسى ألوان التعذيب والتنكيل من قبل عتاة قريش (بلال، وعمار بن ياسر ووالده ياسر، وسميّة، وصهيب، وبقية المستضعفين من أصحاب الرسول) فكانوا يلهبون صدورهم بالسياط ويلقون بأجسادهم العارية على تلك الصحراء الملتهبة بحرارة الشمس فما كانوا يزدادون إلا إصراراً وصموداً وثباتاً على عقيدة التوحيد وكان بلال ـ وهو يتضور ألماً تحت سياط التعذيب ـ يردد كلمة: أحد، أحد، أحد.

فهذه عقيدة التوحيد والتي تجسدت في هذا الصمود الرسالي في سلوك النبي وفي سلوك أصحابه الكرام، كما أن أعداء الرسالة من الكافرين والمستكبرين الذين تضررت مصالحهم من دعوة النبي كانوا يدركون تلك الخلفية التي تعنيها كلمة التوحيد.

جاء في كتب السيرة أن النبي قصد قبائل العرب في منازلهم وتوجه إلى كل فرع، من فروعهم يدعوهم إلى عقيدة التوحيد فذهب إلى بني عبد الله فرع من قبيلة كليب وقال يا بني عبد الله إن الله قد أحسن اسم أبيكم وقد اخترتكم على من سواكم ثم عرض عليهم الإسلام فلم يقبلوا منه، كما اتجه إلى مجموعة القبائل التي كانت تأتي إلى الحج في أيام الموسم فكان النبي يستغل الموسم لعرض دعوته على القبائل العربية فذهب إلى حجاج بني عامر وبني صعصعة وعرض عليهم الإسلام ومناصرته فقال رجل منه يدعى بصيرة بن عبد الله بن سليمة: (والله إنني لو أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب ـ يعني إن لهذا الرجل مستقبلاً عظيماً فإذا أتحالف معه الآن يفيدني في المستقبل لأنه سوف يكون له شأن عظيم ـ ثم جاء إلى النبي لكي يساومه فقال له: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون الأمر لنا من بعدك؟

فقال له النبي: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء فقال له:

أفتستهدف نحورنا للعرب دونك فإذا ظهرك الله كان الأمر لغيرنا لا حاجة لنا فيك.

فهذا النوع من الناس كان يريد أن يحصل من دخوله في الإسلام على مصلحة شخصية أو مكسب سياسي لكن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان منطلقه هو التوحيد لله فماذا يعني التوحيد؟

في الحديث الشريف: (الإيمان اعتقاد بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان).

إن فكرة التوحيد ليست مجرد نظرية باردة ترقد في الذهن أو فكرة تعيش في الفراغ بل أن عقيدة التوحيد يجب أن تتحول إلى سلوك عملي وولاء للقيادة الإسلامية وتسليم لنظام السماء وعلى الإنسان أن يوحد الله في كل مجال من مجالات الحياة في علاقته الاجتماعية في نظامه الاقتصادي ومنهاجه التربوي في حكومته وفي كل لشأن من شؤون حياته الفردية والاجتماعية إنما يخضع لله ولقانون الله.

يوم العقبة حيث تم اللقاء بين الرسول وبين أهل المدينة وعرض عليهم النبي دعوته وطلب منهم مناصرته وأخبرهم بهجرته إليهم في المستقبل كان من أمرهم هذا الحوار الذي جرى بين مجموعة من الأنصار ـ أي أهل المدينة ـ:

قام العباس بن عابدة وقال: (يا معشر الخزرج هل تدرون على ما تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم.

قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس فإن كنتم ترون أنكم إذا أنهكت أموالكم وأشرافكم قتلاً أسلمتموه فمن الآن والله أن فعلتم خزي الدنيا والآخرة وإن كنتم ترون أنكم وافون بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه فهو خير الدنيا والآخرة).

وأخرج احمد من حديث العقبة في السنة الثانية قلنا ـ أي الأنصار ـ للنبي: يا رسول الله علام نبايعك. قال: (تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل والنفقة في العسر واليسر وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن تقولوا في الله ولا تخافوا في الله لومة لائم وعلى أن تنصروني فتمنعوني ممّا تمنعون به أنفسكم وأزواجكم وأبنائكم ولكم الجنة).

