• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الشعائر الحسينية

ننقل فيما يلي آراء بعض العلماء من أعلام الدين النجباء وممّن خلّدهم التاريخ، ونخص منهم شهيد المذهب الذي أفنى حياته في حبّ الحسين وأهل بيته، آية الله الشهيد السيِّد حسن الشيرازي الذي تغذى شباب العراق ولبنان من فمه عطر الحمية لأهل البيت وأريج الثورة الحسينية بتوجيهاته التي ملأت إذاعات العالم. وكان صوتاً مدوّياً يرنّ في عالم المذهب الشيعي، إذ ينتمي إلى عائلة عراقية عريقة لها فضل على كلّ الشعب العراقي.

وحين دخلت الجيوش المستعمرة إلى بلدنا كانوا أوّل المدافعين عن الشعب وعن معتقداته الدينية وعن أرض العراق، وحين ثنيت لهم الوسادة وتصدّروا قيادة المرجعية بذلوا جهوداً كثيرة لخدمة الإسلام العزيز وخدمة المذهب وكان لهم دور كبير في ترسيخ الشعائر الحسينية. فأنقل مقتطفات من كتابه (الشعائر الحسينية) يتحدث في طيّاته عن فضل البكاء والتباكي، حيث يقول (قدّس سرّه):
أمّا طبيعة البكاء فإنّها مباحة بل ربّما تستكشف محبوبيّتها من بعض الآيات لأنّه ينمّ عن رقّة القلب، بخلافه الضحك الذي يكشف عن القسوة والغفلة ، كقوله تعالى: {فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً جزاءً بما كانوا يكسبون} ([1])   وتبدو هذه الحقيقة بأجلى مظاهرها في وصف القرآن للمؤمنين الأبرار بكثرة البكاء حيث قال: {قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إنّ الذين أوتوا العلم من قبله إذا يُتلى عليهم يخرّون للأذقان سجّداً ويقولون سبحان ربّنا ان كان وعد ربّنا لمفعولا ويخرّون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً}([2]).

وقال سبحانه وتعالى : {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً}([3]).
ومن الطبيعي أن يحبّ الإسلام البكاء لأنّه يحلّ العقد النفسية التي يعجز العلم عن معالجتها، لأنّ الأزمات والخسائر التي تصدم الإنسان تترسّب في قلبه على شكل عقد لا يحلّها سوى الانتقام ممّن سبّب له تلك النكبة. وإذا كان الإسلام ديناً متسامحاً لا انتقامياً، وإذا كان الإنسان جائراً في الكثير من ألوان الانتقام التي يرغب فيها بطبيعته الحيوانية، وتتظافر الأديان والقوانين على صده من ممارستها؛ فلا تجد تلك العقد مجالاً للتعبير والتنفّس اللّذين يروّحان عنها بل تظلّ في أعماق النفس تأكل بعضها، وتأكل الإنسان حتّى تنقلب تحت الكبت الطويل إلى حقد يجعل صاحبه شرّيراً يحبّ الوقيعة في كلّ أحد.
ونذكر من كلام السيِّد الشهيد السعيد في النساء أنهن أقلّ عقداً من الرجال لأنّهن لا يعانين أزمة نفسية إلاّ ويفرجنّ عن أنفسهنّ بالبكاء فينفضْنَ عن أنفسهنّ العقد قبل أن تتركّز. وأمّا الرجال فإنّهم حيث يستنكفون عن التوسّل بالدموع لمعالجة قضاياهم ويستعصي الدمع في أماقيهم دون التمسّح بالأيدي والأقدام القذرة يخلقن كلّ أرمد ولا يجدون الخلاص عنها في أنفسهم عقدة تأخذ مجراها إلى تصرّفاتهم رويداً رويداً فيصبحون أصحاب شذوذ ـ من حيث يظنّون أنّهم عباقرة ـ ينكرهم المجتمع.

