طباعة

المطلب الأول: نشأة الديانة البوذية:

 نشأت الديانة البوذية كنظرية جديدة إصلاحية لحلِّ المشكلات المرتبطة بنظام الطبقات الهندوسي، ورَدَّة فعلٍ مناهضة للتعسُّف والإجحاف الناتج عن بعض القوانين التي يفرضها البراهمة على الهندوسيين وخاصة من أبناء الطبقات الدنيا كطبقة الـ(شودرا) طبقة العبيد والخدم(٤١٨)، ورغم أنَّ الديانة الهندوسية لا يعلم من أنشأها فعلى العكس منها الديانة البوذية فإنَّها تنسب لمؤسِّسها بوذا - الرجل المستنير- أو - المعلِّم - لقد ولد سذهاتا في عام (٥٦٣ ق.م)(٤١٩) في مدينة كابيلا فاستو تقع الآن على الحدود الهندية النيبالية، ولد يتيماً بعد أن توفَّت والدته في الأسبوع الأوَّل بعد ولادته، وعاش في نعيم مترف لأنَّه سليل الأُسرة المالكة المترَفة من قبيلة ساكيا التي تملك الأراضي الواسعة، واعتنى به أبوه ووفَّر له كل وسائل الترف واللهو والطرب، كي يشيح ببصيرة فكره عن الأفكار التي تتعلَّق بالتفكير بآلام الناس وزوال النعم والملذّات وقصر الحياة وزوالها وتقلُّبها من حال إلى حال(٤٢٠)، لكنَّه وفي سن التاسعة والعشرين فرَّ من قصر أبيه تاركاً زوجته وولده، هائماً في البراري والغابات مع ناسكين تتلمَذ على أيديهما فترة من الزمن، لكنَّه تركهما بعد أن علم أنَّهما ينهجان حياة النسك لتحصيل القدرات الخارقة والطاقات العظيمة وتسخيرها لذاتهما، أمَّا هو فكان يريد الوصول للمعرفة الحقَّة والحقيقة المطلقة الأزلية، والاستنارة بها وتحصيل حكمتها، فلم يَرُق له البقاء معهما، لذا سلك حياة النسك مع رهبان ناسكين وكان يشدِّد على نفسه وكان أكثرهم تقشُّفاً وتأمُّلاً وانغماساً في الزهد وأكثرهم تجرُّعاً للآلام الجسدية، لذا اختاروه معلِّماً لهم(٤٢١).
وبعد فترة طويلة من نهج حياة الزهد هجر هذه الحياة لأنَّه لم يحصل على ضالَّته من الحكمة، وتنكّر لحالة التقشُّف وهجر رفاقه من الناسكين، وعاد إلى طعامه وشرابه وكسائه وتوقَّف عن إماتة الشهوات بالجوع، وتبنّى منهج العقل السليم في الجسم السليم، فتفرَّق عنه النُسّاك، ولذا بقي وحيداً يسير وحده في الأراضي، حتَّى وصل إلى شجرة سُمِّيت فيما بعد بشجرة العلم أو الشجرة المقدَّسة، في غابة أورويلا، فجلس تحتها ليتفيَّأ بظلالها وقد سُمِّيت بعد ذلك بغابة بوذاكيا(٤٢٢)، وبقي تحتها برهة من الزمن ليتناول طعامه، عندها حصلت له الاستنارة(٤٢٣) التي كان ينشدها، فتجمع حوله الأتباع والمريدون، وبدأ بإرسالهم إلى القرى ليعلِّموا الناس شريعة بوذا الجديدة، التي أسماها بالنظام، فتقبَّلوها، خاصَّة الذين عانوا من نظام الطبقات، ثم وجدت طريقها إلى الصين لتنتشر تعاليم بوذا حتَّى تنافس الكونفوسوشية من حيث الانتشار والسعة وعدد المريدين(٤٢٤).
بعد حصول بوذا على الاستنارة أو النيرفانا(٤٢٥) فإنَّه قرَّر أن لا يحرم البشرية، هذه الحكمة الكبيرة، كما تشير المصادر، لذا قام بنشرها ليخلِّص الناس من الجهل والعمى، فقرَّر أن ينشر تعاليمه الجديدة التي أسماها النظام أو عجلة النظام وظلَّ يسير هذه العجلة وينشر أتباعه بين أرجاء المناطق المحيطة ببلدة بنارس قرب جبال الهملايا، وكان يوصي أتباعه بالخُلق والرحمة معتبراً معارضيه من الناس بأنَّهم جهلة ومرضى أصابهم العمى، وعليه مساعدتهم وإنارة دربهم، لذا اتَّسم تلامذته الذين اختارهم بعناية خاصَّة ليبعثهم إلى القرى والمدن، بالرحمة وحُسن الخُلق والتواضع وحسن السيرة(٤٢٦).
