بطاقات الكترونية إسلامية

بطاقات الكترونية إسلامية

شرح فقرات دعاء كميل

إن كل كلمة صادرة من أئمة أهل البيت -عليهم السلام- وكلماتهم الشريفة هي: إما حكم، أو أحكام شرعية، أو أدعية كلها منسوبة إليهم صلوات الله وسلامه عليهم.. طبعا الأحكام هي شغل الفقيه، ولكن الحكم والأدعية من الممكن أن يستفيد الإنسان منها استفادات كثيرة..

إن الإنسان من الممكن أن يتفاعل مع فقرة من فقرات الدعاء، مثلا في دعاء كميل يلهج بهذه العبارة: (اِلـهي وَرَبّي مَنْ لي غَيْرُكَ)!.. لو أن الإنسان وصل إلى هذه الفقرة، وتفاعل معها تفاعلا بليغا، بحيث لو أكمل الدعاء من الممكن أن يذهب عنه ذلك التفاعل؛ ما المانع أن يبقى في هذه الفقرة، إلى أن يستنفذ تفاعله وجهده في هذا المجال؟!.. فالمؤمن له هذه القاعدة: أنه إذا رب العالمين منحه الإقبال، لا يتحول عن الحالة التي هو عليها، مادام ذلك الإقبال موجودا!..
إن الإمام -عليه السلام- في هذه الفقرة يذكر عبارات بليغة حيث يقول: (هَيْهاتَ!.. أنْتَ أكْرَمُ مِنْ أنْ تُضَيِّعَ مَنْ رَبَّيْتَهُ، أوْ تُبَعِّدَ مَنْ أدْنَيْتَهُ، أَوْ تُشَرِّدَ مَنْ آوَيْتَهُ، أَوْ تُسَلِّمَ اِلَى الْبَلاءِ مَنْ كَفَيْتَهُ وَرَحِمْتَهُ)؛ أي يا رب!.. أنت أحسنت إلي فيما مضى، ولو باعتبار زمان الطفولة.. فالإنسان عندما كان طفلا في بطن أمه، كان في رعاية الله -عز وجل- حيث لا راعي سواه في ظلمات الأرحام، هو الذي نقش هذا الوجود البديع.. فيا رب، أنت أحسنت إلي فيما مضى من أيام حياتي، ولو باعتبار عالم الأجنة، والآن لا تقطع إحسانك عني.
إن أمير المؤمنين -عليه السلام- يذكرنا بهذه القاعدة الموجودة عند كرام الناس، وهي: أن الكريم لا يقطع عطاءه إلا بموجب قوي، وإلا فإن الهفوات الجانبية عادة الكرماء يتجاوزون عنها.. وهذه الفقرات تذكرنا بالدعاء الذي يوضع في يد الميت، روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: من كتب هذا الدعاء وألقي في كفن الميت، أو وضع في يده لا يعذب في قبره، والله والله والله!.. وهذا هو الدعاء: (بسم الله الرحمن الرحيم اللهم!.. هذا أول قدومي إليك فأكرمني، فإن الضيف إذا نزل بقوم يكرم، وأنت أولى بالكرامة.. اللهم مادمت حيا عصيتك وأنت أحسنت إلي، والآن انقطع عصياني، فلا تقطع إحسانك عني.. يا رب أعتقني من النار، بمحمد وآله الأطهار الأخيار الأبرار، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين).. إن هذه العبارة حتى لو لم يقلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، مثلا: إنسان في أيام حياته، كان في حال توجه خلف المقام، أو تحت الميزاب؛ لا مانع من أن يأخذ معه ورقة وقلم، ويكتب هذه العبارات، ثم يدفع الورقة لورثته من أجل وضعها في كفنه.. عندما يكتب هو هذه العبارات بيده في الدنيا، نعتقد أن لها أثرا مميزا.. فأمير المؤمنين -عليه السلام- يعلمنا هذا المنطق في الحياة الدنيا، قبل أن تموت قل: يا رب ما رأيت منك إلا جميلا (أنْتَ أكْرَمُ مِنْ أنْ تُضَيِّعَ مَنْ رَبَّيْتَهُ، أوْ تُبَعِّدَ مَنْ أدْنَيْتَهُ).
إن الإنسان إذا أكرمه الله -عز وجل- بكرامة من الكرامات، وسلبت منه هذه الكرامة؛ فليعلم أنه من الأشقياء.. هنالك عمل قام به العبد، جعل رب العالمين يسلب منه هذا العطاء، وهذا خلاف طبع الكريم، فرب العالمين يمهل ولا يهمل.. وهنا نحب أن نشير إلى نقطة مهمة: إن البعض قد يقول: أن هذا الكلام مبشر، معنى ذلك أنه ما أعطينا من النعم، سوف لن تسلب بالهفوات، ونحن في كل يوم نرتكب هفوة أو هفوتين!.. نعم، صحيح الهفوات الصغيرة لا تسلب النعم، ولكن حذار حذار من تراكم الهفوات!.. لأنه من الممكن أن هذه الهفوات الصغيرة المتراكمة، يكون مفعولها كمفعول الذنوب الكبيرة، لذلك قال الصادق (عليه السلام): (لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار).
إن الإمام -عليه السلام- بعد ذلك، يشير إلى بعض الأعضاء التي أطاعت ربها، ولو في ساعات من اليوم أو الأسبوع، فيقول: (وَلَيْتَ شِعْري يا سَيِّدي وَاِلـهي وَمَوْلايَ، أتُسَلِّطُ النّارَ عَلى وُجُوه خَرَّتْ لِعَظَمَتِكَ ساجِدَةً)؟!.. وهنا إشارة بسيطة: إن البعض عندما يصل إلى هذه الفقرة، يخر ساجدا.. لا مانع من ذلك، الإمام لم يقل: الآن اسجد!.. بخلاف دعاء الصباح، حيث في آخر الدعاء قال: قم واسجد وقل: (إلهي!.. قلبي مَحجُوب، ونفسي مَعْيُوب، وعقلي مَغْلُوب، وهوائي غالب).. أما في دعاء كميل، ليس هنالك أمر بالسجود؛ ولكن ما المانع أن نسجد لله -عز وجل- من باب العمل بالعمومات، أي حركة عبادية إذا انطبقت عليها العمومات فلا ضير.
إن بعض الناس قيدوا أنفسهم، إذ اعتبروا كل حركة عبادية ليس فيها إذن بدعة.. في حال أن هذه الحركة العبادية لها أمر عام، ونحن لا نأتي بها بداعي الخصوصية، مثلا: في النهار، في الساعة العاشرة نهارا، أصلي لله عز وجل، والصلاة خير الموضوع، من شاء استقل ومن شاء استكثر.. هل إذا صلى المؤمن في الساعة العاشرة صباحا؛ قربة إلى الله -عز وجل- من باب العمل بعمومات إقامة الصلاة في كل حال، هل هذا يعتبر بدعة في الدين؟.. نعم، لو قلت: في هذا الوقت تستحب هذه الصلاة، نعم هذه بدعة!.. لكن أنا ما ادعيت ذلك، وليس بعنوان التشريع أنه يستحب في دعاء كميل أن يسجد الإنسان في هذه الفقرة، ولكن هي حركة جميلة، وكأن العبد يقول لربه: يا رب أنا أقرأ هذا الدعاء، وأدعي هذه الدعوة، وأنا في حال السجود.