إذن فالدمع هو المعين الذي يغسل النفس عن العقد التي تترسّب عليها غبار المعارك والأحداث، وهنا الصفة الكريمة للرجل هي أن يكون جلداً رابط الجأش لا يهيج بالإثارات الطفيفة، لا أن يكبت نفسه إذا هاجت، ولهذا كان الأنبياء والأئمّة عليهم السلام الذين هم المثل الأعلى للإنسان الفاضل ، لا يكفكفون دموعهم إذا انبجست أبداً، فالنبي آدم عليه السلام بكى لطرده من الجنّة حتّى صنع الدمن مسيلين في خدّيه، والنبي يعقوب (عليه السلام) بكى على فراق ابنه يوسف حتّى ابيضت عيناه فعمى، والنبي يوسف (عليه السلام) بكى على أبيه يعقوب في السجن حتّى ضاق به السجناء معه حتّى قالوا له: إمّا أن تبكي الليل وتسكت النهار، وإمّا أن تبكي النهار وتسكت في الليل.
وإنّ فاطمة (عليها السلام) بكت على أبيها رسول الله حين قبضه الله إليه حتّى ماتت بغصّتها فلم تُرَ بعد أبيها إلاّ باكية العين معصبة الرأس منهدّة الركن يُغشى عليها ساعة بعد ساعة.
والإمام السجّاد (عليه السلام) بكى على أبيه الحسين (عليه السلام) بقيّة حياته، فقيل خمس وعشرين سنة وقيل أربعين سنة حتّى التحقق بالرفيق الأعلى.

إذن فالبكاء محبوب عند الله وفي جميع الأديان سواء أكان من خشية الله أو على نكبة، وأمّا البكاء على مآسي أهل البيت عليهم السلام ومأساة الطف بالذات فإنّه مستحب وعليه أجر وثواب عظيم.
وهناك أخبار كثيرة تدلّ على أنّ الله لم يبعث على وجه الأرض نبيّاً ولا وصيّاً إلاّ ذكّره بمصاب الحسين (عليه السلام) فبكى عليه قبل استشهاده، وأنّ النبيّ والزهراء وجميع الأئمّة (عليهم السلام) بكوا على الحسين (عليه السلام) بكاءً شديداً حتّى كان من ألقابه أنّه (صريع الدمعة الساكبة) وعَبْرَةُ كلّ مؤمن ومؤمنة) وحتّى بكته أسرته يوم ميلاده، وقال الإمام الرضا (عليه السلام) : (إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا وأسبل دموعنا وأذلّ عزيزنا بأرض كربٍ وبلاء).

وقال الإمام المنتظر (عليه السلام) في زيارة الناحية مخاطباً جدّة الشهيد: (ولئن أخّرتني الدهور وعاقني عن نصرك المقدور فلأندبنك صباحاً ومساءً ولأبكينَّ عليك بدل الدموع دماً).
وفي المستدرك بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام قال: (نظر النبيّ صلى الله عليه وآله إلى الحسين عليه السلام وهو مقبل فأجلسه في حجره وقال : (إنّ لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً).
ثمّ قال أبوجعفر: بأبي قتيل كلّ عبرة. قيل: وما قتيل كلّ عبرة: قال : (لا يذكره مؤمن إلاّ بكى).

وأمّا الأخبار الصادرة في فضل البكاء على الإمام الشهيد فهي كثيرة نذكر منها ما يلي:
جاء في كامل الزيارات عن أبي حمزة عن الإمام الصادق (عليه السلام) : (أنّ البكاء والجزع مكروه للعبد في كلّ ما جزع ما خلا البكاء والجزع على الحسين بن علي فإنّه مأجور).
روي عن الإمام الكاظم (عليه السلام) يقول: كان أبي إذا دخل شهر المحرّم لا يُرى ضاحكاً وكانت الكآبة تغلب عليه حتّى نمضي عشرة أيّام منه فإذا كان العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وبكائه ويقول هو اليوم الذي قتل فيه جدّي الحسين.