فقمنا إليه وأخذ بيده اسعد بن زرارة وهو من أصغرهم وقال: رويداً يا أهل يثرب فإنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم إنه رسول الله وإن إخراجه اليوم مناوئة للعرب كافة تقتل خياركم وتعضكم السيوف فأما أنتم قوم تصبرون على ذلك فخذوه وأجركم على الله وأما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه فبينوا ذلك فهو أعذر لكم عند الله قالوا: أمط عنا يا سعد فوالله لا ندع هذه البيعة ولا نسلبها أبداً.

إن عقيدة التوحيد تغير حياتك جذرياً وتقيم علاقاتك الاجتماعية على أساس التوحيد وتضرب علاقات السابقة وارتباطاتك العائلية والقبلية ولا يقيم الإسلام لها وزناً إذا تعارضت مع مسيرة العقيدة.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ).

يقول الإمام علي (عليه السلام): (كنا على عهد رسول نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا ما يزيدنا ذلك إلا إيماناً وتسليماً ومضياً على اللقم وصبراً على مضض الألم وجداً في جهاد العدو).

وجاء رجل إلى رسول الله فمد رسول الله يده ومد الرجل يده ليبايع، فقال الرجل: علام أبايعك؟ قال تبايعني على أن تقتل أباك فبايع رسول الله.


التوحيد نظام اجتماعي:


فالإسلام يبني العلاقات الاجتماعية على أساس التوحيد، وأن التفاضل بين أفراد المجتمع الإسلامي يكون بمقياس التقوى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)، (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى).

فيضرب الإسلام كل ألوان التمايز الطبقي أو التفاضل بمقياس المال والنسب والدم والتراب والارتباطات القبلية والمحسوبيات العائلية فهذه كلها قيم جاهلية ومقاييس مادية زائلة ليس لها قدسية.

بل في الإسلام قيمة واحدة تستحق التقديس وهي قيمة التوحيد والتقوى.

نظر أبو سفيان يوماً إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) جالساً وأتباعه قد شكلوا من حوله، فرأى فيهم بلال الحبشي وصهيب الرومي وأبو بكر القرشي وعلى الهاشمي وسلمان الفارسي فتعجب من هذا الخليط وتعجب من هذا الذوبان في بوتقة التوحيد التي تمكنت من أن تذوب الفوارق القبلية والعرقية والعنصرية وجعلت من هذه العناصر والانتماءات المتضاربة عرقياً وطبقياً كتلة واحدة.

وبعد اثر من آثار التوحيد وهو نسف العلاقات، الاجتماعية القائمة على أساس التمييز الطبقي والعرقي واللوني وبناء وحدة إيمانية متراصة تذوب فيها كل الفوارق والحواجز ويكون الناس سواسية كأسنان المشط.

إن سيرة الرسول (صلّى الله عليه وآله) تجسد مفهوم التوحيد في جوانبه الاجتماعية، توحيد الله في العلاقات، توحيد في النظام الاجتماعي ونظام الحكم والإدارة.


التوحيد في القانون:


سرقت امرأة من بني مخزوم وهي قبيلة من قبائل العرب المعروفة فجاءوا بها إلى الرسول ليطبق عليها قانون الله وهو أن يقطع يدها لأنها سرقت فشفعوا زيد بن حارثة وطلبوا منه أن يتوسط عند رسول الله وقال لزيد: (ويلك يا زيد أتشفع في حد من حدود الله) ثم صعد المنبر وقال:

(أيها الناس لقد أهلك الله من كان قبلكم من الأمم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد والله لو أن فاطمة سرقت لقطعت يدها).

الكل أمام القانون سواء، الكل أمام الله يحشرون على صعيد واحد لا فرق بين غني أو فقير أو شريف أو وضيع أو كبير أو صغير أو نبي أو ولي.


التوحيد في العلاقات الدولية:


كانت حركة الرسول حركة سياسية قائمة على أساس عقائدي هو التوحيد ولم تنجح اية حركة سياسية في تاريخ البشرية كما نجحت دعوة النبي ففي أقل من ربع قرن أقام النبي دولة الإسلام وبدأ يراسل ملوك الشرق والغرب ويقيم علاقاته الخارجية على أساس النظام الإسلامي الجديد!

