الشيخ محمد مهدي الاصفي
مسالة الموت في المسيرة الحسينية:
مسالة (الموت) وطريقة التعامل معه من ابرز العناصر التي تدخلفي تكوين ملحمة الطف في يوم عاشوراء.
وعاشوراء حدث متميّز من بين الاحداث الكبيرة في التاريخ منهذه الزاوية.
فقد اعلن الحسين(ع) عند مغادرته الحجاز اءلي العراق: انه سوف يلقيمصرعه في هذه الرحلة: «وخيّر لي مصرع انا لاقيه، كاني باوصالي تقطّعها عسلانالفلاة بين النواويس وكربلاء».
ونعي نفسه اءلي الناس، وطلب منهم ان يبذلوا مهجهم في هذا السبيل،ويوطِّنوا معه انفسهم للقاء الله: «من كان باذلاً فينا مهجته موطّناً علي لقاء الله نفسهفليرحل معنا».
وبدا خطابه العجيب هذا بتقديم صورة زاهية جميلة للموت، تمهيداًلدعوتهم اءلي ان يبذلوا له مهجهم، فقال(ع): «خطّ الموت علي ولد ا´دم مخطّالقلادة علي جيد الفتاة».
وعلي امتداد الطريق اءلي كربلاء كان الحسين(ع) يصارح الناسويصارح اصحابه انهم سائرون اءلي الموت الذي لابدّ منه، ولم يكن يشكفي ذلك اصحاب الحسين(ع) انهم كانوا علي يقين من هذا الامر مابعدهيقين.
وكان عذر مَن يتخلّف عن نصرة الحسين(ع) اءلي الحسين: انّ نفسه لاتطيب بالموت، والشواهد علي ذلك كثيرة في مسيرة الحسين(ع) اءليكربلاء، وهذه هي الصفة المميّزة لحادثة الطف.
فلسنا نجد او قلّما نجد في قادة الحركات والثورات مَن يدعو الناساءلي الموت؛ اءنهم يدعون الناس اءلي الحركة والثورة، ويطلبون منهم انيكونوا علي استعداد لتقديم دمائهم للثورة كلما اقتضي الامر.
اما الحسين(ع) فله شان ا´خر. اءنّه لا يطلب في رحلته هذه فتحاًعسكرياً بالمعني الذي يتصوّره الناس، واءنّما يريد ان يقدم علي تضحيةماساوية فريدة في التاريخ يهزّ بها ضمير الاُمّة.
لقد وجد الحسين(ع) ان بني اُمية تمكّنوا من ترويض ارادة الناسوتطويعهم بعامل الاءرهاب والترغيب وسلب اءرادتهم، وفي هذا الجوّحاول بنو اُمية ان يستعيدوا قيم ومواقع الجاهلية في المجتمع الاءسلاميالجديد، دون ان يجدوا مقاومة تذكر من ناحية الاُمة، فكان لابدّ من هزّةقوية لنفوس الناس، تعيد اءليهم اءرادتهم السليبة، ولا تتم هذه الهزّة القويةاءلاّ بتضحية ماساوية فريدة في التاريخ؛ فاعدّ الحسين(ع) اهل بيتهواصحابه لمثل هذا المشهد الماساوي، وانطلاقاً من هذا الفهم قلت: اءنّهذه الصفة هي الصفة المميّزة لحادث الطف من الاحداث الاُخري فيالتاريخ.
ومن اعظم الخيانة للتاريخ ان نجرّد (عاشوراء) من هذه الصفةالمميّزة لها، فلا يبقي من عاشوراء اءذا جرّدناها عن (الاستماتة) وطلبالشهادة اءلاّ ثورة علي النظام الاُموي غير متكافئة مع قوّة الظلم، فلم تنجحفي تحقيق اهدافها كما كان يتوقّع ذلك الذين كانوا ينصحون الحسين(ع)الاّ يخرج اءلي العراق، ولم يكن الحسين(ع) يتّهم اُولئك في صدقهمفيالنصح.
لكن الامام(ع) كان يري ما لا يرون، ويريد مالا يعرفون.