(وَعَلى اَلْسُن نَطَقَتْ بِتَوْحيدِكَ صادِقَةً، وَبِشُكْرِكَ مادِحَةً).. في هذه الفقرة -والله العالم- كأن الإمام -عليه السلام- يريد أن يفهمنا أن الجارحة إذا اتصفت بصفة إلهية، هذه الجارحة كأنها أصبحت من شؤون الله -عز وجل- ولو في مرحلة من المراحل.. مثلا: هذا القلم كان في يوم من الأيام يكتب، والآن جف حبره، من الممكن أن تقول: إن هذا القلم قلم كاتب، باعتبار الأيام التي كان القلم يكتب فيها.. أي يا رب أنا جوارحي في يوم من الأيام اتصفت بعبادتك، وأصبحت منسوبة إليك، ولساني في يوم من الأيام ذكرك، وأصبح لسانا إلهيا ولو في تلك الفترة القصيرة.. أي يا رب أنا صحيح بعد تلك الفترة أدمنت المعاصي، أنا من الصباح إلى الليل مشغول باللهو والحرام والغيبة.. ولكن يا رب لساني في اليوم يذكرك خمس مرات، يا رب لاحظ هذه اللحظات المقدسة من ذكرك، هذه الساعات، هذه الدقائق.. لا تنظر إلى ساعات الظلمة في حياتي، وانشغال جوارحي بما لا يرضيك.. وبعبارة أخرى نقول: لو أن هذا المكان دخله الملك لدقائق، ثم دخله غير الملك ساعات، ألا يقال بأن هذا المكان مكان محترم؛ لأن الملك قصده فدخل فيه ولو دقائق!.. أي يا رب وجودك وجود شريف في حياتي، وعنايتك عناية كبيرة، وقلبي ولساني وجوارحي امتثلت أوامرك، فلا تعاقبها يوم القيامة بذلك.
(وَعَلى قُلُوبٍ اعْتَرَفَتْ بِإلهِيَّتِكَ مُحَقِّقَةً).. يوم القيامة من الممكن أن يقول العبد لربه هذا الكلام، لعله في عرصات القيامة يتذكره، فيكون له حجة يوم لقائه، ألا نقول في الدعاء: (اللهم!.. لقني حجتك يوم ألقاك).. وإن كنا نعتقد إن الإنسان يوم القيامة، يذهل عن كثير من الأمور.. ولكن نحن نقول: يا رب ما نقوله هذه الليلة لا تنسينا إياه في عرصات القيامة.. فما هي إذن هذه المقولة؟.. قل: يا رب أنا وجودي على قسمين: لي جوارح، ولي جوانح.. لي بدن، ولي روح.. يا رب الذي تلوث في الحياة الدنيا هو الجوارح: أنا عيني عصت، ولساني عصى، والأذن سمعت الحرام، واليد امتدت إلى ظلم العباد.. ولكن يا رب أنا لي جوانح، لي قلب، وهذا القلب ما عصاك.
أتعلم أن قلب المؤمن من الممكن أن يقال بأنه قلب عادل؟!.. متى أعرض القلب عن الله -عز وجل- بمعناه الكامل!.. إن الغفلة من شؤون عالم الذهن، ولكن هل خرج الحب الإلهي من قلبك ولو بمعناه الساذج!.. طبعا الحب الإلهي في قلوبنا نحن لا يقاس بالأنبياء والأولياء، ولكن هذا الحب القليل، هذا الحب الطفولي، هذا الحب البسيط الذي أعتقد به يا رب ما خرج من قلبي، اعتقادي بربوبيتك ما خرج من قلبي وفؤادي، فيا رب لا تنظر إلى جوارحي فحسب!.. بل انظر إلى هذا القلب الذي اعترف بربوبيتك، ومن منا لا يعترف بهذه الألوهية!..
(وَعَلى ضَمائِرَ حَوَتْ مِنَ الْعِلْمِ بِكَ حَتّى صارَتْ خاشِعَةً).. نحن أيضا جوارحنا الباطنية حاملة لهذا العلم.. فإذن، إن لسان حال المؤمن في الدنيا والآخرة، هو: يا رب إن شفيعي إليك في مقابل عصيان الجوارح، هو طاعة الجوانح.. قد يقول قائل: إن من مكبرات الجوانح، سوء الظن، والحسد الباطني، والخيالات الفاسدة!.. هذا أيضا إن شاء الله معفو عنه بكرمه تعالى، لأن هذه الصفات الباطنية، ليست دائما تنعكس على هذه الجوارح، ورب العالمين لا يؤاخذنا بالملكات الباطلة إذا لم تسجل في مقام العمل.
(ما هكَذَا الظَّنُّ بِكَ، وَلا اُخْبِرْنا بِفَضْلِكَ عَنْكَ).. الأمل بالله -عز وجل- والظن الحسن بالله -عز وجل- من موجبات الفلاح والنجاح، يقال في حديث معروف عن أبي عبد الله (عليه السلام): (إن آخر عبد يؤمر به إلى النار، فيلتفت فيقول الله جل جلاله: اعجلوه!.. فإذا أُتيَ به قال له: عبدي لم التفت؟.. فيقول: يا رب ما كان ظني بك هذا، فيقول الله جل جلاله: عبدي ما كان ظنك بي؟.. فيقول: يا رب كان ظني بك أن تغفر لي خطيئتي، وتدخلني جنتك.. قال: فيقول الله جل جلاله: ملائكتي!.. وعزتي وجلالي وآلائي وارتفاع مكاني، ما ظن بي هذا ساعة من حياته خيرا قط، ولو ظن بي ساعة من حياته خيراً ما روعته بالنار، أجيزوا له كذبه وادخلوه الجنة.. ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما ظن عبد بالله خيراً إلا كان له عند ظنه، وما ظن به سوء إلا كان الله عند ظنه به، وذلك قول الله عز وجل: (وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُم بِرَبِّكُمْ أَردَاكُمْ فَاَصْبَحْتُم مِنَ الْخَاسِرِينَ}.
إن هذا الحديث المعروف حديث غريب، ولولا الاعتقاد بالكرم الإلهي، لما صدقنا هذا الحديث ابتداءً.. هذا العبد حكم به إلى النار، معنى ذلك أنه حتى الشفاعة لم تشمله، لأنها لو شملته الشفاعة لساقوا به إلى الجنة.. وفي عرصات القيامة العالم عالم مكاشفة، والذي نبحث عنه في الدنيا، سنجده يوم القيامة؛ حيث يكشف الغطاء {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}.. يتكلم الإنسان مع ربه، يلتفت إلى الله -عز وجل- في عالم رفع الحجب يوم القيامة، ويقول كلمة عاطفية.. كم يتمنى الإنسان أن يكون بإمكانه قول هذا الكلام عندما يؤمر به إلى النار: (يا رب ما كان ظني بك هذا)؛ أي أنا ما توقعت أن ختام مسيرتي الدخول في نار جهنم، وأنت رب الكرماء.. وبحسب هذه الدعوة: أنه يا رب أنا ليس لي طاقة على عذابك.
إن بعض المؤمنين العارفين بالله -عز وجل- عندما تصيبه حرارة الشمس، أو يبتلى بحريق بسيط في رأس إصبعه مثلا، يقول: يا رب، أنا لا طاقة لي بحرارة الشمس، أو بهذه اللسعة البسيطة من النار؛ فكيف احتمالي لعذاب النار؟.. أتعلم أن هذه الكلمة في الحياة الدنيا، من الممكن أن ترفع عنه أهوال القيامة!.. وهكذا المؤمن في أدعيته، ينوع تارة بين الدعاء الرسمي المأثور، وبين كلمات عاطفية.. وأهل البيت -عليهم السلام- أبدعوا في حديثهم مع الرب المتعال، هؤلاء قمة في التوحيد.. فالإمام -صلوات الله عليه- في مناجاته لا يقول: يا رب ارفع عني العذاب، لا يقول: يا أهل جهنم انظروا إلى ما أنا فيه، بل يقول: (إن أدخلتني النار أعلمت أهلها أني أحبك).. انظروا إلى قمة الصلة العاطفية بين العبد وربه، ففي دعاء أمير المؤمنين -عليه السلام- يقول: (فَهَبْني يا إلـهي وَسَيِّدِي وَمَوْلايَ وَرَبّي صَبَرْتُ عَلى عَذابِكَ، فَكَيْفَ اَصْبِرُ عَلى فِراقِكَ، وَهَبْني صَبَرْتُ عَلى حَرِّ نارِكَ، فَكَيْفَ اَصْبِرُ عَنِ النَّظَرِ إلى كَرامَتِكَ)؟.. يا رب، جسمي قد يتحمل عذاب جهنم فرضا، ولكن قلبي لا يتحمل مرارة الهجران والبعد عنك.
هنيئا لمن كان أنسه بهذه المضامين في الحياة الدنيا، حتى لو نسي هذه المضامين، ولم يتلفظ بها في عرصات القيامة؛ نعتقد بأن رب العزة والجلال سوف يعامله على ما كان عليه في الحياة الدنيا!.. فكم قرأنا دعاء أبي حمزة، وكم لهجنا بدعاء كميل!.. لابد أننا في موقف من المواقف، عشنا عمق هذه الصلة العاطفية برب العزة والجلال.

