طباعة

8 ـ باب ( فيما روته العامَّة مِن أنَّ جاريةً كانت تضرب بالدَّفِّ بين يدي النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وتُغنِّي ثمَّ دخل عمر فألقت الدَّفِّ ) ( * ) .

1 ـ روى الترمذي بسنده ، عن عبد الله بن بريدة ، يقول : خرج رسول الله ( صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ) في بعض مغازيه ، فلمَّا انصرف جاءت جارية سوداء ، فقالت : يا رسول الله ، إنِّي كنتُ نذرت إنْ ردَّك الله صالحاً ، أنْ أضرب بين يديك بالدَّفِّ وأتغنَّى .
فقال لها رسول الله : ( إنْ كنتِ نذرتِ فاضربي ، وإلاَّ فلا ) .
فجعلت تضرب ، فدخل أبو بكر وهي تضرب الطَّبل ، ثمَّ دخل عليٌّ وهي تضرب الطَّبل ، ثمَّ دخل عثمان وهي تضرب ، ثمَّ دخل عمر فألقت الدَّفَّ تحت إسْتِها ، ثمَّ قعدت عليه .
فقال رسول الله ( صلّى الله عليه  [ وآله ] وسلّم ) : ( إنَّ الشيطان ليخاف منك يا عمر ؛ إنِّي كنت جالساً وهي تضرب ، فدخل أبو بكر وهي تضرب ، ثمَّ دخل عليٌّ وهي
تضرب ، ثمَّ دخل عثمان وهي تضرب ، فلمَّا دخلت أنت يا عمر ألقت الدَّفَّ ) ( 1 ) .
قال الترمذي : وفي الباب عن عمر وسعد بن أبي وقاص وعائشة انتهى .
ورواه ابو داود ، فيما يؤمر به مِن الوفاء مِن النذر ( 2 ) ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جَدِّه ، باختلاف في اللفظ وباختصار .
ورواه أحمد بن حنبل ، عن ابن أبي أوفى ، باختلاف واختصار ويسير ( 3 ) .
2 ـ روى المُحبُّ الطبري ، عن عائشة ، قالت : دخلتْ امرأة مِن الأنصار عليَّ ، فقالت : إِنِّي أَعطيت الله عهداً ، إذا رأيت النبي ( صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ) في أمنٍ ، لأنقُرنَّ على رأسه بالدَّفِّ [ قالت عائشة : ] فأخبرت النبي ( صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ) بذلك .
فقال : ( قولي لها : فلتفِ بما حلفت ) .
 فقامت بالدَّفِّ على رأس النبي ( صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ) ، فنقرت نقرتين أو ثلاثاً ، فاستفتح عمر ؛ فسقط الدَّفُّ مِن يدها ، وأسرعت إلى خِدر عائشة .
فقالت : لها عائشة ما لك ؟!
قالت : سمعت صوت عمر فهِبْتُه .
فقال رسول الله ( صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ) : ( إنَّ الشيطان ليفرُّ مِن حِسِّ عمر ) .
قال : أخرجه ابن السمان في الموافقة ( 4 ) .
ثمَّ إنَّ ههنا حديثين آخرين ، يُناسب ذكرهما في خاتمة هذا الكتاب :
3 ـ أحدهما : ما رواه أبو نُعيم بسنده ، عن الأسود بن سريع ، قال : أتيت النبي ( صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ) ، فقلت: قد حمدت ربِّي بمحامِدَ ومدحٍ وإيَّاك .
فقال : ( إنَّ ربَّك عَزَّ وجَلَّ يُحبُّ الحمد ) ، فجعلت أُنشده ، فاستأذن رجل طويل أصلع .
فقال لي رسول الله ( صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ) : ( أسكُت ) .
فدخل ، فتكلَّم ساعة .
ثمَّ خرج فأنشدته ، ثمَّ جاء فسكَّتني النبي ( صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ) فتكلَّم ، ثمَّ خرج ففعل ذلك مَرَّتين أَو ثلاثاً .
فقلت : يا رسول الله ، مَن هذا الذي أَسكتَّني له .
فقال : ( هذا عمر رجُل لا يُحبُّ الباطل ) .
ثمَّ رواه بطريق آخر عن الأسود التميمي ، قال :
قَدِمت على النبي ( صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ) ، فجعلت أُنشده ، فدخل رجُل طوال أقنى .
فقال لي : ( أمسك ) .
فلمَّا خرج ، قال : ( هات ) ، فجعلت أُنشده ، فلم ألبث أنْ عاد .
فقال لي : ( أمسك ) .
فلمَّا خرج ، قال : ( هات ) ، فجعلت أُنشده ، فلم ألبث أنْ عاد .
فقال لي : ( أمسك ) .
فلمَّا خرج ، قال : ( هات ) .
فقلت : مَن هذا ـ يا نبيَّ الله ـ الذي إذا دخل قلت : أمسِك ، وإذا خرج قلت : هات ؟
قال : ( هذا عمر بن الخطاب ، وليس مِن الباطل في شيء ) ( 5) .
4 ـ ثانيهما : ما رواه الإِمام أحمد بن حنبل بسنده ، عن السائب بن يزيد : أنَّ امرأة جاءت إلى رسول الله ( صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ) .
فقال : ( يا عائشة ، أتعرفين هذه ؟ ) .
قالت : ( لا ، يا نبيَّ الله ) .
فقال : ( هذه قينة بني فُلان ، تُحبيِّن أنْ تُغنيِّك ؟ ) .