كيف يواجه الناس الموت؟
للموت شان كبير في تنظيم حياة الناس، والناس امام هذه الظاهرةالطبيعية من سنن الله مثال القهرية في الحياة طائفتان: طائفة وهي الاكثريةالساحقة من الناس يجزعون عن مواجهة الموت ويهربون منه. وطائفةوهي الاقليّة من الناس يتحدّون الموت ويشتاقون اءليهويستقبلونالموت.
ولهذه الحالات: (الجزع من الموت، وتحدّي الموت) شان كبير فيتنظيم حياة الناس وتقرير مصيرهم، فالاُمّة التي تجزع من الموت لاتحوج الطغاة والجبابرة اءلي جهد كبير لتطويقها وترويضها وتذليلهاوتعبيدها لاءرادتهم وسلطانهم، فتتحول حياتها اءلي نوع من التبعيةوالانقياد للطاغية والجبابرة والطغاة، وبالتدريج يفقدون الوعي والفطرةومقومات الحياة الكريمة، وهذه صورة من الحياة.
والاُمّة التي تملك القدرة علي تحدّي الموت ولا تجزع منه، وتملكالقدرة علي تجاوز الموت لا يمكن ترويضها وتذليلها لاءرادة الطغاةوالجبابرة، ولا يمكن مصادرة اءرادتها ومقاومتها.
وهذه صورة ثانية من الحياة، وفيما يلي نحاول ان نتوقف بعضالوقت عند هاتين الحالتين:
الجزع من الموت:
الجزع من الموت ظاهرة واسعة في حياة الناس، ولهذه الظاهرة ا´ثارواسعة في المجتمع من حيث الحركة والمقاومة، وهذه الظاهرة تستحقان نتوقف عندها وننظر فيها، وفيما يلي نستعرض اءن شاء الله تعالي:
اسباب هذه الظاهرة اوّلاً.
وا´ثارها واعراضها السلبية في المجتمع ثانياً.
والوسائل التربوية المفيدة لعلاج هذه الحالة في نفوس الناس ثالثاً.
اسباب الجزع من الموت:
(التعلّق بالدنيا) من اهمّ اسباب الجزع من الموت، ولو انّ انساناًيعيش في الدنيا كما يعيش الناس، ويتمتع بطيباتها كما يتمتع الناس،ولكن قلبه لا يتعلق بالدنيا ولا يخيفه الموت ولا يخرج منه اءذا حلّ به.وسوف نتحدث عن هذه النقطة فيما ياتي اءن شاء الله.
ومن اسباب الجزع من الموت ايضاً سوء الاءعداد للا´خرة، فيجزعالاءنسان من ان يقدم علي مرحلة جديدة من حياة خالدة لا تفني، وهو لميعدّ لها في حياته الدنيا اءعداداً كافياً، واءلي هذا المعني تشير الا´ية الكريمةمخاطبة اليهود الذين كانوا يعتقدون انّ الله يؤثرهم علي غيرهم من الاُمم،وانّهم اولياء الله من دون سائر الناس: ( قُل يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا اءِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْأَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ اءِن كُنتُمْ صَادِقِينَ* وَلاَ يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْأَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ).
وقد روي في هذا المعني' عن الامام الصادق(ع): «من احبّ الحياةذلّ».
وتحليل هذه الرواية وتفسيرها: انّ حب الدنيا والتعلّق بها من اسبابالجزع من الموت، وهما وجهان لقضية واحدة، فمن احب الدنيا جزع منالموت، وبينهما نسبة طردية دائماً، وهذه هي المعادلة الاُولي.
والمعادلة الثانية: انّ مَن يجزع من الموت يذلّ؛ لانه لا يملك القدرةعلي اتخاذ الموقف والقرار الصعب، واءذا عجز الاءنسان عن اتخاذ الموقفوالقرار الصعب كان ا´لة طيّعة للمستكبرين، وتبعاً لهم في الموقفوالقرار، وهذا هو الذلّ الذي يحدّثنا عنه الاءمام الصادق(ع) في هذهالرواية.
وهو اختبار دقيق لدرجة اءعداد الاءنسان للا´خرة في الدنيا، فكلّما كانهذا الاعداد اكثر وافضل كان جزع الاءنسان من الموت اقلّ.
قال رجل لابيذرّ ؛: مالنا نكره الموت؟ قال: لانكم عمّرتم الدنياوخرّبتم الا´خرة، فتكرهون ان تنتقلوا من عمران اءلي خراب.