وكان (عليه السلام) يطلب من الشعراء أن يرثوا الحسين بما جادت قرائحهم، وكان يأمرهم أن ينشدوا بصوت حزين فإذا حضر الراثي ضرب لعياله ستراً وأجلسهم خلفه.
وكان الإمام الصادق (عليه السلام) يشجِّع الشعراء على نظم الشعر في الحسين بأقواله الكثيرة كقوله (عليه السلام): (ما من أحدٍ قال في الحسين شعراً فبكى وأبكى به إلاّ أوجب الله له الجنّة وغفر له).
وروي أنه في الأيّام الاُولى من المحرّم جاء السيِّد الحميري فقال له الإمام (عليه السلام): أنشدني في الحسين شعراً، وقام الإمام وضرب ستراً لنسائه واطفاله وأجلسهم خلف الستر وجلس هو وأصحابه حزيناً باكياً على مصيبة جدّه الحسين (عليه السلام) يقول السيِّد الحميري فأنشأتُ :

أمرر على جدثِِ الحسينِ
 فقل لأعظمه الزكيه

 إلى آخر قصيدة يقول:


وابكِ المطهّر للمطهر
 والمطهّرة التقية
كبكاء معولة أتت
 يوماً لواحدها المنيه

ويقول الحميري: فرأيت دموع جعفر بن محمد تتحادر على خدّيه وارتفع الصراخ من داره حتّى أمرني بالإمساك.
وكان الإمام الصادق(عليه السلام) : إذا مرّت عليه مصيبة يتذكّر مصيبة جدّه الحسين (عليه السلام) ويذكِّر بها أصحابه من ذلك.
ويذكر المؤرِّخون ذات يوم: أمرَ المنصور الدوانيقي عامله على المدينة أن يحرق على أبي عبدالله (عليه السلام) داره فجاءوا بالحطب فوضعوه على باب دار الإمام وأضرموا فيه النار فلمّا أخذت النار ما في الدهليز تصايحت العلويات داخل الدار وارتفعت أصواتهنّ فخرج الإمام (عليه السلام) وعليه قميص وإزار وفي رجليه نعلان فجعل يخمد النار ويطفئ الحريق حتّى قضى عليها فلمّا كان الغد دخل عليه بعض شيعته يسألونه فوجدوه حزيناً باكياً فقالوا: ممّن هذا التأثّر والبكاء؟ أمن الجرأة عليكم أهل البيت وليس منهم بأوّل مرّة؟ فقال الإمام ( عليه السلام) : لا، ولكن لمّا أخذت النار ما في الدهليز نظرت إلى نسائي وبناتي يتراكضن في صحن الدار من حجرة إلى حجرة ومن مكان إلى مكان هذا وأنا معهنّ في الدار فتذكّرت فرار عيال جدّي الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء من خيمة إلى خيمة ومن خباء إلى خباء والمنادي ينادي: احرقوا بيوت الظالمين.

هكذا كان الأئمّة عليهم السلام عندما يأتي شهر المحرّم يذكرون شيعتهم بمصيبة أبي عبدالله الحسين لحملها إلى الأجيال القادمة كي تتوضّح آراء الأئمّة في الشعائر الحسينية.
وكذلك جاء في الخبر المشهور عن الريان بن شبيب يقول: دخلت على مولاي علي بن موسى الرضا (عليه السلام) في أوّل يوم محرّم فقال يا ابن شبيب أصائم أنت؟ فقلت له: لا ، فقال (عليه السلام) : (يا ابن شبيب فمن صام في هذا اليوم ثم دعا الله تعالى استجاب له كما استجاب لزكريا (عليه السلام) .