إن المؤمن يستغل فقرات دعاء كميل، ليقرأها في مظان الإجابة: في قنوت صلاة الليل، وفي سجوده.. فليس هنالك مانع أن نستعمل فقرات المناجاة في دعاء كميل، ودعاء أبي حمزة الثمالي في مختلف المناسبات.
في هذه الفقرة من هذا الدعاء الشريف، يتكلم الإمام -عليه السلام- عن حالة المؤمن التائب.. المؤمن عندما يتوب إلى الله -عز وجل- له هذه الحالات، ومنها ما ذكره الإمام (ع) في هذه الفقرة: (وَقَدْ اَتَيْتُكَ يا اِلـهي بَعْدَ تَقْصيري وَ اِسْرافي عَلى نَفْسي).. هناك فرق بين التقصير والإسراف على النفس: الإنسان قد يقصر في بعض الحالات، ولكن يسرف على نفسه؛ بمعنى أنه يعمل ما يوجب له هلاك النفس.. وهذا العمل فيه مبالغة، فتارة الإنسان يظلم نفسه، وتارة بتعبير القرآن الكريم: {وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}؛ دساها أي أخفاها، كان يقال في الجاهلية: دس ابنته في التراب؛ أي دفن ابنته في التراب.. الجاهليون كانوا يدفنون بناتهم، ونحن المسلمون ندفن أنفسنا في تراب الشهوات والغفلات، وهذا في الواقع قمة الظلم للنفس، أن يخفي الإنسان نفسه؛ أي يضيع نفسه فلا يجد لهذه النفس دورا فاعلا في الحياة.
(مُعْتَذِراً نادِماً مُنْكَسِراً مُسْتَقيلاً مُسْتَغْفِراً مُنيباً مُقِرّاً مُذْعِناً مُعْتَرِفاًً).. الذي يعيش مجموع هذه المشاعر، يعتبر من أكثر التائبين صدقا، قرأنا في مناجاة زين العابدين (عليه السلام): (إلهي!.. إن كان الندم على الذنب توبةً؛ فإني وعزّتك من النادمين).. هذه الندامة نراها في ظل هذه الفقرات (مُعْتَذِراً نادِماً) ولكن انظروا إلى باقي التعابير (مُنْكَسِراً مُسْتَقيلاً مُسْتَغْفِراً مُنيباً) هذه الحالات التي يذكرها الإمام تقريبا على نوعين:
قسم منها فيه حالة قلبية محضة مثل (الندامة، والانكسار)، هذه أمور قلبية لا تحتاج إلى بيان.. ولكنّ قسما من ذلك فيه إبراز، فيه بيان ككلمة: (مُقِرّاً مُذْعِناً مُعْتَرِفاًً).. فإذن، إن المؤمن يعيش الشعورين: الندامة الباطنية، وإظهار هذه الندامة من خلال اعترافه!.. والحالة التي يريدها الإمام منا، هي هذه الحالة من الاستكانة والندم الباطني.
ثم يقول صلوات الله عليه: (لا أجِدُ مَفَرّاً مِمّا كانَ مِنّي، وَلا مَفْزَعاً أتَوَجَّهُ إليه في أَمْري) هذا المعنى يترجمه إمامنا  في آخر المناجاة الشعبانية، لذا اغتنموا ساعة الإجابة وحاولوا أن تقرأوا الفقرات الأخيرة من هذه المناجاة: (إلهي!.. هب لي كمال الانقطاع إليك)؛ وكمال الانقطاع يأتي من هذا الإحساس: مثل الإنسان الذي تنقطع به السبل، وهو في الفلك، وفي وسط الطوفان، حيث ينقطع إلى الله عز وجل؛ لأن في البحر لا مفر ولا ملجأ فيه إلا إلى الله عز وجل.. هذا الإحساس: أن الإنسان لا مفر له ولا ملجأ له إلا إليه؛ يوجب له الانقطاع.. ولكن كيف يكون كمال الانقطاع؟..
يأتي هذا الانقطاع من اجتياز هذه الحالة: مثلا: إنسان يعيش بين عشيرته وقومه، وله رصيد في البنك لا بأس به، وله وجاهة اجتماعية، وله أصدقاء من الوزراء وغيرهم؛ قد يجد أنه لا يعيش حالة قول الإمام: (لا أجِدُ مَفَرّاً مِمّا كانَ مِنّي).. ولكن عندما يرى أن الأسباب فانية، وسببيتها هشة (يهلك ملوكا ويستخلف آخرين).. حيث أن المؤمن  يرى كل شيء في طريقه إلى الأفول والزوال، فإبراهيم -عليه السلام- علق على الكواكب والنجم والشمس فقال: {لا أُحِبُّ الآفِلِينَ}؛ أي كل هذا يزول.. وعليه، فإن هذا الإحساس (لا أجِدُ مَفَرّاً مِمّا كانَ مِنّي، وَلا مَفْزَعاً)؛ لأن حتى الأسباب الموجودة: كالمال الذي تعتمد عليه هو من الله عز وجل، والعشيرة التي تعتمد عليها هي أيضا من الله عز وجل.. ولهذا، فإن الالتفات إلى هذه الحقيقة من موجبات الانقطاع إلى الله عز وجل.
ثم بعد ذلك يقول: (اَللّـهُمَّ!.. فَاقْبَلْ عُذْري، وَارْحَمْ شِدَّةَ ضُرّي).. هنالك عبارة في اللغة العربية، تقول: (خادعت الكريم، فانخدع)؛ ما معنى هذه العبارة؟..
الكريم بمعنى المتكرم المتعالي، خادعته أي خدعته، قلت: يا فلان!.. أنا سوف لن أقوم بهذا العمل مرة ثانية، وهو يعلم أنك بيّت النية بالمعاودة، يعلم أنك ستكسر توبتك، ولكن يتظاهر بأنك سوف لن تعود، وهو يعلم أنك مخادع {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ}؛ أي تظاهر بأنه لا يعلم.. ولهذا من صفات المؤمن التظاهر، كما قيل:
ولقد أمر على اللئيم يسبني *** فمضيت ثمت قلت لا يعنيني
وعليه، فإن الإنسان إذا قدم عذرا ظاهريا، فإن الله -عز وجل- يتجاوز عنه.. عندنا في الفقه هناك دعوة: أن الإنسان إذا أراد أن يقام عليه الحد، فإنه يلقن الشبهة (إدرأوا الحدود بالشبهات)، مثلا: إنسان ارتكب عملية محرمة مثل الزنا، يمكن للقاضي أن يقول له: لعلك اشتبهت، لعلك لم تقع في الفعل المحرم!.. فإذن، من الطبيعي أن يحاول الكريم دفع العقوبة عنك أولا، ويلقنك الحجة ثانيا.. فكيف إذا قدم الإنسان عذره حقيقة؟!.. كل هذه المقدمات لأجل أن نقول: إذا تظاهر الإنسان بالاعتذار، وهو يبيت النية الباطلة، فإن الكريم يتجاوز عنه.. فكيف إذا كان في الواقع معتذراً.. فقوله: (اَللّـهُمَّ!.. فَاقْبَلْ عُذْري).. أمير المؤمنين لا يريد هنا العذر الظاهري، يريد الاعتذار الحقيقي.
(وَارْحَمْ شِدَّةَ ضُرّي، وَفُكَّني مِنْ شَدِّ وَثاقي).. نحن كلنا -من غير المعصومين- عصاة، من منا لم يعص ربه؟.. الإنسان المؤمن عندما يتذكر معصيته، تنتابه حالة من حالات الندامة.. ولكن إذا توغل في الإيمان، وبلغ مرحلة راقية من الإيمان؛ فإنه لا يعلم ماذا يعمل عندما يتذكر السيئات، فهو يتمنى أن يكون ترابا، الكافر يوم القيامة يقول: {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا}.. والمؤمن في الدنيا إذا بلغ مرتبة عالية من الإيمان، يتمنى لو أنه كان ترابا، وفي العرف: عندما يخجل الإنسان كثيرا يقول: كدت أذوب من الخجل، وفي تعبير البعض: يا ليتني كنت في بطن الأرض خير لي من ظهرها في هذا الموقف!..