قيل له: فكيفتري قدومنا علي الله؟ قال: امّا المحسن فكالغائبيقدم علي اهله، واما المسيء فكالا´بق يقدم علي مولاه.
قيل: فكيفتري حالنا عند الله؟
قال: اعرضوا اعمالكم علي كتاب الله تبارك وتعالي: ( اءِنَّ الاَبْرَارَ لَفِينَعِيمٍ* وَاءِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ).
قال الرجل: فاين رحمة الله؟ قال: اءنّ رحمة الله قريب منالمحسنين.
وروي في هذا المعني انّ احدهم سال الامام الحسن(ع): ما بالنا نكرهالموت ولا نحبّه؟ فقال(ع): «انّكم اخربتم ا´خرتكم، وعمّرتم دنياكم، فانتمتكرهون النقلة من العمران اءلي الخراب».
الموقف:
ومن المؤكد ان القوّة والشجاعة والاءقدام احد العنصرين اللذينيتكون منهما الموقف، فانّ مقوّمات الموقف امران: الوعي السياسي،والقوة والشجاعة، فاءذا كان الجزع من الموت يضعف الاءنسان فهو لامحالة يفقده القدرة علي اتخاذ الموقف العملي في القضايا الصعبة، وقيمةالاءنسان فيساحة المواجهة والصراع ليس في النيّة وعقد القلب واءنما فيالموقف، وقد كان كثير من المسلمين في عصر الحسين(ع) لا يرتضونيزيد واعماله، ويكرهونه اشدّ الكره، ولكن الحسين(ع) حوّل هذهالكراهية وهذا الرفض اءلي موقف عملي، وهذه هي قيمة عمل الاءمامالحسين(ع).
الموقف هو تجسيد الراي في فعل يبرز انتماء صاحبه الي هذا الراي،ويحقّق دفاع صاحبه عن رايه.
اءنّ الناس جميعاً لا يرضون الظلم، ولكن هناك مَن يبرز هذا الرفضفي فعل ويعبّر به عن رفضه، وهذا الفعل قد يكون الخروج عن الطاعة،وقد يكون الثورة، وقد يكون التظاهر والاعتصام.
ومن الطبيعي انّ الرفض وحده لا يكلّف الانسان شيئاً، واءنما الموقفهو الذي يكلّف الاءنسان ويثقل كاهله، فالموقف هو الذي يتطلبالضريبة، وصاحب الموقف هو الذي يدفع الضريبة، ولكن لابدّ ان نقول:اءنّ صاحب الراي السلبي والرفض لا يغيّر مجري التاريخ، واءنما يغيّرمجري تاريخ صاحب الموقف، والرفض والكراهية النفسية لا يحرّكالناس واءنما الموقف هو الذي يحرّك الناس.
واخيراً فانّ المواجهة والصراع يعني الموقف.
انقلاب اللاموقف الي الموقف المضاد:
انّ مسالة الصراع لا تتحمّل (اللاموقف)، فاذا لم يتحمّل الاءنسانالموقف الصعب وضعف عن اتخاذ موقف الحق فلا يمكن ان يبقي مندون موقف اءلي الاخير، واءنّما ينقلب اللاموقف في حياته اءليموقفمضاد.
والسبب في انقلاب اللاموقف اءلي الموقف المضاد هو السبب فيانقلاب الموقف اءلي اللاموقف وهو الجزع من الموت.
فاءنّ الجزع من الموقف اءذا كان يدعو الاءنسان اءلي التخاذل من الحقاءيثاراً للعافية؛ فاءن الطاغية لا يتركه اءلي الاخير عنصراً غير ذي لون، واءنمايصبغه بصبغته ويسوقه اءلي جانبه، ونفس السبب الذي اعجزه عن اتخاذالموقف الحق يعجزه عن الامتناع من الانحدار اءلي الباطل، وبذلك يتمتصنيفه في جهة الباطل، فاءنّ ساحة الصراع ـ كما ذكرنا ـ لا تترك الاءنسانمن دون تصنيف، فاءن لم يبادر الاءنسان ليُصنّف نفسه ضمن جبهة الحقالذي يؤمن به؛ فاءنّ الساحة تُصنّفه ضمن الخط الحاكم، فيكون عندئذٍ منجند الطاغية واءن كان قلبه ورايه في اتجاه معاكس.