أخرج البيهقي عن ابن إسحاق قال: بعث رسول الله محمداً بن أمية الزمري إلى النجاشي في شأن جعفر بن أبي طالب وكتب معه كتاباً:

(بسم الله الرحمن الرحيم ـ، من محمد رسول الله، إلى النجاشي الأقحم ملك الحبشة السلام عليك، فأني أحمد إليك الله الملك القدوس المؤمن وأشهد أن عيسى روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطاهرة الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى فخلقه من روحه ونفخته كما خلق آدم بيده ونفخه وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له والموالاة على طاعته وأن تتبعني فتؤمن بي وبالذي جاءني فإني رسول الله وقد بعثت إليك ابن عمي جعفر ومعه نفر من المسلمين فإذا جاءوك فخذهم ودع التجبر فأنني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل وبلغت ونصحت فأقبل نصيحتي والسلام على من اتبع الهدى).

وأخرج البخاري عن ابن عباس حديث أبو سفيان مع هرقل وفيه نص النبي إليه:

(بسم الله الرحمن الرحيم... من محمد بن عبد الله ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتيك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين)

(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَ نَعْبُدَ إِلاَ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).

وأخرج ابن الحديد من طريق ابن إسحاق نص رسالة الرسول إلى كسرى وهي.

(بسم الله الرحمن الرحيم... من محمد رسول إلى كسرى عظيم الفرس سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله إن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وإنه محمداً عبده ورسوله وأدعوك بدعاء الله فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين فإن تسلم تسلم وإن أبيت فعليك إثم المجوس).

وأخرج البيهقي نص رسالة إلى أهل نجران ورسائل مشابهة إلى أهل اليمامة والى المنذرين ساوي عظيم البحرين والى الحارث بن شهد الغاني والى الحارث بن عبد كلال الحيدري والى ملكي عمان ابن الجلندي وغيرهم.


محمد (صلّى الله عليه وآله) رسول الإنسانية والحرية

محمد (صلّى الله عليه وآله) رسول الإنسانية والحرية


ماذا فعل النبي محمد (صلّى الله عليه وآله) حتى أصبح عظيماً بهذه الدرجة..

ماذا صنع محمد (صلّى الله عليه وآله) للإنسان في تلك الفترة من حياته.. حتى نجد أن البشرية كلما يبرز فيها عظماء عباقرة ومفكرون شخصيات تحولوا إلى أقزام بين يدي ذلك العملاق.

حتى يقول فيه البروفسور (ستوبارت):

(إنه لا يوجد مثال واحد في التاريخ الإنساني بأكمله يقارب شخصية محمد!)

(إلا.. ما أقل ما أمتلكه من الوسائل المادية وما أعظم ما جاء به من البطولات النادرة، ولو أننا درسنا التاريخ من هذه الناحية، فلن نجد فيه اسماً منيراً كاسم النبي العربي، الذي قدمه للبشرية سابقاً..؟)

وهل لا زالت أمتنا تتمكن أن تستفيد من هذا الذي صنعه الرسول في حياته إذا عرفنا أن الشيء الذي قدمه الرسول للإنسانية هو إتيانه بدين جديد شأنه شأن سائر الأديان التي جاء بها الأنبياء قبله، مثل موسى وعيسى..؟

فإنه في هذه الحالة يبقى سؤال انه لماذا اصبح إذن محمد (صلّى الله عليه وآله) سيد المرسلين وخاتم الأنبياء..؟

ما هي هذه الميزة الموجودة في خاتم الأنبياء التي لا توجد في غيره ممن سبقه..؟

وإذا اعتبرنا محمداً (صلّى الله عليه وآله) كأي مصلح آخر جاء إلى شعبه وأنقذهم من التخلف والانحطاط والحرمان، وأوجد لهم حياة حرة ينعم فيها الناس بالرضاء والمحبة والوئام.

فإذن يجب أن يكون شأنه ـ في هذه الحالة ـ شأن سائر المصلحين الاجتماعيين وهو أن يأتي فترة ويحكم ويحتل صفحات معينة من التاريخ ثم يمر عليه زمن وتطوي تلك الصفحات، وينسى ذلك المصلح، ويخرج من ذاكرة الزمن والأجيال الجديدة إلا اللهم من كان همهم هم دراسة التاريخ ورجاله ومن أراد أن يراجع أوراق التاريخ الصفراء ويقرأ سطورها المنسية فيعثر على اسم رجل كان في فترة كذا وعمل كذا..