إن المؤمن يصل إلى درجة، عندما ينظر إلى المعاصي والغفلات؛ يعيش حالة من الذعر الشديد، وحالة من الأسر (وَفُكَّني مِنْ شَدِّ وَثاقي).. نحن نعيش هذه الحالة في مصائب الدنيا، مثلا: إنسان يحكم عليه بالسجن سنة واحدة، عندما يدخل السجن في الليلة الأولى -وهو يفارق الأهل والأولاد لسنة كاملة في السجن، وخاصة إذا كان في زنزانة انفرادية، وممنوع من اللقاء- سيعيش قمة الأذى.. فكيف إذا كان الإنسان يعيش حالة السخط والغضب الإلهي!.. هو صحيح  قد ينطلق من عاصمة إلى أخرى، ويطير في الفضاء، ولكن ماذا يعمل عندما يعلم أن رب العالمين غاضب عليه!..
إن كل شخص يراجع نفسه، عليه أن لا يقطع بالغضب الإلهي؛ لأن القطع بالغضب الإلهي والسخط يحتاج إلى دليل، ولكن على الأقل نحتمل أن الله -عز وجل- ليس براضٍ عنا، فمن منا يقطع بالرضا؟.. وأيضا لا نقطع بالسخط، ولكن احتمال أن يكون رب العالمين قد سخط علينا؛ هذا احتمال خطير ولو كان ضعيفا.. مثلا: لو ذهب إنسان إلى طبيب، وكشف عليه وقال له: أن هناك احتمال 5 % أنك مبتلى بمرض خبيث، عندها سينهار فورا.. صحيح أن الاحتمال ضعيف، ولكن المحتمل هو الموت بالمرض الخبيث.
فإذن، إن المؤمن عندما يعيش هذا الاحتمال، المحتمل جدا خطير: وهو سخط جبار السموات، والاحتمال ضعيف 5%، ولكن المؤمن يعيش حالة الوجل والقلق الشديد، عندما يحتمل هذا الاحتمال.. ولا يرتاح إلا عندما يصبح مصداقا للآية الأخيرة في سورة الفجر: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً}.. فالذي ليس بصاحب النفس المطمئنة له أحد النفسين: إما الأمارة بالسوء المتوغلة في الباطل، وإما النفس اللوامة التي تستقيم تارة وتنحرف أخرى.. وبالتالي، فإن المؤمن إذا أراد أن يسترخي، وإذا أراد أن تجري دمعته؛ فإنه يكفي أن يذكر نفسه بهذه الحالة.
(يا رَبِّ!.. ارْحَمْ ضَعْفَ بَدَني، وَرِقَّةَ جِلْدي، وَدِقَّةَ عَظْمي).. في هذا الدعاء يطلب العبد من ربه أن يرفع عنه الأمراض الدنيوية، يقول: يا رب!.. أنا عبد ضعيف، ارحم ضعف بدني ودقة عظمي؛ أي لا تبتليني بحادث يكسر عظمي الدقيق.. فهل المقصود هنا رفع البلاء الدنيوي، أو البلاء الأخروي؟.. ونحن نعرف أن الجلد رقيق جدا، ويوم القيامة كلما نضجت جلودهم رب العالمين يبدلهم بجلود أخرى، لتبقى عملية التألم مستمرة.. فإذن، الإنسان عندما يحترق تموت فيه الخلايا الحساسة بالألم، وبالتالي فإن الجلد من ناحية يتشوه، ومن ناحية أخرى يرتاح الإنسان لعدم شعوره بالألم.. ولكن رب العالمين تعذيبه في جهنم ليس بهذا النحو، لأن الإنسان إذا تحول إلى فحم في نار جهنم؛ فإنه يرتاح.. ولكن رب العالمين يجمع بين الفحمية، وبين الإحساس بالألم.. وعليه، فإن هذه الفقرة من الدعاء هي طلب إلى الله -عز وجل- لتتحقق في الدنيا أو في الآخرة؟!..
الجواب: ما المانع أن يكون هذا في الدنيا والآخرة؟.. أي يا رب أنا جسمي ضعيف، في مقابل البلاء الدنيوي.. ولكن عدم التحمل هذا، هو أشد في يوم القيامة!.. الإنسان المبتلى بعاهة في الدنيا من باب القضاء والقدر، مثل إنسان كان ماشيا أصابه حادث سير، فانكسرت رجله وأصبح يعرج، فحرم من الصلاة قائما، وحرم الحج، وحرم من قيام الليل.. رب العالمين قد يعوّض هذا الإنسان، ولكن المصيبة فيمن يعمل عملا يوجب له فقد الصحة والعافية باختياره، فإذا كان هو السبب في ذلك، هو إنسان مخذول، عليه الويل؛ لأنه باختياره أوقع نفسه في البلاء.
أن يبقى الإنسان معافى إلى ساعة الموت؛ نعمة من النعم، {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ}.. فالإنسان ينكس في العمر لا بأس به، ولكن أن يبتلى بالخرف!.. فسألوا ربكم أن لا يسلب منكم نعمتين، أولها: الالتفات الشعوري إلى الموت، مثلا: البعض قد يتكلم كلاما يوجب الكفر.. وعليه، نقول: هذا الإنسان خرف في أواخر العمر.. والثانية: أن لا يحتاج إلى معونة الغير في أواخر عمره، قد يكون ولده صالحا بارا لا بأس به؛ ولكن المصيبة إذا كان هذا الولد يمنّ عليك.. فبعض الأولاد يبعثون آبائهم كبار السن إلى دور العجزة، أي أن ذريته تبرأت من خدمته.
فإذن، إن المؤمن يطلب في هذه الفقرة من الدعاء القوة والعافية من الله تعالى، وأن يبقيه سليما معافى إلى آخر عمره.. فهذه الفقرة إذا استجيبت للعبد، ترجى أن تكون من موجبات السلامة في الدين والدنيا.
(يا مَنْ بَدَأَ خَلْقي وَذِكْري وَترْبِيَتي وَبِرّي وَتَغْذِيَتي هَبْني لاِبـْتِداءِ كَرَمِكَ، وَسالِفِ بِرِّكَ بي)؛ أي يا رب العالمين، أنا كنت في عالم الأجنة، وكنت تغذيني في الظلمات الثلاث.. هذا الإحساس في الظلمات الثلاث يجعله مستمرا بعد ولادته، طبعا الإنسان بعد الولادة يأكل بيديه وبفمه، ولكن لسان حال المؤمن أنه: يا رب، كما غذيت جسمي وأنا جنين في عالم الأجنة بغذاء المشيمة، عندما كنت محتاجا منقطعا إليك، يا رب لا تقطع مددك عن روحي في عالم الأرواح، فجسمي صار كبيرا، ولكن ماذا أعمل بهذه الروح الصغيرة؟.. بعض الناس يموت وروحه لم تخرج إلى الدنيا، في ظلمات الجهل، وفي ظلمات الوهم.. نحن نقرأ هذا الدعاء عند قراءة الكتاب: (اللهم!.. أخرجنا من ظلمات الوهم وأكرمنا بنور الفهم).. فظلمات الجهل كظلمات الأرحام، وظلمات الوهم كظلمات الأرحام.. هل تعقلت في هذا المعنى في يوم من الأيام: أن بعض الناس يحيا ويموت ويخرج من هذه الدنيا ولم تخرج روحه من الأرحام، بقيت في ظلمات الجهل وعدم النضوج.. نسأل الله -عز وجل- في هذه الفقرة أن يفتح لنا مثل هذه الأبواب، وهنيئا لمن استجيب بحقه!..

إن المؤمن قبل أن يدعو بدعاء، من المناسب له أن يطالع ويتأمل في ذلك الدعاء: أولا: معرفة الألفاظ المشكلة في الدعاء، كدعاء السمات مثلا، وهو دعاء من الأدعية التي فيها كلمات مشكلة وألفاظ مبهمة.. ودعاء الصباح كذلك من الأدعية التي فيها كلمات تحتاج إلى توضيح، فعليه أولا معرفة الكلمات المشكلة.. ثانيا: معرفة سبك الدعاء، أي من أين يبدأ الدعاء؟.. ومن أين يُختم؟.. وما هو المتن؟.. وما هو الهدف من الدعاء؟..