ثمّ قال: يا ابن شبيب إنّ شهر محرّم كان أهل الجاهلية يحرّمون فيه الظلم والقتل لحرمته إلاّ هذه الاُمّة. فما عرفت حرمته ولا حرمة نبيّها ، لقد قتلوا فيه ذريّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) واستباحوا حريمه وسبوا نساءه وانتهبوا ثقله فلا غفر الله لهم ذلك أبداً. يا ابن شبيب إن كنت باكياً فابك الحسين (عليه السلام) فإنّه قتل وذبح كما تذبح الشاة (يعني ذبح من نحره) وقتل من أهل بيته معه سبعة عشر ليس لهم في الأرض من شبيه.
روي في كامل الزيارات ([4])  والعلامة المجلسي ينقله في البحار ([5]) . قالوا في الحسين (عليه السلام) ما ذكر اسمه عند كلّ مؤمن ومؤمنة ألاّ بكى واغتمّ لمصابه فهو سبب بكاء لكلّ مؤمن.
روي في البحار ([6]) والخصائص الحسينية ([7])  : أنّ آدم (عليه السلام) وزكريا (عليه السلام) كلّ واحد منهم قال: في ذكر الحسين (عليه السلام) تسيل عبرتي وينكسر قلبي.
روي في البحار ([8]) والخصائص الحسينية ([9]) في البكاء : عن الإمام الصادق (عليه السلام) حين سماعه الرثاء فقال بعده: لقد بكت الملائكة كما بكينا أو أكثر ولقد أوجب الله لك الجنّة بأسرها.
وروي في الكامل ([10]) وفي البحار ([11])  وفي الخصائص الحسينية، في الصراخ والنحيب والشهقة وإزهاق النفس أن الإمام الصادق يمدح ذلك ويقول لمن عمله ذلك ويقول في دعائه : (اللهم ارحم تلك الصرخة التي كانت لنا).
وفي مصباح المتهجّد للطوسي ([12])
في حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) : (اللّهم إني أعوذ بك من علمٍ لا ينفع ومن قلبٍ لا يخشع وعينٍ لا تدمع وبطنٍ لا تشبع).
وروي في العوالم ([13]) وفي البحار ([14]) وفي الخصائص الحسينية أنّ كلّ عين باكية يوم القيامة لشدّة من الشدائد إلا عين بكت على الحسين (عليه السلام) فإنّها ضاحكة مستبشرة بنعيم الجنّة.


وروي في العيون الباكية على الإمام الحسين (عليه السلام):
أنّ قطرة واحدة منها لو سقطت في جهنّم لأطفأت حرّها.
أنّ الملائكة لتلقى تلك الدموع وتجمعها في قارورة ([15])
وجاء لا تقدير لثوابها فكلّ شيء له تقدير خاصّ إلاّ أجر الدمعة ([16])
وروي الصدوق في الأمالي بإسناده عن الإمام الرضا (عليه السلام) : (من تذكّر مصابنا وبكى لما ارتكب فينا كان معنا في درجتنا يوم القيامة، ومن ذكر مصابنا فبكى وأبكى لم تلك عينه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلساً يحيي فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب).
وروي علي بن إبراهيم عن الإمام الصادق (عليه السلام) : (من ذكرنا أو ذكرنا عنده فخرج من عينيه دمع جناح بعوضة، غفر الله له ذنوبه ولو كان مثل زبد البحر.
وروى الشيخ في الأمالي بإسناده عن الإمام الصادق (عليه السلام) : (من دمعت عينه فينا دمعة لدم سفك لنا أو حقّ لنا نقصناه أو عرض انتهك لنا أو لأحد من شيعتنا بوّأه الله تعالى بها في الجنّة حقبا.
وروى أبو هارون المكفوف عن الإمام الصادق (عليه السلام) : (من ذكر الحسين عنده فخرج من عينيه من الدموع مقدار جناح الذباب كان ثوابه على الله ولم يرض له بدون الجنّة).
وكان الأئمّة عليهم السلام يشجّعون البكاء على الحسين بكلّ ما أمكنهم من أساليب فربما كانوا يذكرون ثواب البكاء على الإمام الشهيد، وحين كانوا يدعون لهم. ومن الدعوات التي دعا بها أهل البيت للباكين على الإمام الحسين ما رواه في الكافي وكامل الزيارة مسنداً عن معاوية بن وهب أنّه سمع الإمام الصادق (عليه السلام) يقول في سجوده : (اللهم ارحم تلك الوجوه التي غيرّتها الشمس وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمة لنا وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا وارحم تلك الصرخة التي كانت لنا، اللهمّ انّي أستودعك تلك الأنفس والأبدان حتّى توفيهم على الحوض يوم العطش الأكبر ([17]) .

