طباعة

أسباب استدعاء الإمام وسجنه :

أولاً ـ الخوف من عمل الإمام عليه‌السلام :
وتلك عقدة لم تفارق غالبية الحكام العباسيين ومن قبلهم الأمويين ، فجميعهم يساورهم الشك بعمل الأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام ويعتقدون أنهم يمتلكون من القوة والهيبة ما يستطيعون إزاحتهم عن عروشهم ، هذا مع قناعة بني العباس بابتعاد الإمام الكاظم عليه‌السلام عن واقع الحياة السياسية.
يروى أن هارون اللارشيد لعنه الله لما صار إلى المدينة وصل كل هاشمي أو قرشي أو مهاجري أو أنصاري ممن دخل عليه بخمسة آلاف درهم وما دونها إلى مائتي دينار ، على قدر شرفه وهجرة آبائه ، وحين دخل الإمام الكاظم عليه‌السلام رحّب به ، وعند منصرفه من الحج أمر بصرّة سوداء فيها مائتا دينار أرسلها إليه ، فسأله المأمون وكان جريئاً عليه : يا أمير المؤمنين ، تعطي أبناء المهاجرين والأنصار وسائر قريش وبني هاشم ومن لا يعرف حسبه ونسبه خمسة آلاف دينار إلى ما دونها ، وتعطي موسى بن جعفر وقد أعظمته وأجللته مائتي دينار ؟! أخسّ عطية أعطيتها أحداً من الناس. فقال : اسكت لا أمّ لك ، فاني لو أعطيت هذا ما ضمنته له ، ما كنت آمنه أن يضرب وجهي غداً بمائة ألف سيف من شيعته ومواليه ، وفقر هذا وأهل بيته أسلم لي ولكم من بسط أيديهم وأعينهم (١).
وهذه الذريعة عينها التي جعلت سلطة السقيفة تمنع الزهراء عليها‌السلام نحلتها ، وبقي الحكام بعدهم يحركون عجلة الحرب الاقتصادية ، ويضيّقون على آل البيت عليهم‌السلام ويقللون من أعطياتهم لسلب القدرة الاقتصادية التي قد تمكّنهم من استعادة سلطانهم المسلوب والتفاف الأنصار حولهم.
وخوف هارون الطاغية اللعين من الإمام يتجلى من خلال تصريح سليمان ابن المنصور عم هارون ، حين قيل له : هذا موسى بن جعفر مات في الحبس ، فأمر هارون أن يدفن بحاله. فقال سليمان : موسى بن جعفر يدفن هكذا ! فإن في الدنيا من كان يُخاف على الملك ، في الآخرة لا يوفّى حقه ؟ (2).
ثانياً ـ الحقد والغيرة :
إن دأب الطغاة في كل عصر هو احتكار أسباب العظمة والتعالي لذواتهم ، فتستعر نفوسهم غيرة وحقداً على كل شخصية مرموقة في المجتمع ، ويزداد ذلك كلما كان الحاكم على مستوى متدنٍ في سيرته وخلقه ، فلم يرق له أن يسمع الناس وهم يتحدثون عن شخص تجتمع فيه الكمالات الروحانية والفكرية قولاً وعملاً ، ويعدّ اختصاراً لشخص الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله في مظاهر العظمة من العبادة ورجاحة العلم والحلم والزهد والكرم والشجاعة وغيرها.
إن بغض أهل البيت عليهم‌السلام ثقافة يرثها الحاكم عن أسلافه ويتقرب بها إليه أخلافه ، ففي رواية الشيخ الصدوق عن المأمون يقول : ما زلت أحب أهل البيت وأظهر للرشيد بغضهم تقرباً إليه (3).
وما ذنب الأئمة عليهم‌السلام حتى يُحقد عليهم إذا أحب الناس العلم وأهله والحق ومن انتصر له ؟ ذنبهم الوحيد عند الطغاة أنهم ورثة الأنبياء عليهم‌السلام ، وأنهم أئمة حق وهدى وغيرهم أئمة باطل وضلال.
وتتجسد غيرة هارون اللئيم من الإمام الكاظم عليه‌السلام في موقف افتخر فيه الإمام عليه‌السلام على هارون حين جاء مكة حاجاً ، فأتى قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله زائراً له وحوله قريش وأفياء القبائل ومعه موسى بن جعفر عليهما‌السلام ، فلما انتهى إلى القبر قال : « السلام عليك يا رسول الله يا بن عمي. افتخاراً على من حوله ، لأنه كان في مقام استعراض ، لذلك يريد التضليل على الناس بالايحاء بأنه أقربهم إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبذلك فهو أحق بالخلافة.
فدنا موسى بن جعفر عليهما‌السلام فقال : السلام عليك ، يا أبة. وزاد في رواية اُخرى : أسأل الله الذي اصطفاك واجتباك وهداك وهدى بك أن يصلي عليك. فتغير وجه هارون وتبين فيه الغضب ، وقال : هذا الفخر يا أبا الحسن حقاً. ولم يحتملها هارون ، فلم يزل ذلك في نفسه حتى استدعاه وسجنه فأطال سجنه فلم يخرج إلاّ ميتاً مقيداً مسموماً » (4).
ثالثاً ـ الوشاية :
ذكر المؤرخون عدة ممن وشوا بالامام عند هارون ليزدادوا قرباً إليه وينالوا من حطام دنياه ، بدعوى قديمة جديدة هي أن الإمام عليه‌السلام تجبى له الأموال الطائلة من شتى ديار الإسلام ، وأنه يدعو إلى نفسه بالخلافة ويكتب إلى سائر الأمصار بذلك ، وأن الناس يبايعون له ، وما إلى ذلك من البهتان الذي اُعد سلفاً قبل حمل الإمام عليه‌السلام إلى العراق ، وقد تعاون جماعة من رجال البلاط على اختلاق تلك التهم وبذلوا الأموال الطائلة في سبيل اغراء بعض الجماعات المقربة من الإمام عليه‌السلام كي توقع به وتدلي بدلوها أمام الرشيد ، ومع أن الأخير قد ثبت لديه بالدليل بطلان ما يقولون لكنه كان مصراً على تنفيذ مآربه إلى النهاية.
__________________
(١) عيون أخبار الرضا ١ : ٨٨ / ١١.
(2) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٤٤١.
(3) أمالي الصدوق : ٣٠٧ / ١ ، عيون أخبار الرضا ١ : ٩٣ / ١٢.
(4) تاريخ بغداد ١٣ : ٣١ ، وفيات الأعيان ٥ : ٣٠٩ ، سير أعلام النبلاء ٦ : ٢٧٣ ، البداية والنهاية ١٠ : ١٩٧ ، اعلام الورى ٢ : ٢٨ ، كامل الزيارات : ١٨ ، الكافي ٤ : ٥٥٣ / ٨ ، تهذيب الأحكام ٦ : ٦ / ٣ ، اسعاف الراغبين / ابن الصبان : ٢٤٨ ، الصواعق المحرقة : ٢٠٢.