فدعاء الصباح يناسب الصباح، ولهذا فيه مضامين متناسبة مع بداية اليوم: (فَاجْعَلِ اللّـهُمَّ صَباحي هذا ناِزلاً عَلَي بِضِياءِ الْهُدى وَبِالسَّلامَةِ بالسلام فِي الدّينِ وَالدُّنْيا).. لذا من المناسب أن يكون الإنسان ملما ولو إلمام بسيط بمضامين هذه الأدعية المباركة.
(يا اِلـهي وَسَيِّدي وَرَبّي)!.. كله خطاب مع رب العالمين، كان يكفي أن يقول (يا الله)!.. ولكن الإمام يخاطب ربه من عدة زوايا: من زاوية الإلوهية، ومن زاوية السيادة، ومن زاوية الربوبية.. كل زاوية من هذه الزوايا، تعطي الإنسان انطباعا خاصا.. فهذا الذي هو إله وسيد، أشعر بأنه هو رب متصرف في هذا الوجود، وأنا من الوجود.. فهذه العبارات من الدعاء، تعطي الإنسان حالة من حالات الطمأنينة.
يقول الإمام (عليه السلام): (اَتُراكَ مُعَذِّبي بِنارِكَ بَعْدَ تَوْحيدِكَ، وَبَعْدَ مَا انْطَوى عَلَيْهِ قَلْبي مِنْ مَعْرِفَتِكَ، وَلَهِجَ بِهِ لِساني مِنْ ذِكْرِكَ، وَاعْتَقَدَهُ ضَميري مِنْ حُبِّكَ، وَبَعْدَ صِدْقِ اعْتِرافي وَدُعائي خاضِعاً لِرُبُوبِيَّتِكَ).. إن من مضامين أدعية أهل البيت (عليهم السلام) -طبعا مع فارق التشبيه- تُشبه سبك القرآن الكريم، رب العالمين في القرآن الكريم يقسم بالنجوم: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}.. لماذا يقسم بمواقع النجوم في القرآن الكريم؟..
لأن آيات القرآن نظمها في القرآن كنظم النجوم في السماء، هنالك ترابط رغم التناثر، فالنجوم متناثرة ولكنها مترابطة.. وكأن أمير المؤمنين -والله العالم- يريد أن يوصل لنا هذه المعلومة، وهو أنه في مقام المناجاة مع رب العالمين، خُذوا بالمسلّمات؛ أي اجعل شفيعك بينك وبين الله -عز وجل- الأمور المسلمة.. إذا خانتك الجوارح، ولكن ألا يعترف قلبك بالربوبية؟.. ألست مسلما؟.. ألست موحدا؟.. يقول: (وَبَعْدَ صِدْقِ اعْتِرافي وَدُعائي خاضِعاً لِرُبُوبِيَّتِكَ).. أي أنا اعتقادي إنك رب، وهذا المعنى واضح!.. (وَاعْتَقَدَهُ ضَميري مِنْ حُبِّكَ)؛ أي يا رب العالمين أنا أحبك، جوارحي خانتني، ولكن عندما أنظر إلى قلبي أرى فيه ذلك الحب لك.
(وَبَعْدَ مَا انْطَوى عَلَيْهِ قَلْبي مِنْ مَعْرِفَتِكَ) طبعا هذه المعرفة معرفة إجمالية، أي قلبي يعرف بأن لك صفات الجلال والجمال والكمال.. إذن، يا رب انظر إلى باطني!.. باطني مؤمن، وفيه حب وإيمان.. يذكرنا هذا برواية جميلة عن الإمام الصادق (ع): (كان رجلٌ يبيع الزيت، وكان يحبّ رسول الله (ص) حباً شديداً، كان إذا أراد أن يذهب في حاجته لم يمض حتى ينظر إلى رسول الله (ص)، قد عُرف ذلك منه، فإذا جاء تطاول له حتى ينظر إليه.. حتى إذا كان ذات يوم دخل فتطاول له رسول الله (ص) حتى نظر إليه، ثم مضى في حاجته فلم يكن بأسرع من أن رجع.. فلما رآه رسول الله (ص) قد فعل ذلك أشار إليه بيده: اجلس!.. فجلس بين يديه، فقال: ما لك فعلت اليوم شيئاً لم تكن تفعله قبل ذلك؟.. فقال: يا رسول الله!.. والذي بعثك بالحقّ نبياً، لغشى قلبي شيءٌ من ذكرك حتى ما استطعت أن أمضي في حاجتي حتى رجعت إليك، فدعا له وقال له خيراً، ثم مكث رسول الله (ص) أياماً لا يراه.. فلما فقده سأل عنه، فقيل: يا رسول الله!.. ما رأيناه منذ أيام، فانتعل رسول الله (ص) وانتعل معه أصحابه، وانطلق حتى أتى سوق الزيت، فإذا دكان الرجل ليس فيه أحدٌ، فسأل عنه جيرته فقالوا: يا رسول الله!.. مات، ولقد كان عندنا أميناً صدوقاً، إلا أنه قد كان فيه خصلة قال: وما هي؟.. قالوا: كان يرهق، يعنون يتبع النساء.. فقال رسول الله (ص): رحمه الله، والله لقد كان يحبني حبّاً لو كان نخّاساً لغفر الله له)..  يبدو أن هذا الصحابي كان قلبه ممتلئا بحب النبي، ولكن عنده هذه الزلة الخفيفة، وطبعا النبي الأكرم -عليه الصلاة والسلام- ادّخر شفاعته لأهل الكبائر، فكيف بأهل الصغائر، وكيف بمن كان له هذا الحب الجامع في قلبه؟!..
فإذن، إذا خانتنا الجوارح في بعض الحالات، فلنحاول أن نبقي هذه الجذوة الباطنية المتمثلة في المعرفة والمحبة.. فالجناحان اللذان يطير بهما الإنسان في رحلة الملكوت، وفي السير إلى الله عز وجل هما: جناح المعرفة والاعتقاد والإذعان، وجناح الحب... ولكن كيف ينمي أو كيف يطور هذين الجناحين؟..
طبعا قسم منه تعلّم، وقسم منه تفكّر {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ}.. الإنسان عندما يصلي يقوم لصلاة الليل مثلا، يريد أن يستشعر الجانب العاطفي، ففي صلاة الليل هناك: استغفار، ومناجاة، وانقطاع إلى الله عز وجل.. ولكن لاحظوا المستحب، يستحب للإنسان عندما يقوم لصلاة الليل أن ينظر إلى السماء، يقول تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.. انظروا إلى التركيبة المتكاملة: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}، {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً}، {يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ}؛ أي أن الإنسان: إما قاعد، أو قائم، أو على جنبه؛ فهو في كل الحالات يستطيع ذكر الله عز وجل.. فإذن، هذه نقطة أمل للعصاة.
قد يقول قائل: كيف يجتمع هذا الحب مع المخالفة العملية؟.. ألا يستحي الإنسان أن يقول: (وَاعْتَقَدَهُ ضَميري مِنْ حُبِّكَ)،  وهو في مقام العمل يعصي؟..
الجواب: إن هذه المحبة الملقاة في قلب المؤمن، حب الله، وحب الرسول، وحب الأئمة عليهم السلام، وحب الأولياء، نحن نعتقد أنها هبة من الله عز وجل {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ}، فإذن، هذه منحة إلهية، وهذه المنحة لأنها منحة من الممكن أن تُسلب.. فأنت لست مالكا حقيقيا، أنت إنسان أعطيت هذه المزية، ولكن هذه المزية لها ضوابط، من الممكن أن يصل الإنسان في عالم المعصية إلى درجة من الدرجات أن المعصية تبلغ إلى مستوى معين، رب العالمين يعاقبه بسلب هذه المحبة والإذعان القلبي، والشواهد في التاريخ كثيرة، فالخوارج ماذا كانت مصيبتهم؟.. أن قلوبهم حسب الظاهر كانوا أصحاب عبادات، وكانت لهم في جباههم آثار السجود، ولكن خالفوا إمام زمانهم.. وهذه المخالفة أدت إلى أن تسلب منهم هذه الجوهرة (نور الولاية)، إلى درجة أنهم قد اتفقوا على قتل أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه.