قال الإمام الصادق : (إنّ من يدعو لزوّار الحسين في السماء أكثر ممّن يدعو لهم في الأرض).
والبكاء على أهل البيت جميعاً وعلى الحسين بصورة خاصّة له جوانب دنيوية قد يكون أبرزها الجانب التربوي، لأنّ البكاء على شيء وأيّ شيء لا يكون إلاّ بعد انفعال الباكي بالحادث الأليم الذي اكتنف ذلك الشيء حتّى يبكي عليه، ولكلّ حادث مجرم وضحية. ومن الطبيعي أن يؤدّي الانفعال إلى تحيّز الباكي للضحية ومعاداة المجرم فتهيج فيه الثورة على الظالم والإشفاق على المظلوم، وحيث إنّ الإمام الحسين (عليه السلام) ويزيد (لعنة الله عليه) لم يكونا تاجرين وقفا على ساحة المزايدة وكلّ واحد منهم انفرد على أن يحسد الآخر ويخلق فيما بينهما عداء وصل إلى القتل ، وإنّما كان كلّ واحد منهما يمثِّل جنبة بلغ فيها الذروة فتوفّر في ميدانها من المعاني الحيوية ما لم تتوفّر في أيّ ميدان أو معركة، فإن البكاء على الإمام الحسين عليه السلام يعني توجيه الباكي نحو جميع الفضائل وتنفيره من جميع الرذائل. ومثل هذه الفائدة السخية لا يمكن أن تحصل من البكاء على أي شهيد آخر أو متوفّى ولا من أي شيء آخر سوى البكاء على الإمام الشهيد (عليه السلام) حيث كان حيّاً بتأكيدات كلام الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز وتوجيهات الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) ، والمكافأة بذلك الثواب العظيم. فثواب البكاء على الإمام الحسين العظيم الذي جدّد ثورة الرسول العظيم . فتْح أبواب الجنان؛ لأنّه يدفع صاحبه إلى انتزاع صفات أهل النار وتقمّص صفات أهل الجنّة ولو بعد حين؛ حيث يتاح للبكاء أن يتفاعل مع الباطن ويخلّ فيه الآثار التربوية.