وهنا ينشطر الاءنسان شطرين متعاكسين: رايه (عقله)، وعاطفته(قلبه) في اتجاه الحق، وموقفه وموضعه الرسمي (اءرادته) المعلن فياتجاه الباطل.
وهذه هي ظاهرة انفلاق الشخصية؛ حيث تنشطر شخصية الاءنساناءلي شطرين متخالفين: فيفقد الاءنسان الانسجام في شخصيته، ويتضاربظاهره مع باطنه.
سللتم علينا سيفاً لنا في ايمانكم:
وهذا المفهوم يطرحه الامام الحسين(ع) علي جند ابن زياد فيكربلاء يوم عاشوراء: «سللتم علينا سيفاً لنا في ايمانكم». وهذا السيف الذييذكره الاءمام هو القوّة والقدرة والسلطان. والاءسلام هو الذي اعطاهم هذاالسلطان. لقد كانوا اُمّة ضعيفة معزولة في الصحراء، فاعطاهم رسولالله(ص)هذه القوّة وهذا السلطان بايمانهم، فهذا السلطان لرسول الله ولمَن ا´منبرسول الله، واخلص وسار علي خط رسول الله، ومَن مع رسول اللهواهلبيته، كما صرّح به(ص) فياكثر من موقف، وهذا هو المعني الاوّللكلمة (سيفاً لنا في ايمانكم)، والمعني' الذي يستتبع المعني الاول: ان هذاالسيف الذي جعلناه في ايمانكم لابدّ ان تقاتلوا به اعداءنا واعداءكم،ولكنّكم وضعتم هذا السيف فينا نحن ابناء رسول الله وخلفاؤه، ووظّفتمهذا السيف في خدمة اعدائنا.
وهذا هو التشخيص الدقيق الذي قدّمه الفرزدق عن اهل الكوفةعندما ساله الامام الحسين(ع) عمّا وراه فقال: قلوبهم معك وسيوفهمعليك، فاءنّ اهل الكوفه كانوا في الاغلب علويين، وقلوب العلويينكانت مع الحسين، ولكن سيوفهم انقلبت عليه(ع)، وكثير من الذينخرجوا في جيش ابن زياد لقتال الاءمام الحسين(ع)، كانوا يحبّون الحسين،وكانوا من الذين كتبوا اءليه يطلبون منه ان ياتيهم.
والاءنسان راي (عقل) وعاطفة (قلب) حب وبغض وموقف (اءرادة)وهذه الثلاثة عندما تكون منسجمة ومتكاملة يكون الاءنسان قوياً، فاءذاتخالفت وتضاربت ضعف الاءنسان، واصبح بذلك اداة طيّعة بيد الطغاة.
اخر مراحل الردّة:
لقد فات الفرزدق ان يقول ـ وكان حرياً به ان لا يفوته ذلك ـ : انّانسحاب الاءنسان يبتدي اولاً وثانياً من الموقف اءلي اللاموقف، ومناللاموقف اءلي الموقف المضاد المعاكس، هذه هيالمرحلة الاُولي والثانيةمن الردّة، والمرحلة الثالثة انّ الموقف المضاد يصادر الراي والفكر،ويوجّه الاءنسان اءلي الراي الا´خر وينمّقه له، ويوجّهه حتّي يصادر الرايالاوّل تماماً، فينقلب الراي اءلي راي معاكس، وينقلب (الحب) اءلي(بغض)، وينقلب البغض اءلي الحب، وهذه هي المرحلة الاخيرة من الردّةالتي نسيها الفرزدق، واءذا غابت عن الفرزدق هذه المرحلة الاخيرة منالردّة فاءن القرا´ن يسجّلها بوضوح: (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءي' أَنكَذَّبُوا بِا´يَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ).
ومن اساءة السوء ان يحمل الاءنسان المؤمن السيف علي الله ورسولهواولياء الله، ويقاتلهم في الدفاع عن الطاغوت؛ فاءذا فعل ذلك فاءنّ الله تعالييسلب عنه التصديق والاءيمان والوعي والراي، فيكذّب با´يات الله، واءذاكذّب با´يات الله ورسوله واولياءه عاداهم وابغضهم وهذه الردّة الكاملة.