ولقد سجَّلت تعاليم بوذا بمجموعات مختلفة بلغة بالي وهي لغة شبيهة بالسنسكريتية، وقد كتبت هذه الشرائع في سريلانكا حوالي منتصف القرن الأول قبل الميلاد وتألَّفت من ثلاثة أقسام: أحاديث (سوترا بيتاكا)(٤٢٧) والتي تقسم على خمسة أقسام، وقانون الرهبنة (فينابا بيتاكا)(٤٢٨) والذي يحتوي قوانين سلك الرهبنة، وكذلك أطروحات علمية (الهيدامابيتاكا)(٤٢٩) وهي مجموعة أعمال علمية متأخرة قليلاً(٤٣٠).
***************
(٤١٨) شلبي، أديان الهند الكبرى: ص١٣٠.
(٤١٩) قيدارة، النظرية المهدوية في فلسفة التاريخ: ص٤١.
(٤٢٠) شلبي، أديان الهند الكبرى: ص١٣١.
(٤٢١) قيدارة، النظرية المهدوية في فلسفة التاريخ: ص٤٢.
(٤٢٢) حلمي، مصطفى، الإسلام والأديان دراسة مقارنة: ص٦٨.
(٤٢٣) وهناك قضى اليوم كله بل الليل كله في نزاع داخلي، حتَّى إذا بزغ نور الفجر، أشرق عليه نور الحق، ينبئه أن شقاء الحياة وعنائها وضجرها تنبعث من رغبات النفس، وأنَّ الإنسان مستطيع أن يكون سيد رغباته لا عبداً لها، وأن في مقدوره الإفلات من هذه الرغبات بقوة الثقافة الروحية الداخلية ومحبة الآخرين. ينظر: سعيد، أديان العالم: ص٩٤.
(٤٢٤) بارندر، جيفري، المعتقدات الدينية لدى الشعوب، ترجمة: عبد الفتاح إمام، (الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون، ١٤١٤هـ/١٩٩٣م)، ص١٧٩.
(٤٢٥) النيرفانا: ومعناها المنطفئ، أي كما ينطفئ المصباح أو النار، أمّا الكتب البوذية فتستعملها بمعاني:
١- حالة السعادة يبلغها الإنسان في الحياة بإقلاعه عن كل شهواته الجسدية اقتلاعاً تاماً.
٢- تحرير الفرد من عودته إلى الحياة وانعدام تصوره - أي الفرد - بعودته إلى الحياة مره أخرى. ويعتقد البوذيون أنَّ الذي يبلغ النيرفانا يخرج من دائرة الألم والسرور ويصبح فوق الأحزان والأفراح. ينظر: ينظر مهدي، البحث عن منقذ: ص٦٢.
(٤٢٦) شلبي، أديان الهند الكبرى: ص١٥٢.
(٤٢٧) سوترا بيتاكا: وهي مجموعة الكتابات الأصلية، وتتضمن الحوارات التي دارت بين بوذا ومُرِيديه. وتكونت من خمس مجموعات هي النصوص الطويلة، والنصوص المتوسطة الطول والنصوص المَجمعة، ونصوص متنوعة، ثم مجموعةٌ من النصوص المختلفة الأخرى. وتتضمَّن المجموعة الأخيرة روايات كثيرة عن الكينونات السابقة التي عرفها بوذا التاريخي، بالإضافة إلى بعض القصص المختصرة عن التعاليم التي تتعرض إلى الأخلاق وكيفية ضبط النفس، ويستحب الناس هذه القصص كثيراً، نظراً للعبر التي تتضمنها.
(٤٢٨) فينايا بيتاكا: وهي الكتابات التي تتعرض للجانب التنظيمي والأخلاقي لحياة الرهبنة، وتتضمن حوالي مائتين وخمس وعشرون قاعدة، حول سلوك الرهبان والراهبات البوذيات. رتبت هذه القواعد حسب حجم الضرر الذي يترتب عن تركها، كما أرفقت بقصة تحكي أهميتها.
(٤٢٩) أبهيدارما بيتاكا: وتتضمن مناقشات في الفلسفة، العقائد وغيرها من الموضوعات التي تمس العقيدة البوذية. قسمت إلى سبعة أقسام يتضمن كل منها تقسيمات للظواهر النفسانية، وتحليلات متعددة لظواهر ما وراء الطبيعة. نظراً لطبيعة المواضيع التي تتعرض لها هذه الكتابات، فقد نفرَ منها عامة الناس، واقتصرت دراستها على بعض الرُهبان المُتمكنين.
(٤٣٠) كيون، دامني، مدخل إلى البوذية، ترجمة: سعد الدين خرفان، (بلا. م)، ١٤٢٨هـ/٢٠٠٧ م)، ص٢١.