وهكذا لا تبدو الأحاديث السابقة مبالغة في ثواب البكاء على الإمام الشهيد (عليه السلام) ، ولا تكشف عن مجازفة في جعل الثواب إزاء البكاء عليه، وإنّما تعبّر عن ثواب البكاء بمقتضى أثر البكاء.
والكلام الذي ورد في القرآن المجيد والأحاديث التي نقلت عن الرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل البيت( عليهم السلام) بخصوص البكاء ، وما روى لنا علماء الطائفة بخصوص البكاء والثواب الحاصل من هذه المشاركة، والمكسب العظيم الذي يستحقّه الباكي على سيِّد الشهداء وشهداء الطف، وما نقلوا إلينا أنّ الباكي يتجرّد من الذنوب العظام، إنما هو بسبب مشاركته بهذه الشعيرة التي واسى بها الإمام الحسين وأهل بيته عليهم السلام.
التباكي على سيِّد الشهداء (عليه السلام)
التباكي غير البكاء، وهو شعيرة أُخرى ضمن الشعائر الحسينية؛ وتمثيل واقعي له أثر الحزن في النفس والقلب يشبه البكاء وتعبيره، إمّا أن يكون بأنين يخرج من آخل البلعوم ويشابه البكاء، وإمّا أن يكون تمثيلاً يظهره أمام الناس بأن يحني رأسه إلى الأرض، أو تتردّد أنفاس تلاحقها شجوة حنين وأنين يحسّس الآخرين بأنّه حزين وغاضب على الموقف حيال السبط (عليه السلام)، وهذا يتقرب بكلام الإمام زين العابدين( عليه السلام) في الصحيفة السجّادية، وضمن دعائه عليه السلام في ذكر التوبة وطلبها : فمثل بين يديك متضرّعاً وغمضت بصره إلى الأرض متخشّعاً وطأطأ رأسه لعزّتك متذلّلاً وأبثّك من سرّه ما أنت أعلم به خضوعاً)( ) .
والشاهد من كلام الإمام زين العابدين عليه السلام، أنه مجرّد أن ينوي العبد فيتهيّأ ويستعدّ للتوبة والإنابة وتظهر عليه علائم ذلك بصدق وإخلاص يحصل على أجر وثواب الندم والتوبة ، وذلك لأنّ النظر إلى الأرض وطأطأة الرأس والحياء واستشعار الندم مقدّمات تستجلب آثاراً معنوية وألطافاً إلهية، وكذلك المتباكي فإنّه يحاول البكاء ويستظهر علاماته ويهيئ مقدّماته فيحصل على أجر وثواب الباكي. فمن يحاول البكاء فلا تصدر منه عبرات البكاء، فيقوم بالتباكي بنيّة البكاء، يؤجر وإن لم يحصل له البكاء، فالله أعلم بالنيّة والحركة والعمل والتمثيل وما إذا رافقته نيّة الإخلاص.
حين يتباكى المرء على سيّد الثوّار الحسين بن علي عليه السلام متمثِّلاً قاصداً البكاء يحصل على ثواب أو أجر الباكي ، ويكون أحياناً البكاء بلا صوت أو أحياناً قد يكون بدون ذرف دموع لاستعصاء جريان الدموع، لنفاد الدمع الذي هو ينبع من رقّة القلب أو حنانه، ولا يوجد في بعض الأحيان عند بعض الأشخاص انطباع للصورة الحقيقية لمعركة  ‏الطف في الذهن ولهذا يكون التباكي مقدّمة لحصول هذا الانطباع وعند حصوله تدريجياً تتكامل عناصر التأثير الروحي فيحدث البكاء.
وهنا إشارة من المعصومين عليهم السلام إلى ثواب التباكي . وجاءت التوجيهات في التباكي بنفس الطريقة التي دعوا بها إلى البكاء.
عن النبي (صلّى الله عليه وآله) قال : (إنّي قارئ عليكم {ألهاكم التكاثر} من بكى فله الجنّة ومن تباكى فله الجنّة)( ) .
وروي عن أصحاب الإمام زين العابدين عندما كان يشرب الماء يطيل النظر إليه فيتباكى أوّلاً ثمّ يبكي ثانياً.
ونرى من التباكي لدى من يحاول فرض البكاء على نفسه في كارثة ولو من دون أن تستجيب طبيعته يكون مؤمناً بوجوب النصرة إلى جانب المظلوم والتظاهر بوقوفه ضد الظالم، وإن لم يتجاوب عملياً فيعتبر في طريق التجاوب غير أن عدم استجابة طبيعته يكشف عن أنّه يعمل لإزالته.
وكلّ من يعمل لإصلاح نفسه لابدّ أن يفوز ؛ لأنّ من سار على الدرب وصل، ومن عرف نقطة ضعفه وجاهد لتحويلها إلى نقطة قوّة نجح أيضاً .