عودة الانسجام في الطرف المعاكس والانقلاب علي الاعقاب:
وهكذا يعود الانسجام بين البؤر الثلاث لشخصية الاءنسان: (العقل،القلب، الارادة)، او (الراي، العاطفة، الموقف) بعد ان انفلقت الشخصيةواختلّت وظهر عليها الارتباك والقلق، يعود الانسجام مرة اُخري اءليشخصية الاءنسان، ولكن هذه المرة في خط معاكس تماماً، وفي اتجاهسلبي باتجاه عداء الله ورسوله واوليائه.
الاطوار الثلاثة في حياة الانسان:
ومن صور ذلك نجد انّ هناك ثلاثة اطوار للاءنسان:
الطور الاوّل: الانسجام بين القلوب والسيوف في اتجاه الحق.
الطور الثاني: التخالف بين القلوب والسيوف بين الحق والباطل.
الطور الثالث: الانسجام بين القلوب والسيوف في اتجاه الباطل.
ـ الحالة الاُولي:
حالة الانسجام بين القلوب والسيوف هي حالة فطرية وسليمةوصحيحة، وفيها تجتمع البؤر الثلاث: (العقل، القلب، الارادة) فتُرجمالعمل بالاءرادة.
هذه الحالة هي حالة الانسجام والاستقامة والقوة؛ لانّ اجتماع هذهالبؤر الثلاث يمنح الاءنسان القوة، وهي حالة طبيعية وفطرية، وهذه البؤرالثلاث تتبادل التاثير فيما بينها، وبعضها يؤثّر في البعض الا´خر.
ومن ا´ثار هذه الحالة: انّ الاءنسان يعيش مطمئنّاً لا يعاني من القلق؛لانّ الراحة النفسية ليست في الامن والرفاه، واءنما في الاّنسجام بين البؤرالداخلية لشخصية الاءنسان باتجاه الفطرة، ويتكامل الاءنسان في هذه الحالةوينمو بصورة سويّة.
ـ الحالة الثانية:
هي حالة تخالف القلوب والسيوف عندما تخضع اءرادة الاءنسانلعامل الترغيب والترهيب من ناحية الطاغوت، والطاغوت يعمللاحتلال البؤر الثلاث جميعاً، واوّل قلعة تسقط هي قلعة الاءرادة تحتضغط الاءرهاب، وهذه هي بداية السقوط والمرحلة الاُولي من الردّة،ويبقي العقل والقلب مستقرّين، واءنّ اول انهيار يصيب الاءنسان فيمواقفه العملية والرسمية والبارزة هو استسلامه لضغط الطاغوت.
والحالات التي ذكرناها سابقاً تنعكس، فيفقد الانسان الراحة وحالةالاطمئنان والانجسام النفسي، ويعاني من القلق وعدم الانسجام،ويضعف ويفقد صبغة الله في شخصيته ويفقد النمو، وهذه المرحلة هيمرحلة (الضعف) في شخصية الاءنسان، ويعمل الضمير في استعادةالتوازن والتعادل والانسجام، فاءذا نجح فلابدّ ان تعود الشخصية اءلي توازنهافي انسجامها، والاّ فاءنّ الانسان يسقط الي المرحلة الثالثة، ويدخل الضميرفي صراع عنيف في المرحلة الثانية، وينقسم الناس فيها اءلي شطرين:شطر من نموذج شخصية (الحرّ) يملك ضميراً سليماً قوياً يعيده الي اللهمرة اُخري، وشطر من نموذج (عمر بن سعد) لا يملك الضمير القويفيسقط الي المرحلة الثالثة (المرحلة الثانية من السقوط).