فإذن، ليست هناك غمامة، ورب العالمين إذا رأى العبد عاكفا على المعاصي والذنوب في فترة من فترات حياته، يأخذ منه هذه المودة.. ولهذا نلاحظ في أيام مواسم عزاء أهل البيت، أن الناس أصناف: قسم في أيام محرم ترى عليه آثار البكاء والتأثر والحب الصادق، وقسم من الناس يسمع المقتل وصور العزاء وكأنه يسمع خبرا من الأخبار المتعارفة.. فهذا القلب ليس كذلك القلب.. هذا الحب يمكن أن يزول بممارسة المنكر والمعاصي، ونحن لا نعلم متى تأتي هذه العقوبة الإلهية!..
إن ضبط الجوارح والاستقامة العملية بحاجة إلى كلفة وإلى تعب، مثلا: شاب مراهق يختلي مع فتاة أجنبية ذات منصب وجمال، فيقول: إني أخاف الله؛ فهو يحتاج إلى جملة.. أو مال حرام يعرض عليك؛ فإن عدم قبوله يحتاج إلى همة.. ولكن مسألة الجوارح الأمر أسهل، أن يكون الإنسان ذاكرا لله تعالى.. هل يحتاج إلى معاناة شديدة، وإلى جهاد كبير؟..
هو يحتاج إلى التفات أن يُذكر الإنسان نفسه، {وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} نعتقد أن الثمرة جدا غالية، والذكر الدائم المتصل هذه أمنية أولياء الله، وفي نفس الوقت هو لا يحتاج أن تحمل سيفا لتقاتل به في سبيل الله، ولا يحتاج إلى معاندة مع النفس تلك المعاندة المكلفة.. إذن، لماذا لا نحاول على الأقل أن نفوز في هذا الجانب؟!..
وعليه، فإن المؤمن يحاول أن يعمل في هذا الحقل بكل ما أوتي من قوة، وهنالك أيضا مضمون رواية منسوبة إلى الإمام الجواد عليه السلام: (... القصد إلى الله -تعالى- بالقلوب، أبلغ من إتعاب الجوارح بالأعمال)؛ أي الحركة القلبية.. ونحن لا نجزم بل نحتمل: لو جُعلت صلاة الليل المتقنة مع الآداب الشرعية في كفة، وجُعل الذكر المتصل إلى ما قبل صلاة الليل في كفة، نحتمل -والله العالم- أن كفة الذكر المتصل والمستوعب لنشاطاتك في النهار والليل قد يكون -والله أعلم- أبلغ وأثقل من صلاة الليل في ربع ساعة أو في نصف ساعة.. صلاة الليل فيها قيام، وتهجد، وهجر للنوم الذي هو السلطان الأكبر، ولكن الذكر المتصل قد يكون في سفرة سياحية ممتعة: تنتقل من غابة، إلى بحيرة، إلى بستان؛ وأنت تعيش الذكر المتصل.. وهذا شيء غال وله قيمة كبرى، وفي نفس الوقت لا يكلف الكثير.
مشكلتنا نحن -بني آدم- أننا متكاسلون في العالمين: في عالم الجوارح، وفي عالم الجوانح.. نحن في زماننا هذا، في هذا القرن لدينا وسائل الرفاهية والراحة والتمتع في الحياة، ما لا تجعل للإنسان مجالا أن يترقى من باب المجاهدة.. لكن نقول: بأن القلب إذا صار عامرا بالذكر والحب والاعتقاد العميق، رب العالمين إذا أحب عبدا رضي منه القليل، هذا القليل من الطاعة: كالفرائض اليومية يكفي أن تكون مصليا صلاة واجبة، وصائما صوم الواجب، ومؤديا المال الواجب، وحاجا في العمر مرة واحدة؛ تفتح لك أبواب الجنان.. لأنك أرضيت ربك في باطنك، والجوارح شغلتها في العبادات الواجبة، رب العالمين قد يعطيك التعويض الكثير في نواقص هذا الطريق.. وعليه، فلنحاول في هذه الفقرات من دعاء كميل، أن نلقن أنفسنا هذه المعاني تلقينا.
أن يحب الإنسان الخاضع لقوانين المادة: ماديا، ومرئيا، ومسموعا.. فهذا طبيعي جدا؛ لأن الإنسان له عين وله سمع، يرى جمالا بشريا، ويسمع من هذا الجمال كلاما طيبا، ويرى لها ملمسا ناعما، فإنه طبيعي كله مادة في مادة: جمال ملموس، جمال مسموع، وجمال مرئي.. أن ينقدح الميل أمر طبيعي، ولكن كيف يمكن أن تنقدح هذه العواطف: كالحب والإذعان والاعتقاد، أو كما يقول علي (عليه السلام) في ختام دعاء كميل: (وَاجْعَلْ لِساني بِذِكْرِكَ لَهِجَاً، وَقَلْبي بِحُبِّكَ مُتَيَّماً)؛ المتيم إنسان يضرب به المثل: أن هذا وصل إلى أعلى درجات الحب، فكيف لمخلوق مادي أن يتعلق قلبه بما لا يُرى؟.. كيف للإنسان أن يجمع بين هذه الحواس المادية وبين من هو فوق الحواس؟..
الجواب على هذا التساؤل:
أولاً: نقول: العكس هو الصحيح، أن يتعلق الفؤاد أو الروح بعالم المادة هنا الغرابة، نحن نقول: الروح نفحة من الله عز وجل، نفخ في الإنسان من روحه.. والجامع بين الأرواح وبين رب الأرباب هو التجرد، فالروح مجردة من المادة بمعنى من معاني التجرد، والله -عز وجل- أيضا متجرد من المادة.. الروح جاءت من قبل الله عز وجل.. الجنين هذا الوجود المادي في الشهر الرابع تنفخ فيه الروح {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ}.
فإذن، إن الغرابة هي في عدم إدراك الجمال الإلهي، لا في إدراك الجمال الإلهي!.. ولكن المشكلة كل المشكلة في وجود هذا الغبار الذي غطى على قلوبنا، وطمس فطرتنا هذا أولا!..
ثانياً: هب أنك لم تعتقد بهذا الكلام، مثلا: قلت الروح الإنسانية رغم أنها مجردة إلا أنها في قالب الإنسان المادي، وبالتالي يرجع الإشكال إلى ما كان!..
نقول لهؤلاء: إن في عالم المادة أيضا هنالك شيئا يسمى التلقين، والتلقين مقدمة للتلقي، صحيح قالوا: إن الطبع يغلب التطبع، ولكن التطبع أيضا في بعض الحالات يوجب الطبع، مثلا: إنسان لا تميل إليه، ولكن عندما تسلم عليه صباحا، وتقدم له هدية كل يوم، وتدعوه إلى منزلك كل يوم.. بعد فترة ينقدح شيء من الأنس معه، إذا أنت ما رأيت منه إلا جميلا، وهو ما رأى منك إلا جميلا، نعم بعد فترة يتحول الأمر إلى مودة، وبعد المودة محبة عالية، إلى درجة بعض الأوقات نرى مؤمنين متعلقين ببعضهما أشد التعلق، ولا نرى فيهما ذلك التميز الذي يوجب التعلق؛ فكلاهما إنسان عادي، ولكن كثرة المراودة والسفر والاتصال والجلوس يوجب هذه المودة العميقة.
وبالتالي، فإن تلقين القلب هذا الحب الإلهي، حتى إن لم يكن موجودا، من المرجو بعد فترة أن هذا التلقين وهذا التطبع يوجب لك الطبع.. ولهذا بعض المؤمنين يقول: هل يجوز ويحق لنا أن نخاطب رب العالمين بكلمات الحب المتعارفة بين البشر؟..
نقول: نعم، ما المانع في ذلك!.. ألا يقول الإمام زين العابدين -عليه السلام- في مناجاته: (يا نعيمي وجنتي!.. ويا دنياي وآخرتي!.. يا أرحم الراحمين)، (أَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَحُبَّ كُلِّ عَمَلٍ يُوصِلُنِي إِلى قُرْبِكَ).. حتى لو قالها الإنسان من دون معايشة حقيقية، فإن إدامة ذلك القول من موجبات امتلاك هذا البعد الذي لا يقدر بثمن.