إذن ما الداعي إلى أن يعيش محمد (صلّى الله عليه وآله) في حياة الناس اليومية.. ويعاصر الزمن ويبقى الناس يرددون اسمه كل يوم؟؟

وهل يحتاج محمد (صلّى الله عليه وآله) أن يدخل في حياة الإنسان اليومية إلى هذه الدرجة حيث يصاح باسمه كل يوم عشرات المرات.. ويذكر ويصلى عليه؟ وماذا فعله محمد (صلّى الله عليه وآله) حتى يظل إلى هذه الفترة يعيش مع الأجيال المتجددة ويحتفلون كل سنة بمولوده ومعراجه وهجرته.. وحروبه وغزواته؟؟

واليوم حيث يطل القرن الخامس عشر على هجرته فتتحول الدنيا إلى مهرجان احتفالاً بهذه المناسبة، نحن نعرف بأن أشخاصاً عظماء زاروا الحياة فترة وعملوا ما عملوا وأنجزوا أعمالاً ضخمة، لكنهم نتيجة قدم الزمن ومرور الأيام والعصور تحولوا إلى فسيفساء جميلة تزين جدار التاريخ وتحولوا إلى مواد أثرية.. أو أساطير مدونة في الكتب التاريخية!

مثل الاسكندر المقدوني المعروف بذي القرنين..أو سقراط وأفلاطون ونابليون وغاليلو وكوبرينك ونيوتن وأديسون وانشتاين وغيرهم من العلماء والمخترعين والملوك والفاتحين.

إلا أن محمدا (صلّى الله عليه وآله) الوحيد الذي يشارك الناس في حياتهم اليومية، ويجوز هذا الذكر الخالد والمعاصرة اليومية لحياة المجتمعات الحديثة.

إنه جزء محسوس من حياة المسلم العادية.. فتراه يصبح على ذكر محمد (صلّى الله عليه) وآله) ويمسي على ذكر محمد (صلّى الله عليه وآله) ويلهج على ذكر محمد (صلّى الله عليه وآله).

إنه الإنسان الوحيد الذي يعيش في كل زمان وفي كل مكان، لا تخلوا أرض من ذكره ولا تخلوا لحظة واحدة عمن تلهج شفتاه باسمه المبارك، هل هناك سر..؟

وهل أن محمداً (صلّى الله عليه وآله) لا زال حياً بفعل الأمر الذي صنعه للحياة وبفضل الشيء الذي قدمه للإنسان.؟

ويا ترى ما هو؟ وماذا عمل النبي محمد (صلّى الله عليه وآله) حتى يستحق كل هذا المجد والخلود؟ وماذا قدم ولا زال لأفراد البشرية.. حتى يتطلب من الإنسان أن يذكره كل يوم ويستحضر شخصيته في عبادته وتوجهه لاستقبال كل يوم جديد؟

الجواب:

نحن الآن في عصر الصاروخ والكهرباء..

وفي عصر العقول الإلكترونية والنظريات العلمية الحديثة.

أي أن الإنسان سد حاجاته المادية تقريباً، واكتفى من الناحية التكنولوجية والآليات المكانيكية. ويعيش من ناحية الوسائل وطرق الرفاه والمواصلات الحديثة في أرقى المستويات.

ولكن هذه الوسائل والتقنية لبّت حاجات الإنسان الجسدية فقط أما الحاجات النفسية والروحية فلا زالت بحاجة إلى إشباع ولم تتمكن الحضارة الحديثة بما أوتيت من وسائل وقوة أن تسد هذه الحاجات.

فالحضارة المادية المعاصرة أوصلت الإنسان إلى حافة الدمار.. لأنها لا تحمل في طياتها المضمون الإنساني.. والهدف الحقيقي.. للكائن الحي.

(وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ).

إن أعظم مهمة في رسالة النبي هي: تحرير الإنسان..

تحرير الإنسان من القيود التي تبعده عن الحق، تحرير الإنسان من الأغلال النفسية (الجبت) والأغلال الاجتماعية والسياسية (الطاغوت).

فشرط الإيمان في رسالة النبي محمد (صلّى الله عليه وآله): أولاً الكفر بالجبت والطاغوت..

أي رفض القيود والأغلال، وإزالة الأنظمة الجائزة، ومكافحة الطغاة من الخارج بعد تحرير النفس من أغلال الخوف والجبن والكبر والشهوات في داخل النفس.