ـ الحالة الثالثة:
في هذه الحالة يعود الانسجام مرة اُخري بين البؤر الثلاث، ولكن فياتجاه السقوط والباطل، وكان الانسان في داخله يطلب الانسجام، فاءذا لميتمكن في اتجاه الحق وضعف الضمير من استعادة الانسجام في طرفالحقّ، فاءن الانسجام يعود في طرف الباطل، فيكون قلب الاءنسان وعقلهباتجاه اءرادته وعمله، وهذه هي مرحلة الصفر من سقوط الاءنسان يستفرغفيها (الطاغوت) و(الهوي) الضمير، ويحتلاّن (العقل) و(القلب)،وعندئذٍ يحتل الطاغوت المعاقل الثلاثة جميعاً لشخصية الاءنسان، اضافةالي استفراغ الضمير من كل ما اودع الله تعالي فيه من المقاومة، وهي حالةالصفر في شخصية الاءنسان، وعندئذٍ تنقطع الرحمة الاءلهية عن الاءنسان؛لانّ الرحمة تنزل علي الضمير والقلب والعقل والاءرادة، فاءذا نفذتواستهلكت جميعاً وصودرت فلا يبقي موقع لنزول رحمة الله، وهذهحالة (الكفر)، وهناك حالة اُخري تحت الكفر (تحت الصفر)، وهي حالة(النفاق)، وفي هذه الحالة تعود السيوف اءلي جانب الحق، ولكن للمكربالحق وليس استجابة له، تبقي القلوب متعلّقة بالباطل، وهذه الحالة تحتالكفر؛ لانّ القلوب لا تزال فاقدة في هذه المرحلة للايمان والوعيوالنور؛ ولذلك يقول الله تعالي: ( اءِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الاَسْفَلِ مِنَالنَّارِ...).
اثار ونتائج الجزع من الموت في المجتمع:
لظاهرة الجزع من الموت اثار سلبية واسعة علي حياة الاءنسان فهيتسلب الناس القدرة علي المقاومة، وتمكّن منهم الطاغية، وتستنفذ مااودع الله تعالي في ضمائرهم من مقاومة وفي اءرادتهم من قوّة وفينفوسهم من وعي، ومن ثمّ تستفرغ كل ما اودع الله تعالي في نفوس الناسمن قيم واخلاق واءرادة ومقاومة.
وهذه الحالة من الاستفراغ والاستنفاذ هي حالة الاستخفاف التييذكرها الله تعالي في منهج تعامل الطغاة مع الناس: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَاَطَاعُوه...)، اءنّ فرعون لم يكن يقدر علي تطويع الناس
لارادته وسلطانه، لولا اءنه استنفذ ما اودع الله تعالي في نفوسهم
من قيم واخلاق ومقاومة واءرادة وضمير، وعندئذٍ يكون وزن
الانسان خفيفاً، وينقلب اءلي حالة عائمة من التبعية الكاملة
للطاغية، واساس هذه الحالة الاءرهاب وهي الاداة المفضّلة
لدي المستكبرين، و(الجزع من الموت) و(الخوف) هو التربة الصالحةلزرع الارهاب في المجتمع.
المناهج التربوية لمكافحة هذه الحالة:
واهمّ هذه المناهج منهجان:
1 ـ تقصير الامل في الحياة الدنيا.
2 ـ تركيز الشوق اءلي لقاء الله تعالي:
وهما من افضل المناهج التربوية لمكافحة حالة الجزع والرهبة منالموت، وهناك مناهج حركية لايسعنا المجال استعراضها والحديث عنها.
والمنهج الاوّل هو تقصير الامل في الدنيا، وترقيق العلاقة بالدنيا.فانّ شدّة التعلّق بالدنيا وطول الامل فيها من اكبر الاُصر والاغلال التيتعيق حركة الاءنسان الي الله، فاءذا تحرّر الاءنسان منها خفّ للقاء الله تعالي،ولم يرهبه الموت ولم يعبا به، وقع الموت عليه ام وقع هو علي الموتكما قال علي الاكبر(ع) لابيه عندما قارب كربلاء: «روي ابومخنف عنعقبة ابن سمعان قال: لما كان السحر من الليلة التي بات الحسين(ع) عندقصر بني مقاتل امرنا الحسين بالاستسقاء من الماء، ثمّ امرنا بالرحيلففعلنا، فلما ارتحلنا عن قصر بنيمقاتل خفق براسه خفقة ثمّ انتبه وهويقول: انّا لله وانّا اءليه راجعون، والحمدلله ربّ العالمين، ثمّ كرّرها مرتين او ثلاثاً،فاقبل اءليه ابنه علي بن الحسين(ع) وكان علي فرس له فقال: انّا لله وانّا اليهراجعون، والحمدلله ربّ العالمين، يا ابت، جُعلت فداك مِمَّ استرجعت وحمدت الله؟فقال الحسين(ع): يا بنيّ، اءني خفقت راسي خفقة فعنّ لي فارس علي فرس فقال:القوم يسيرون والمنايا تسري اءليهم؛ فعلمت انّها انفسنا نُعيت اءلينا. فقال له: يا ابت،لااراك الله سوءاً السنا علي الحق؟ قال: بلي والذي اءليه مرجع العباد. قال: ياابت،اذنْ لا نبالي نموت محقّين. فقال له: جزاك الله خير ماجزي ولداً عن والده».