لازلنا على مائدة أمير المؤمنين في هذا الدعاء الشريف، الذي كتب له الخلود من بين الأدعية.. لا نعتقد أن هنالك دعاء في تاريخ البشرية، يتلى ويكرر في ليالي الجمعة كدعاء كميل.. هذا الدعاء منسوب إلى الخضر، ومنسوب إلى أمير المؤمنين، ومنسوب إلى كميل بن زياد.. رب العالمين بهذا الدعاء بيّن كرامة ولي من أولياء الله، وهو الخضر.. وكرامة وصي نبيه، أمير المؤمنين.. وكرامة أحد أصحابهم الذي فاز بصحبتهم، وهو كميل بن زياد.. هذا الدعاء يقرأ في ليالي الجمعة، وفي خصوص ليلة النصف من شعبان.
إن هذا الدعاء لأهميته وعظمته، فإن أمير المؤمنين يرتب عليه الأثر، حتى لو قرأ في العمر مرة واحدة.. أي إذا استجيبت المضامين، انتهى الأمر ولو بقراءة واحدة!.. لو أن إنسانا كان عند الحطيم، ويده على عتبة باب الكعبة، وقال والدموع جارية على خديه: (وَاجْعَلْ لِساني بِذِكْرِكَ لَهِجَاً، وَقَلْبي بِحُبِّكَ مُتَيَّماً)؛ إذا صار القلب متيما بحب الله عز وجل، واللسان صار لهجا بذكر الله عز وجل؛ فقد بلغنا الأماني وانتهى الموضوع!.. كل هذه الأدعية، وكل هذه العبادات؛ من أجل أن يصل الإنسان لهذه المرحلة: مرحلة الحب الإلهي في القلب، والذكر على اللسان.. وطبعا إذا كان الحب في القلب، والذكر على اللسان؛ فإنه من الطبيعي أن يكون هناك أيضا نور في الجوارح؛ وهو نور التعبد والطاعة.
يقول أمير المؤمنين (ع) في الدعاء: (اِلـهي وَمَوْلايَ)!.. فالإمام (ع) ينوّع في التعابير، يجمع بين الإله والمولى.. لماذا يجمع بينهما، ألا يكفي أن يقول: (يا َاِلـهي) أو يقول: (يا َمَوْلايَ)؟..
قد نفهم من هذه العبارة: أن الإنسان تارة ينظر إلى المقام الربوبي، بما فيه من صفات الجلال والكمال والعظمة.. وتارة ينظر إلى المقام المولوي، باعتبار ارتباطه بالعبد.. نحن مرة ننظر إلى صفات الملك أنه كريم، وأنه عالم.. ومرة ننظر إلى أن الملك هو ملك، وهو حاكم، ونحن تحت رعيته.. فننظر تارة إلى رب العالمين باعتبار صفاته العليا، له الأمثال العليا والأسماء الحسنى.. وتارة ننظر إلى الله -عز وجل- على أنه ولي لي، مولى لي.. وطبعا الذي مولاه رب العالمين، هذا الإنسان يعيش أعلى درجات العزة الباطنية (إلهي!.. كفى بي عزًا أن أكون لك عبدًا، وكفى بي فخرًا أن تكون لي ربًا).
فإذن، إن المؤمن تارة ينظر إلى جهة الرب، على أنه الرب الحاوي المستجمع لكل الصفات الجلالية والكمالية.. وتارة ينظر إلى الله عز وجل، بعنوان الحاكمية وأنه هو العبد.. وعليه، (اِلـهي وَمَوْلايَ)!.. هو إله بما له من الصفات، وأيضا هو مولى لي ولك.
من منا ليست له شكوى على عدو، العدو قد يكون مؤمنا، وقد يكون كافرا؟.. على كل حال الإنسان لا يخلو من عدو، حتى إذا كان الإنسان محبوبا لدى الجميع: عند الفاسق والمؤمن، وهذا قلّ ما يتفق أن يكون مرضيا عند الكل.. وإذا كان مرضيا عند الكل، يبقى موجود واحد لا يرضى عنه بحال من الأحوال، ألا وهو الشيطان اللعين الرجيم.. فالإنسان إما أن يكون له عدو من البشر، أو عدو من الجن، وأغلبنا لديه أعداء من الإنس والجن.. وهذا الإحساس إحساس مزعج، لماذا؟..
أولاً: يجعلنا نعيش حالة التوتر الباطني.. فالإنسان عندما يرى عدوه، أو عندما يسمع باسمه؛ فإنه يعيش حالة من التوتر، حتى لو كانت بينهما مشكلة قديمة وقد نسيت.. ولكن بمجرد أن يراه، تثار أحزانه وآلامه.
ثانيا: يخشى من كيد هذا العدو.. ونحن نعرف من صفات المؤمن: العدل في الرضا والغضب.. المؤمن إذا غضب، فإن غضبه لا يخرجه عن العدل.. ولهذا سمي المسلم: "مسلما"؛ لأن الناس سلموا من يده ومن لسانه، وهنيئا لمن وصل إلى هذه المرتبة!.. إن صلاة الليل من موجبات المقام المحمود، ولكن نعتقد أن ما هو أرقى من صلاة الليل، هو الملكات الباطنية.. إذا وصل أحدنا إلى هذه المرحلة - كلامنا على الأعداء- فهو على ألف خير، الخير منه مأمول، والشر منه مأمون.
فإذن، إن الإنسان لا يخلو من عدو، وبعض النصوص تدل على أن المؤمن مبتلى، (لو خلق المؤمن على رأس جبل، لا بد له من منافق يؤذيه).. ولاحظنا من خلال بعض التأملات، أن المؤمن إذا صار قويا في إيمانه؛ فإن الشياطين تستغل أضعف الحلقات حوله، مثلا: زوجته امرأة غير متدينة بكل معنى الكلمة، في هذه الحالة نلاحظ أن الشيطان يدخل إلى قلبه مستغلا زوجته، أو جاره، أو ابنه، أو زميله.. وعليه، فإن الذي يجعل الإنسان يرتاح من كيد الآخرين، هو أن يفوّض أمره إلى الله سبحانه وتعالى، {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}.
قد يقول قائل: إن الله -عز وجل- صحيح هو ولي، وهو مولى.. ولكن هل حتما يدافع عن المؤمنين؟.. نعم، {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ}، وهذا الدفاع ليس في الآخرة فحسب، بل أيضا في الدنيا!.. انظروا إلى تأييد الله -عز وجل- لحبيبه المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم- كيف نصره في مواطن عديدة من مكة إلى المدينة، والنصر الإلهي، والتأييد الإلهي معه.
فإذن، (اِلـهي وَمَوْلايَ)!.. عبارتان لو قالهما الإنسان في أحلك الظروف، لانتهى الأمر؛ فلا يحتاج إلى دعاء إضافي.. لأنه إذا اعتقد أن الله -عز وجل- مولى له؛ فإن ذلك يعطيه كمال الاطمئنان، وكمال الارتياح.
(اِلـهي!.. وَرَبّي مَنْ لي غَيْرُكَ أَسْأَلُهُ كَشْفَ ضُرّي، وَالنَّظَرَ في أَمْري).. هذا سر من أسرار الاستجابة، المؤمن الذي يدعو الله -عز وجل- وله أمل بمن سواه ينقطع أمله.. قال تعالى: (وعزتي وجلالي ومجدي وارتفاعي على عرشي!.. لأقطعن أمل كل مؤمل من الناس غيري باليأس...)، الإنسان عندما يدعو الله عز وجل، لابد أن يعيش هذا الاعتقاد الباطني.. ولهذا القرآن الكريم يصف أفسق الناس بأنه من المخلصين، عندما يكون في البحر، ويحيط به الموج من كل مكان: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}.. هل في هذا البحر على متن السفينة مؤمنين فقط؟.. بل حتى الفاسق يركب سفينة، ولكن عندما يأتيه الموج من كل مكان؛ فإن الفاسق يتحول إلى أعبد العابدين.. وإذا جاء إلى البر، صار فاسقا.. فهو قبل سويعات كان من أفضل الناس لماذا؟.. لأنه عاش الانقطاع إلى الله عز وجل.
