المكان: «قصر الحيرة على بعد 80 كم من آثار تدمر عاصمة زنوبيا»
الزمان: 111 هـ
كان هشام بن عبدالملك متربعاً فوق سريره المرصّع بالجواهر، وفي حضرته عُلية القوم وقادة الجيوش، وفي يد كل منهم قوس، وهم يُريشون سهامهم نحو هدف في آخر البلاط.
وأذن الخليفة الأحول للإمام الباقر وابنه جعفر بالدخول بعد أن أوقفهما ثلاثة أيام إمعاناً في القهر...
ولم يأت الإمام بإرادته، وإنما هي رغبة في قلب مريض ونفس مثقلة بالعُقد.. رغبة مريض يشعر بالمهانة; فأراد أن يعوّض ذلك باستدعاء من يخشى الحكام وجوده.
ناول هشام الإمام الباقر قوساً وراح ينظر اليه بعينه الحولاء متشفياً:
ـ يا محمد إرم مع أشياخ قومك هذا الغرض.
أجاب أبو جعفر وقد أدرك ما يرمي إليه الأحول:
ـ إني قد كبرت عن الرمي فاعفني.
برق التشفّي في عين هشام لقد حانت لحظة الانتقام من شيخ آل أبي طالب، سوف يتندّر به عندما تطيش سهامه هنا وهناك وسط قهقهة الآخرين; لهذا هتف منتشياً:
ـ كلاّ.. لابد أن تشارك قومك في الرمي!
أمسك أبو جعفر بالقوس ووضع سهماً في كبده ورمق الهدف بنظرة ثاقبة وحانت لحظة الانطلاق..
هتف أحدهم مأخوذاً وهو يتأمل السهم ثابتاً في قلب الهدف .
ـ يا لها من رمية!
أخذ الباقر سهماً آخر وسدّده باتجاه الهدف فأصاب نصل السهم الأول، وانطلقت السهام العلوية يتبع بعضها بعضاً; حتى تكاملت تسعة أسهم بعدد آيات موسى بن عمران.
نسي هشام للحظات حقده، نسي كل أهدافه ومراميه، أو رآها تتهاوى أمام سهام علوية فهتف مبهوراً:
ـ أجدت يا أبا جعفر.. أنت أرمى العرب والعجم.
وأردف وهو يقوده الى سرير الملك:
ـ يا محمد لا تزال العرب والعجم تسودها قريش مادام فيهم مثلك، لله درّك!من علّمك هذا الرمي؟ وفي كم تعلمته؟
أجاب جعفر بأدب الأنبياء:
ـ تعلمته أيام حداثتي ثم تركته.
تساءل هشام وقد انتبه الى وجود جعفر:
ـ ما أظن أن في الأرض أحداً يرمي مثل هذا الرمي! أيرمي جعفر مثل رميك؟!
أجاب الباقر وهو يسدّد سهماً من نوع آخر:
ـ نحن أهل بيت نتوارث الكمال والتمام، أنزلهما الله على نبيه في
قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً).
وشعر هشام بلسع الكلمات فقال بغيظ وحقد:
ـ من أين ورثتم هذا العلم وليس بعد محمّد نبيولا أنتم أنبياء؟!
قال الذي بقر العلم:
ـ ورثناه عن جدّنا علي وقد قال: «علّمني رسول الله ألف باب من العلم ينفتح عن كل باب ألف باب».
انسحب هشام الى نفسه، وقد رفع راية الهزيمة، واجتاحته آلاف الشكوك والهواجس، إنه ليس أمام رجل أعزل كما كان يتصور، إنه أمام حسين آخر، أمام رجل يحمل ملامح علي.. علي الذي ما يزال سنا سيفه يخطف بالأبصار.
مشاهد من عمق التاريخ والإنسان (المشهد الأوّل)
- الزيارات: 10013