قالت : نعم .
[ قال : ] فأعطاها طبقاً ، فغنَّتها .
فقال النبي ( صلّى الله عليه وسلّم ) : ( قد نفخ الشيطان في مِنخريها ) ( 6 ) .
المؤلِّف : إنَّ الضرب بالدَّفِّ هكذا والتغنَّي ، إنْ كان حراماً شرعاً ، فكيف يَحلُّ بالنذر ، ويُرخِّص فيه النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ؟!!
وهل يُعقل أنْ يَحلَّ الحرام الشرعي كالزنا ، وشرب الخمر ، واللعب بالقمار ، ونحو ذلك بالنذر ؟! كلا
وإنْ كان حلالاً ذاتاً ، أو فرضنا أنَّ الحرام يَحلُّ بالنذر ـ كما هو ظاهر ما نسبه الراوي إلى النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، مِن قول : ( إنْ كنتِ نذرتِ فاضربي ، وإلاَّ فلا ) ـ فلا وجه لإلقاء الجارية الدَّفَّ تحت إسْتِها وقعودها عليه ، بمُجرَّد أنْ دخل عمر ؟
فكأنَّ عمر أعلم بالحلال والحرام مِن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ؟!!
أوَ كان أتقى منه لله وأبعد مِن الإِثم ؟!!
ثمَّ لا وجه لأنْ يقول النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بعد كون الضرب بالدَّفِّ حلالاً ذاتاً ، أو فرض أنَّه يصير حلالاً بالنذر : ( إِنَّ الشيطان ليخاف منك يا عمر ) ، فعبَّر عن الجارية التي تضرب بالدَّفِّ وتُغنِّي بالشيطان !
ثمَّ هل يُعقل أنْ يخاف الشيطان مِن عمر ويَفرُّ منه ، ولا يخاف مِن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، ولا يفرُّ منه ، بلْ يضرب بين يديه بالدَّفِّ ويُغنِّي ؟!!
أوَ ليس كلُّ ذلك باطلاً في باطلٍ .
ونظير ذلك في البطلان الرواية الثالثة ؛ فإنَّ ما أنشده الأسود للنبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إنْ كان مِن الشعر الباطل ـ كما يظهر مِن قول النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( هذا عمر رجل لا يُحبُّ الباطل ) ـ فكيف يُحبُّه النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ولا يمنع عنه ؟!!
وهل يُعقل أنَّ عمر لا يُحبُّ الباطل ؛ ولذا أمر النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أسوداً بالسكوت بمُجرَّد أنْ دخل عمر ، والنبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يُحبُّه ؟!!
وأمَّا إذا لم يكُن هو مِن الشعر الباطل ـ كما هو ظاهر قول الأسود : قد حمدت ربِّي بمحامدَ ومدح وإِيَّاك ، فلا معنى لأمر النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أسوداً بالسكوت ، كلَّما دخل عمر ؛ مُعلِّلاً بأنَّه رجل لا يُحبُّ الباطل ، أو أنَّه ليس مِن الباطل في شيء .
وأبطل مِن الجميع الرواية الرابعة ، المُشتملة على قول النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لعائشة :
( هذه قينة بني فلان ، تُحبِّين أنْ تُغنِّيك ؟ )
قالت : نعم ، فأعطاها طبقاً ، وقال ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ـ بعدما غنَّت ـ : ( قد نفخ الشيطان في مِنخريها ) .
فإنَّها قد فعلت أمراً حلالاً جايزاً ، في حضور النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وبأمره وبإذنه ، وإنْ كان حراماً ، فكيف يأمر النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بالحرام ، لأجل عائشة ، بمُجرَّد أنْ تُحبَّ ذلك وتستأنس به ؟!
أوَ ليس ذلك بأبطل مِن الجميع ، وأفسد مِن الكلِّ .
فأنصفوا في المقام ـ أَيُّها المُنصفون ـ واحكموا فيه بالحقِّ إِذا حكمتم أيُّها المؤمنون .
هذا آخر ما أراد الله لنا إيراده في هذا الكتاب ، والحمد لله أوَّلاً
وآخراً وظاهراً وباطناً ، وقد وقع الفراغ في الخامس والعشرين مِن
شهر ربيع الثاني ، سنة 1386 ، بقلم المؤلِّف وبتحرير يده .
مُرتضى الحسيني
ـــــــــــــــــــ
( * ) فيه أربعة أحاديث .
( 1 ) سُنن الترمذي : 5/621 ، تحقيق وتعليق إبراهيم عطوة .
( 2 ) سُنن أبي داود: 3/103 ـ 104 تحقيق سعيد محمد اللّحام.
( 3 ) المُسند : 4/353 ، وفي : /5/353 ، في حديث بريدة الأسلمي ، كما تقدَّم عن الترمذي ، باختلاف يسير . كنز العمَّال : 6/338 ، وقال المُتَّقى ـ بعد ذكره الحديث ـ : أخرجه أحمد ، وأبو يعلى ، وابن عساكر . راجع : الكنز ط . حيدر آباد ـ الهند .
( 4 ) الرياض النضرة للمُحبِّ الطبري : 2/300 ـ 301 .
( 5 ) حلية الأولياء : 1/46 . رياض النّضرة : 2/302 ، وقال : أخرجه أحمد . عن الأسود بن سريع .
( 6 ) مُسند الإمام أحمد : 3/449 .