طباعة

وأمّا حجّه (عليه السلام)

وأمّا حجّه (عليه السلام)

 

فكان ينفرد عن الناس ويغيّب وجهه عمّن معه ويشتغل بعبادة ربّه ، يقول شقيق البلخي: خرجت حاجاً فنزلتُ القادسية فبينا أنا انظر إلى الناس في زينتهم وكثرتهم ، فنظرت إلى فتى حسن الوجه شديد السمرة ضعيف، فوق ثيابه ثوب من صوف، مشتمل بشملة ، في رجليه نعلان، وقد جلس منفرداً، فقلت في نفسي: هذا الفتى من الصوفية يريد أن يكون كلاً على الناس في طريقهم ،  والله لأمضينَّ إليه ولأوبّخنّه ، فدنوتُ منه، فلمّا رآني مقبلاً قال : ياشقيق )اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ (ثم تركني ومضى. فقلت في نفسي: إنّ هذا الأمر عظيم، قد تكلّم بما في نفسي ونطق باسمي، وما هذا إلاّ عبد صالح لألحقنّه ولأسألنه أن يحلّلني، فأسرعت في أثره فلم ألحقه وغاب عن عيني.

فلمّا نزلنا واقصة وإذا به يصلّي وأعضاؤه تضطرب ودموعه تجري، فقلت: هذا صاحبي أمضي إليه واستحلّه. فصبرتُ حتى جلس، وأقبلتُ نحوه ، فلمّا رآني مقبلاً قال: ياشقيق اُتلُ: ) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (ثم تركني ومضى . فقلت: إنّ هذا الفتى لمن الأبدال، لقد تكلّم على سرّي مرّتين.

فلمّا نزلنا زبالة إذا بالفتى قائم على البئر وبيده ركوة يريد أن يستقي ماءً، فسقطت الركوة من يده في البئر وأنا انظر إليه، فرأيته قد رمق السماء وسمعته يقول:

أنت ربّي إن ضمئت إلى الماء

وقوتي إذا أردتُ الطعاما

اللهمّ سيّدي مالي غيرها فلا تعدمنيها. قال شقيق: فوالله لقد رأيت البئر وقد ارتفع ماؤها فمدَّ يده وأخذ الركوة وملؤها ماءً ، فتوضّأ وصلّى أربع ركعات، ثمّ مال إلى كثيب رمل فجعل يقبض بيده ويطرحه في الركوة ويحرّكه ويشرب، فأقبلت إليه وسلّمت عليه، فردّ عليّ فقلت: أطعمني من فضل ما أنعم الله عليك، فقال: ياشقيق لم تزل نعمة الله علينا ظاهرة وباطنة فأحسن ظنّك بربّك ، ثم ناولني الركوة فشربتُ منها فإذا هو سويق وسكّر، فوالله ماشربتُ قطّ ألذّ منه ولا أطيب ريحاً، فشبعت ورويت وأقمت أياماً لا أشتهي طعاماً ولا شراباً.

ثم لم أره حتى دخلنا مكّة، فرأيته ليلة إلى جنب قُبّة الشراب في نصف الليل قائماً يصلّي بخشوع وأنين وبكاء فلم يزل كذلك حتى ذهب الليل ، فلمّا رأى الفجر جلس في مصلاه يسبّح ثم قام فصلّى الغداة وطاف بالبيت اُسبوعاً وخرج، فتبعته وإذا له غاشية وأموال وهو على خلاف ما رأيته في الطريق ، ودار به الناس من حوله يسلّمون عليه، فقلتُ لبعض مَن رأيته يقرب منه: من هذا الفتى؟ فقال: هذا موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) . فقلت: قد عجبتُ أن تكون هذه العجائب إلاّ لمثل هذا السيّد [1].


 

[1] بحار الأنوار 48 : 80 ـ 82 / 102، والآيتين: الاُولى في سورة الحجرات: 12، والثانية في سورة طه: 82.