والمنهج الا´خر تركيز الشوق اءلي لقاء الله من خلال الموت، فانّالموت للمؤمن نافذة اءلي لقاء الله، ولقاء الله للمؤمنين لذّة لا تفوقها لذّة،والحياة الدنيا تحجبه عن لقاء الله، فاءذا حلّ به الموت زال من بصره هذاالحجاب (... فَكَشَفنا عَنْكَ غِطَاءَك فَبَصَرُكَ اليَوْمَ حَديدٌ)، وعندئذٍ ينظرالمؤمن اءلي اسماء الله وصفاته الحسني وجلاله وجماله وجبروتهوكبريائه تعالي من غير حجاب، وهو اعظم اللّذات عند المؤمنين، اينمنها الجنة ونعيمها وحورها وما خلق الله فيها من نعيم؟
وفي مكارم الاخلاق عن رسول الله(ص): «يابن مسعود، قصّر املك فاذااصبحت فقل: اءني لا اُمسي واءذا امسيت فقل اءني لا اُصبح، واعزم علي مفارقة الدنيا،واحب لقاء الله ولا تكره لقاءه؛ فاءنّ الله يحبّ لقاء مَن يحبّ لقاءه ويكره لقاء منيكره لقاءه»
وعن رسول الله(ص): «انّ النور اذا دخل الصدر انفسح، قيل: هل لذلك من علميعرف به؟ قال: نعم التجافي عن دار الغرور، والانابة اءلي دار الخلود، والاستعدادللموت قبل نزوله».
وعن علي(ع): «شوّقوا انفسكم اءلي نعيم الجنة تحبّوا الموت وتمقتواالحياة».
مشهد من مشاهد الاستماتة في الطف:
وفيما يلي استعرض مشهداً واحداً من مشاهد الاستماتة والاستهانةبالموت والتشوق الي لقاء الله في الطف، وهو من اروع ما يعرفه التاريخبرواية السيد المقرّم في (المقتل).
جمع الامام اصحابه واهل بيته ليلة العاشر من المحرّم، وطلب منهمان ينطلقوا في رحاب الارض ويتركوه وحده، وقد اراد ان يكونوا عليهدي وبيّنة من امرهم، فقال لهم:
«اُثني علي الله احسن الثناء، واحمده علي السرّاء والضرّاء، اللّهم اءنّي احمدكعلي ان اكرمتنا بالنبوّة، وجعلت لنا اسماعاً وابصاراً وافئدة وعلّمتنا القرا´ن، وفقّهتنا فيالدّين فاجعلنا لك من الشاكرين. امّا بعد فاءنّي لا اعلم اصحاباً اوفي ولا خيراً مناصحابي، ولا اهل بيت ابرّ ولا اوصل من اهل بيتي، فجزاكم الله جميعاً عني خيراً، الاواءنّي لاظن يومنا من هؤلاء الاعداء غداً، واءنّي قد اذنت لكم جميعاً فانطلقوا في حلِّليس عليكم منّي ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، ولياخذ كل رجل منكمبيد رجل من اهل بيتي فجزاكم الله جميعاً، ثم تفرّقوا في البلاد في سوادكم ومدائنكمحتّي يفرّج الله فاءن القوم اءنّما يطلبونني، ولو اصابوني لهواً عن طلب غيري».
ـ جواب اهل بيته:
ولم يكد يفرغ الامام من كلماته حتّي هبّت الصفوة الطيّبة من اهلبيته، وهم يعلنون اختيار الطريق الذي يسلكه، ويتّبعونه في مسيرته ولايختارون غير منهجه، فانبروا جميعاً وعيونهم تفيض دموعاً قائلين:
«لِمَ نفعل هذا؟ لنبقي بعدك؟ لا ارانا الله ذلك ابداً».
بداهم بهذا القول اخوه ابو الفضل العبّاس، وتابعته الفتّية الطيّبة منابناء الاُسرة النبويّة، والتفت الامام الي ابناء عمّه من بني عقيل فقال لهم:
«حسبكم من القتل بمسلم اذهبوا فقد اذنت لكم».