إن أعظم ما قام به النبي محمد (صلّى الله عليه وآله) وصنعه وقدمه للحياة والإنسانية: هو انه كسر عن الإنسان تلك القيود التي كانت تكبل عقله ونفسه، يديه ورجليه، وتمنعه من الانطلاق بحرية في الحياة من أجل تأمين سعادته واستقلاله وكرامته، لقد كانت القيود والأغلال النفسية والخارجية تكبل حياة الإنسان كثيرة.. ورهيبة...

وجاء محمد (صلّى الله عليه وآله)، برسالة الحرية، وكسر تلك القيود الواحد بعد الآخر.

أول قيد وأعظم غل كان يطوق رقبة الإنسان في ذلك العصر:

الجهل والتقليد الأعمى.

أغلال الخرافة والتقاليد الجاهلية..

لقد كان الجهل سائداً في ذلك المجتمع الجاهلي.. وكان ظلاماً مسيطراً على تفكير الناس..

وكان هذا الجهل سبباً لكل الآلام والمشاكل والجرائم التي يعاني منها الإنسان في ذلك العصر.

وكان الإنسان يرضى بذلك الواقع الفاسد والوضع المتردي لأنه كان يجهل طريق السعادة والصلاح في الحياة.

وكان الإنسان يرضى بأن يسيطر عليه حفنة من المرابين والتجار.. تحت غطاء الأصنام والأوثان المقدسة.. فكان هؤلاء المظللون والدجالون يلعبون بعقله ويستنزفون جهوده ويسترقونه ويبقونه عبداً خاضعاً لهم..

لقد كان أغلب الناس في مكة يعيشون عبيداً تحت سيطرة مجموعة من السادة والأغنياء المستكبرين.. وهؤلاء يلهبون ظهور أولئك العبيد بالسياط ويحملون على ظهورهم الأثقال. وهم يئنون تحتها ولا يستطيعون أن يتنفسوا في الهواء الطلق أو يستنشقوا نسمة الحرية.

لقد جاء النبي محمد (صلّى الله عليه وآله) إلى مجتمع نصفه عبيد ونصفه سادة مترفون ومستكبرون.. يستعبدون الناس الضعفاء بالقوة ويسرقون جهود ونتاج عملهم ويستنزفون أقصى طاقاتهم ويلقون لهم بفتات موائدهم التي يأكلوها ممزوجة بالذل والهوان.

وبعد ما جاء النبي دعا هم إلى دين التوحيد ورسالة الحرية كانت أول كلمة في رسالة النبي هي كلمة: (اقرأ) وهي كلمة العلم..

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) كلمات تتحدث عن العلم والقراءة والقلم وتشرح معلومات عن طريقة خلقة الإنسان (علم التشريح والفسلجة)..

إنها رسالة العلم ضد الجهل والخرافة..

وفي هذا المجتمع الأمي ـ الجاهلي ـ حيث كان الأشخاص الذين يعرفون فيه القراءة والكتابة لا يتجاوزون عدد الأصابع.

وإذا بالرسالة التي تقرع سمعهم تتحدث عن القراءة والكتابة، وعن القلم أداة التثقيف والتعليم.

(ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ). القلم والفكر.

وفي ذلك المجتمع يأتي النبي بحقائق علمية ويصدمهم بها.. حينما كانوا لا يفقهون شيئاً عنها.. تلك الحقائق العلمية التي ذكرها النبي والقرآن، جاء العلم الحديث ليتوصل إلى بعضها اليوم ويكتشف بعض أسرارها.

حتى لكأن وعد القرآن بذلك منذ أول يوم حين قال: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ).

إن رسالة تتحدث عن العلم والثقافة جاءت لتكسر قيود الجهل والخرافة والتقليد عن عقل الإنسان وتفكيره، ألم يعترف أولئك الذين رفضوا قبول دعوة النبي واتباع رسالته بهذه القيود التي تمنعهم من الإيمان برسالته والقبول بدعوته.

اعترفوا بأن الذي يمنعهم عن قبولهم هو جهلهم بما يقول: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ).

فعقولهم الغارقة في الجهل والظلام لا تفقه قوله، وآذانهم المثقلة بأحاديث الخرافة والأفكار الجاهلية.. تجعل بينهم وبين فهم دعوة النبي وفهم أهدافها هذا الحجاب السميك.