وهنا نثير لفتة قرآنية: إن هذا الإحساس -إن صح التعبير- الطوفاني، لو عاشه الإنسان في الحياة الدنيا، وهو في بيته، وهو على فراشه؛ فإنه سيأتيه نفس ذلك الإخلاص الذي يأتي أصحاب السفينة، وهم محاطون بالأمواج العاتية.
إن أمير المؤمنين (ع) يريد أن يقول لنا: وأنت في الوطن، وأنت على البر، وبين أهلك وولدك؛ عش هذه الحالة: (إِلـهي وَرَبّي مَنْ لي غَيْرُكَ)؛ لأن الذين حولك هؤلاء كلهم ضعفاء مثلك.. أحد العلماء الأبرار -أطال الله في عمره- قال كلمة جميلة: (ما أقبح أن يستجدي الفقير من الفقير)!.. كلنا فقراء إلى الله عز وجل، لماذا تستجدي من هو مثلك في الفقر؟.. انقطع إلى من بيده الأسباب كلها، مالك الرقاب الغني الحميد، الذي لا يعجزه شيء!.. وعليه، فإن من أراد أن يدعو الله عز وجل، ليفرغ ما في فؤاده من كل تعلق بغيره.
ولكن هل معنى ذلك أنه لا ننقطع إلى الأسباب؟.. مثلا: أنا مريض وأقول: (إِلـهي وَ رَبّي مَنْ لي غَيْرُكَ)؟.. ولا أذهب إلى الطبيب؛ لأنه نحن منقطعون إلى الله، معنى ذلك أنه تنسد أبواب الأسباب!.. هذا كلام غير صحيح.. (إِلـهي وَ رَبّي مَنْ لي غَيْرُكَ)؟.. هذه الحالة باطنية، الإنسان يعيش هذا المعنى في قلبه لا في حركته الخارجية، نحن مأمورون بالسعي، عن أبي عبد الله (ع) قال: (إن نبيا من الأنبياء مرض فقال: لا أتداوى حتى يكون الذي أمرضني هو الذي يشفيني.. فأوحى الله عز وجل: لا أشفيك حتى تتداوى، فإن الشفاء مني والدواء مني.. فجعل يتداوى فأتى الشفاء).. إبراهيم الخليل (ع) عندما كان يمرض، وكان يراجع الطبيب، ولكن كان شعاره: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} هو الشافي وهو العالم بالأسباب.
فإذن، إن المؤمن عجيب، يجمع بين صفتين -حسب الظاهر- متناقضتين في قلبه، يقول: (إِلـهي وَ رَبّي مَنْ لي غَيْرُكَ)؟.. ولكن في مقام السعي من أنشط الناس، ومن أكثر الناس تعلقا بعالم الأسباب.. ولهذا قال أحدهم: رأيت الباقر (ع) وهو متكئ على غلامين أسودين، فسلّمت عليه فردّ عليّ على بُهر (أي انقطاع النفس من التعب)، وقد تصبّب عرقا فقلت: أصلحك الله لو جاءك الموت وأنت على هذه الحال في طلب الدنيا؟.. فخلّى الغلامين من يده، وتساند وقال: لو جاءني أنا في طاعة من طاعات الله، أكفّ بها نفسي عنك وعن الناس، وإنما كنت أخاف الله لو جاءني وأنا على معصية من معاصي الله.. فقلت: رحمك الله!.. أردت أن أعظك فوعظتني.. وكذلك فإن أمير المؤمنين (ع) كان من أكثر الناس نشاطا، كم من الآبار التي أحدثها أمير المؤمنين في المدينة أيام النبي الأكرم وبعد أيام النبي؟.. وله من الأوقاف ما له، وهذا ببركة جهده ويمينه.. حتى النبي الأكرم -صلى الله عليه وآله وسلم- عندما كان يقاتل، رغم علمه أن الله -عز وجل- يمده بالمدد، كان ينظم الجيش في معركة الخندق.. ما قيمة هذا الخندق: حفرة حفرها المسلمون، أوجبت لهم نصر الله عز وجل؟.. كما هو معروف أخذوا بمشورة سلمان الفارسي، عندما نصحهم بحفر الخندق أمام الأعداء.. والقرآن الكريم يقول: {إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ} إذن، { وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}.. النصر من عند الله، ولكن حفر الخندق أيضا أمر راجح.. فإذن، إن الذين يدعون ربهم بهذا المنطق، ولا يسعون في الحياة الدنيا؛ هؤلاء ليسوا على سنة الأنبياء في شيء.
(إِلهي وَمَوْلاي!.. أَجْرَيْتَ عَلَي حُكْماً اِتَّبَعْتُ فيهِ هَوى نَفْسي)؛ الإمام -عليه السلام- تارة يقول: (اِلـهي!.. وَرَبّي)!.. وتارة يقول: (إِلهي وَمَوْلاي)!.. تارة ينظر إلى جهة الربوبية، وتارة ينظر إلى جهة المولوية.. و(إلهي)!.. كلمة مشتركة بينهما كل الصفات.. ولكن ما معنى: (إِلهي وَمَوْلاي!.. أَجْرَيْتَ عَلَي حُكْماً اِتَّبَعْتُ فيهِ هَوى نَفْسي)؛ يوجد حكم إلهي، يوجب تبعية الهوى، ما هو هذا الحكم؟..
الله العالم من الممكن أن يكون التفسير: أن هذا الحكم هو الاختيار الثاني.. فرب العالمين جعلني مختارا، وزودني بأجهزة الخير والشر {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}.. من ناحية الإنسان له عقل يضبط سلوكه، فالعقل الباطني يقول له: أقبل!.. فيقبل، وإن قال له: أدبر!.. يدبر.. ولكن في نفس الوقت، جعل فينا الشهوة، وجعل فينا الغضب {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء}، يفسد فيها إشارة إلى البعد الشهوي، ويسفك الدماء إشارة إلى البعد الغضبي.. ولكن الملائكة لم تعلم بأن الله -عز وجل- أودع أميرا في هذا الوجود.. الغضب والشهوة رعيتان، والملك والحاكمية للعقل.. ولكن ما بال أحدنا قضى على هذا الملك؟.. في بعض البلاد تجتمع الرعية وتغتال الملك، عندما يصبح هناك انقلاب عسكري عليه؟.. ونحن كذلك بشهواتنا وغضبنا، قتلنا هذا الملك؛ ألا وهو العقل والضمير.. وعندئذ الرعية تعيث في الأرض فسادا.. فمملكة الوجود في الأصل كان فيها جهاز ضابط وحاكم، وهو العقل.. ولكن عندما تقوى الرعية في الشهوة والغضب، يصبح هذا الملك إما مقتولا أو معزولا، والملك المعزول لا يطاع.. ولا رأي لمن لا يطاع.
فإذن، إن رب العالمين جعل لك الاختيار، وجعل لك حاكما أمينا كالعقل، يمثل الأنبياء في وجودك.. ولهذا نحن بالعقل آمنا بالله عز وجل، وبالعقل آمنا بالأنبياء (ع).. هذا العقل جعل الله -عز وجل- له قيمة، أن جعله سُلّما للتوحيد وللنبوة.. وبالتالي، فإن هنالك عقلا، وهنالك رعية: هذه الرعية إذا كانت تحت حكم العقل، فهي رعية نافعة.. ولكن إذا تمردت الرعية على حكم العقل، فيقع ما يقع.. قابيل المسكين الغضب في وجوده قتل عقله، وعزله.. وإذا به في لحظة من اللحظات، يرتكب جريمة القتل الأولى في تاريخ الإنسانية.
وعليه، فإن على الإنسان في دعاء كميل، أن يطلب من الله -تعالى- أن يعينه على هذه الرعية: رعية الشهوة، والغضب، ويعينه أيضا على تمردها.. فهنالك رعية تتمرد، وهي رعية الشهوة والغضب.. وهنالك سلطان آخر في مقابل سلطان العقل أيضا، هذا السلطان المنافس يخشى على الرعية منه؛ ألا وهو الشيطان، فهو له دور في تقويض دعائم هذه المملكة الباطنية.

الأدعية والزيارات الصوتية

loading...

أدعية فلاشية

loading...

شرح الأدعية

loading...