وهبّت فتية ال عقيل تتعالي اصواتهم قائلين بلسان واحد:
«وما نقول للناس؟ نقول: تركنا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا خيرالاعمام، ولم نرم معهم بسهم، ولم نطعن معهم برمح، ولم نضرب بسيف،ولا ندري ما صنعوا؟ لا والله لا نفعل، ولكننا نفديك بانفسنا واموالناواهلينا، ونقاتل معك حتّي نرد موردك فقبّح الله العيش بعدك».
ـ جواب اصحابه:
انبري مسلم بن عوسجة ودموعه تتبلور علي وجهه فخاطب الامامقائلاً:
«انحن نخلّي عنك؟ وبماذا نعتذر اءلي الله فياداء حقك؟ اما والله لااُفارقك حتّي اطعن في صدورهم برمحي، واضرب بسيفي ما ثبت قائمهبيدي، ولو لم يكن معي سلاح اقاتلهم لقذفتهم بالحجارة حتّي اموتمعك».
وتكلّم سعد بن عبدالله الحنفي قائلاً: «والله لا نخلّيك حتّي يعلم الله انّاقد حفظنا غيبة رسوله فيك، اما والله لو علمت اني اُقتل ثمّ احيا ثمّ اُحرقثم اُذرّي يفعل بي ذلك سبعين مرّة لما فارقتك حتّي القي حمامي دونك،وكيف لا افعل ذلك واءنّما هي قتلة واحدة، ثم هي الكرامة التيلا انقضالها ابداً»؟
وقال زهير؛: «والله لوددت انّي قُتلت ثم نُشرت، ثم قتلت حتّياُقتل كذا الف مرّة، وانّ الله عزّ وجل يدفع بذلك القتل عن نفسك وعنانفس هؤلاء الفتيان من اهل بيتك...».
وانبري بقية اصحاب الاءمام فاعلنوا الترحيب بالموت في سبيلهوالتفاني في الفداء من اجله فجزاهم الاءمام خيراً، واكّد لهم جميعاً انهمسيُلاقون حتفهم فهتفوا جميعاً:
«الحمدلله الذي اكرمنا بنصرك، وشرّفنا بالقتل معك، او لا نرضي ان نكون معكفي درجتك يابن رسول الله؟».
لقد اختبرهم الامام فوجدهم من خيرة الرجال صدقاً ووفاءً، قداشرقت نفوسهم بنور الايمان، وتحرّروا من جميع شواغل الحياة، وكانواـ فيما يقول المؤرخون ـ في ظما اءلي الشهادة ليفوزوا بنعيم الا´خرة.
وقال محمد بن بشير الحضرمي ـ وكان قد بلغه انّ ابنه قد اُسر بثغرالرّي ـ فقال: ما اُحب ان يؤسر ابني وانا ابقي بعده حيّاً، فاستشعر الاءمام منهذه الكلمات رغبته في اءنقاذ ابنه من الاسر فاذن له في التخلي عنه قائلاً:انت في حلّ فاعمل في فكاك ولدك، فقال: «اكلتني السباع حياً اءنفارقتك...».
فلمّا ان استوثق الحسين من اءقبالهم علي الموت وعزمهم عليالشهادة في سبيل الله قال لهم: «يا قوم، اءنّي غداً اُقتل، وتقتلون كلكم معي، ولايبقي' منكم واحد» فقالوا: الحمدلله الذياكرمنا بنصرك، وشرّفنا بالقتلمعك،اولا ترضي ان نكون معك في درجتك يابن رسول الله؟ فقال: جزاكمالله خيراً، ودعا لهم بخير.
فقال له القاسم بن الحسن(ع): «وانا فيمن يُقتل؟ فاشفق عليه، فقال: يابنيّكيف الموت عندك؟ قال: يا عم احلي من العسل».
فقال: اي والله فداك عمّك، اءنّك لاحد مَن يُقتل من الرجال معي بعد ان تبلوَ ببلاءعظيم، وابني عبدالله (الرضيع)».
المجمع العالمي لاهل البيت: قم المقدسة
الاستماتة والجزع من الموت في ساحة عاشوراء
- الزيارات: 9604