كما إنهم كانوا يبرروا بالتقليد الأعمى للآباء والتعصب لدينهم: (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ)

(وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ).

وحقاً كانت رسالة النبي رسالة العلم والنور.

فإن أولئك الذين اتبعوا تلك الرسالة، والتفوا حول دعوة النبي، وهم الفقراء العبيد والمستضعفون الذين وجدوا في دعوته الخلاص والمفتاح لباب الحرية والكرامة والهدى.

هؤلاء الحفاة العراة حولهم نبي الإسلام بعد أقل من ربع قرن من الزمن إلى بناة حضارة وحملة مشاعل العلم والحرية إلى شعوب العالم.

يدخل واحد منهم على (رستم) قائد الفرس قبيل معركة (القادسية) بعد أن طلب من المسلمين أن يرسلوا إليه وفداً ليباحثهم ويباحثوه ويفاوضهم ويفاوضوه، فندب المسلمون جماعة منهم (المغيرة بن شعبة) ليكون ممثلهم إلى (رستم).

(فلما وصل إليهم وهم على زيهم وجد بسطهم أدنى من مجلس رستم (أي كان لرستم كرسي خاص لا يدنوا إليه أحد).

فجاء وجلس مع رستم على سريره فغضب وأمر بإنزاله عن السرير فالتفت المغيرة إليه قائلاً: (إنني لم أرى أسفه منكم، إننا معاشر المسلمين لا يستبعد بعضنا بعضاً فظننتكم كذلك، وكان أحسن بكم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض).

(مع إنني لم آتكم وإنما دعوتموني، فقد علمت أنكم مغلوبون ولن يقوم لكم ملك على هذه السيرة). فتكلم رستم فعظم من شأن الفرس ثم قال بكل غرور وكبرياء:

(كانت عيشتكم سيئة تقصدوننا في الجدب فنزودكم بشيء من التمر والشعير، ولم يحملكم على ما صنعتم إلا ما بكم من جهد، فنحن نعطي لأميركم كسوة ونعلاً وألف درهم وكل رجل منكم حمل تمر وتنصرون فلست أشتهي قتلكم)!!.

فلم يكن من المغيرة إلا التفت إليه قائلاً:

(أما الذي وصفتنا به من سوء الحال والضيق فنعرفه ولا ننكره والدنيا دول.. والشدة بعدها رجاء، ولو شكرتم ما آتاكم الله لكان شكركم قليلاً على ما أوتيتم، وقد سلمكم الله بضعف الشكر إلى تغير الحال.

وإن الله قد بعث فينا رسولاً يدعونا إلى كذا فإن أبيتم فأمر أهون من ذلك الجزية، فإن أبيتم فالمناجزة (الحرب).

ولما خرج المسلمون لفتح مصر رغب المقوقس في المفاوضة أيضاً، فأرسل إليهم وفداً لعلم ما يريدون ثم طلب منهم أن يبعثوا إليه وفداً منهم.

فشكل عمرو بن العاص (قائد الجيش آنذاك) قوامه عشرة من المسلمين برئاسة (عبادة بن الصامت) وكان شديد السواد.

ولما دخل الوفد على المقوقس تقدمهم عبادة، فأبى المقوقس أن يكلمه رجل أسود ـ من شدة تجبره وكبرياءه ـ وقال لمن معه: (نحّوا عني هذا الأسود وقدموا غيره ليكلمني)، فقال الوفد جميعاً:

(إن هذا الأسود أفضلنا رأياً وعلماً، وهو سيدنا وخيرنا والمقدم علينا، وإنما نرجع إلى قوله ورأيه، وقد أمره الأمير دوننا بما أمره وأمرنا أن لا نخالف رأيه وقوله).

قال لهم المقوقس:

(كيف رضيتم أن يكون هذا الأسود أفضلكم وإنما ينبغي أن يكون دونكم؟).

قالوا: (كلا إنه وإن كان أسوداً كما ترى فإنه أفضلنا موضعاً وأفضلنا سابقة وعقلاً ورأياً وليسن ينكر السواد فينا).

هكذا حرر النبي الإنسان من قيود الجهل والظلم والظلام وحطم مقاييس التفرقة العنصرية والتمييز الطبقي بين أبناء المجتمع، وأعطى الإنسان شعوراً بالكرامة والسيادة والثقة بنفسه، والمساواة مع أبناء جنسه..

