• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

مشاهد من عمق التاريخ والإنسان (المشهد الثالث)

المدينة المنورة عام 132 هـ
عالم الوقائع عالم متزلزل، يموج بالبشر، ويموج بالحوادث، عالم يزخر بالبروق والرعود والأمطار، عالم تعصف به الريح من كل مكان، أما الحقائق فعالم غارق بالهدوء.. ثابت ثبات الجبال، هادئ كالبحيرة. عالم رائق كالنور، مفعم بالسكينة والطمأنينة والسلام، فإذا عاش الانسان في عالم الوقائع عاش قلقاً، نهباً للهواجس والمخاوف والاضطراب، يتحول ليله الى أرق طويل، وتتغير حلاوة العيش الى مرارة لا تطاق..
أما الإنسان الذي يعيش في عالم الحقائق، فهو ابن تلك البيئة المدهشة بثباتها، وصفائها، وإشراقها، هكذا عاش الإمام الصادق.. كانت الأرضية الإسلامية تهتزّ بعنف.. آلاف الدسائس والمؤامرات تحاك في الظلام، وقد بات كل شيء في العالم الإسلامي قلقاً، العقائد تتزلزل في النفوس، ولم يعد هناك من ثبات.. مع سنابك خيل قادمة من الشرق ورجال يرفعون رايات سود.
وجلس وارث النبوات في محرابه، كان ضوء الأصيل قد تسرّب من كوّة صغيرة فبدت كشلال من نور، يغمر أرضية الحجرة الطينية المفروشة بحصير منسوج من خوص النخيل.
الصمت يغمر المكان، ما خلا تمتمات دعاء ينساب بحزن.. وشيئاً فشيئاً انسحب الضوء، وانطفأت الكوّة المضيئة وخيم الظلام لكأنه كامن في أجزاء الحيطان والسقف، وحتى الكوّة نفسها استحالت الى نبع من الليل القادم.
كانت رياح كانون القارسة تجوس المدينة... دخل «معتب» بهدوء يمشي على أطراف أصابعه، لم يكن يريد أن يعكّر الصفو المهيمن في المكان، كان همّه أن يوقد السراج ويعود لشأنه، تاركاً سيّده في استغراقه الصلاة.
وعندما انبعث الضياء من السراج; ارتفعت دقّات حذرة وخفّ معتب ليعرف من يكون القادم في هذا البرد والليل.. وما أسرع ما يعود ليقول:
ـ إنه سدير يا سيدي.. سدير الصيرفي ومعه رجل ملثّم ،
أجاب سليل النبي:
ـ ليدخلا
جلس سدير في حضرة الإمام، وقال معرّفاً الرجل الملثّم:
ـ إنه رجل من شيعتك يحمل اليك رسالة من أبي سلمة الخلاّل.
أخرج الرجل رسالة مطوية بعناية وسلّمها باحترام.
الكلمات القادمة من أحد قادة الثورة العباسية ورجالاتها تحمل معسول الوعود.. وقد جاء فيها: آن للحق أن يعود الى أصحابه الحقيقيين، وآن للخلافة أن ترجع الى أهلها، وآن لوارث علي أن يعود الى عاصمة أبيه.
رفع الإمام عينيه وخاطب معتباً:
ـ ادن مني السراج.
تساءل سدير في نفسه: ألم يكن الضوء كافياً؟
لم تطل حيرة الصيرفي بعد أن رأى الصادق يدني الرسالة من لهيب السراج، فالتهمت النار الكلمات والوعود واحترقت، ثم استحالت الى رماد ودخان، وارتسمت على وجه الصيرفي أمارات الدهشة، فيما هتف الملثّم:
ـ والجواب؟
أشار الصادق الى الرماد، وقال:
ـ هذا جواب كتابه.
السراج ما يزال يبعث الضوء، وقدراً من الدفء، ونهض الرجل الملثّم، وغادر المكان بصمت.
لم يطق سدير المشهد، فقال بلهجة يشوبها عتب:
ـ يا أبا عبدالله، ما يسعك القعود؟
ـ ولم يا سدير؟
ـ لكثرة مواليك وشيعتك وأنصارك.
ـ يا سدير وكم تقدّر أن يكونوا؟
ـ مئة ألف.
ـ مئة ألف؟!
نعم، ولو شئت قلت: مئتي ألف.
قال الذي يعيش في عالم الحقيقة:
ـ لوكان عندي عدد أصحاب النبي في بدر; لنهضت.
كان نور السراج ينعكس على وجه سدير، وقد ارتسمت علامات استفهام في عينيه، وماجت في أعماقه آلاف التساؤلات :
وتلك الآلاف المؤلفة في خراسان، وهذه الرسائل التي تأتيه من الكوفة وغيرها؟
وتذكر سدير لقاء الإمام مع مبعوث أبي مسلم الخراساني الذي نقل اليه رسالة جاء فيها: «إني قد أظهرت الكلمة، ودعوت الناس الى موالاة أهل البيت، فإن رغبت; فلا مزيد عليك».
ولم يزد الإمام أن قال لمبعوث الخراساني:
ـ قل له: ما أنت من رجالي، ولا الزمان زماني.
تساءل سدير في نفسه: كيف يطيق أبوعبدالله هذا الصمت، وقد انفجر الزلزال في الأرض التي تخرج منها الشمس؟ كيف يطيق هذا السكوت، وصرخات آلاف الخراسانيين تملأ الخافقين تدعو الى «الرضا من آل محمد»؟
نظر الصادق الى صاحبه الحائر، أراد أن يعلمه أن هذا الزمن هو زمن التغيير الحقيقي، زمن الصمت المدوّي; قال في صوت فيه أصداء النبوّات:
ـ كونوا لنا دعاة صامتين.
تساءل الصيرفي:
ـ وكيف ندعو ونحن سكوت؟!
أجاب الصادق:
ـ تعملون بما أمرناكم به من طاعة الله، وتعاملون الناس بالصدق والعدل، وتؤدون الأمانة، وتأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، ولا يطلع الناس منكم إلاّ على خير، فإذا رأوا ما أنتم عليه علموا فضل ما عندنا فعادوا اليه.
ونهض سدير، وقد أضاءت له الكلمات الصادقة السبل، أدرك أن تغيير العالم يبدأ من هنا; من أعماق النفس، ذلك: «إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم».


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page