(لا فضل لعربي على أعجمي ولا ابيض على اسود إلا بالتقوى).

وأصبح المسلمون ـ حملة رسالة العدل والأخوة والمساواة إلى الشعوب الرازحة تحت نير الطغاة والمستعبدين والواقعة تحت وطأة الظلم والتمييز الطبقي..

وهكذا حرر الإسلام شعوب العالم.. عندما حرر الفرد وأشعره بقيمته الإنسانية.. وحرره من سيطرة الأسياد والمستكبرين.. والمتحكمين في مصيره..

الإسلام جعل الإنسان حراً في اختياره وتقرير مصيره بنفسه فقد وضع الإسلام مقياساً واحداً للحكم والرجوع عليه.. وهو العقل والمنطق.. فالعقل وحدة مقياس للحق والعقيدة.

وإذا تحرر العقل من سيطرة الجهل والشهوات والتظليل والإغراء.. فإنّه يبصر النور ويهدي الإنسان إلى السعادة.

إن القيود المفروضة على عقل الإنسان والتي تمنعه من التفكير الحر والصائب هي:

1ـ قيد الجهل والشهوات والأهواء النفسية.

2ـ قيد التقليد الأعمى واتباع الآباء.

3ـ قيد المضللين وأصحاب الأغراض والمصالح المتحكمين في المجتمع.

وهؤلاء لا يشكلون الطاغوت في اصطلاح القرآن.

والطاغوت الذي أمرنا القرآن بالكفر به وعدم الخضوع له يظهر في ثلاثة وجوه أو يعتمد على ثلاثة أركان هي:

1ـ القوة.

2ـ المال.

3ـ الإعلام.

ويمثلهم في التاريخ فرعون رمز التسلط والطغيان السياسي، وقارون رمز الاستثمار والطغيان الاقتصادي، وبلعم بن باعورا رمز التضليل الإعلامي واستغلال ستار الدين من قبل الرجعية.

فهؤلاء كلهم وقفوا في صف واحد ضد النبي موسى ورسالته التحررية.

وحينما جاء النبي ووجد هذه الفئات المتحكمة في المجتمع ثار في وجه هذه الفئات.. وكسر قيودها المسيطرة على الناس حينئذ.

فثار ضد الأصنام وسدنتها الذين كانوا يسيطرون على عقل الإنسان وشعوره، ويبتزون طاقاته عن طريق تقديس الأصنام وعبادتها في الكعبة.

لقد كان تجار قريش يستغلون الدين والعبادة المقدسة عند الكعبة للتجارة والمصالح، فكانوا يستغلون السذج والبسطاء، ويظللونهم ويملأون عقولهم بالخرافات والجهل.

وكانت سدانة البيت بيد تجار مكة وأثريائها.

وكانت المصالح تتركز في يد طبقة من البرجوازيين والأثرياء أمثال أبي سفيان وأبي جهل وأمية بن خلف ورؤساء القبائل.. وهم يسيطرون على كل شيء، ويتحكمون في كل شيء، ويستغلون كل شيء من اجل مصالحهم المادية.

فكان الإنسان يعيش تحت سيطرة هذه الطبقة الأرستقراطية، ولا يملك حرية التفكير والتعرف والخروج على هذه المعتقدات والأفكار التي ينشرونها.. وهي: عبادة الأصنام والأوثان وتقديم القرابين والنذور لها، فكانت واردات هذه الأصنام تصب في جيوب أولئك الأغنياء والمستغلين.

بالإضافة إلى مظاهر الميوعة والتحلل والفساد الخلقي التي كانت منتشرة في ذلك الجو الموبوء.. وهي التي كانت تستهوي شباب مكة والعرب فكانت تجلبهم إلى سوق عكاظ.. لاقتراف المجون والتحلل، في سائر المراكز والمحلات..

فكان ينظر النبي إلى هذه المظاهر بعين الاشمئزاز والتقزز، وكان يدعوه هذا المحيط الموبوء والبيئة الفاسدة بل وتلجئه إلى الهروب من مكة واللجوء إلى جبالها وشعابها المقفزة، والاختلاء بنفسه، والتفكير، والانقطاع، والتبتل في غار حراء على بعد ثمانية أميال من مكة في وسط جبل خشن سمي فيما بعد بجبل النور.


الصفحة 1 من 3

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page