بهذا يسوغ أن نقول إن للمتباكي ثواب الباكي، لاشتراكهما في أداء واجبهما تجاه مأساة يحاولان استخلاص عبرها.
ترى الأمر واضحاً في الحديث الوارد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) : (من بكى فله الجنّة ومن تباكى فله الجنّة) فهما شريكان في الأجر والثواب.
وفي كنز العمّال: أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قرأ على جماعة من الأنصار قوله تعالى : {فسيق الذين كفروا إلى جهنّم زمراً} فبكوا إلاّ شابّاً منهم قال: لم تقطر من عيني قطرة وإنّي تباكيت، فقال (صلّى الله عليه وآله) : (من تباكى فله الجنّة). ( )
وجاء في مجموعة ورام : أنّ أباذرّ حدّث عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: (إذا استطاع أحدكم أن يبكي فليبك ومن لم يستطع فليستشعر قلبه الحزن وليتباكَ فإنّ القلب القاسي بعيد عن الله).
كما جاء عن الشيخ الصدوق في الأمالي ، عن أبي عمارة عن الإمام الصادق عليه السلام: يا أبا عمارة من أنشد في الحسين شعراً فأبكى خمسين فله الجنّة، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى أربعين فله الجنّة، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى ثلاثين فله الجنّة، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى عشرين فله الجنّة، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى عشرة فله الجنّة، ومن أنشد في الحسين شعراً فبكى فله الجنّة، ومن أنشد في الحسين شعراً فتباكى فله الجنّة. ( )
وهنا تشير الأحاديث والروايات بأنّ ثواب التباكي نفس ثواب البكاء، فالبكاء والتباكي عملية واحدة ولها أثر واحد وثواب واحد. والتباكي والبكاء يكونان أمراً واحداً في حالة واحدة وهي أنّهما يصدران عن انفعال موحّد وحالة شعورية ونفسية متوافقة ، فيكون في هذه الحالة نفس التباكي بكاءً وله ثواب وأجر البكاء.
وهنا نذكّر أنّ أهل البيت عليهم السلام كلّهم بكوا على الحسين (عليه السلام) ونحن نعرف أنّ فعل المعصوم يكون حجّة علينا ويجب أتّباعه وامتثاله كما في قوله تعالى {ما آتاكم الرسول فخذوه}.
واليوم أصبح البكاء على سيِّد الأحرار الإمام الحسين له صورته الخاصّة ، وله عدّة جوانب إيجابية وأبرزها هذا الجانب التربوي لأنّ البكاء غايته شيء وهذا لا يحدث إلاّ عن انفعال بالحادث المؤلم الذي اكتنف ذلك الشيء فكون البكاء عليه أمراً حاصلاً بعد معرفة الحادثة وبعد الانفعال بها ومعرفة المظلومية هل هي مثل مظلومية الأنبياء الذين سبقوا الإمام الحسين بالجهاد، أم فريدة من نوعها أو أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) حجّة وخليفة نصبه الله سبحانه وتعالى، ولهذا كانت مظلوميّته مظلومية الأنبياء جميعاً وشهادته تمثِّل شهادة الخط الرسالي متمثِّلاً بصفوته وخلاصته حيث توحّدت فيه وتجمّعت جميع معاناة وآلام وتضحيات الأنبياء وبه تحقّقت طموحاتهم وأهدافهم ، وقد وردت أحاديث قدسية تنصّ بأنّه سوف يقتل مظلوماً مهضوماً في سبيل الله ومن أجل إرشاد وإصلاح الاُمّة.
إذن ما على الاُمّة إلاّ أن تستوعب بواعث هذه الثورة العملاقة لكي يبقى ما تركه الرسول العظيم (صلّى الله عليه وآله) من إرث رسالي محفوظاً مصوناً لا يطرأ عليه التبديل والتغيير.
إنّ الإمام الحسين (عليه السلام) يستحقّ هذا البكاء قبل استشهاده، نعم نحن نبكي على الإمام الحسين قبل شهادته وبعد شهادته لأنّ الرسول العظيم (صلّى الله عليه وآله) فداه بانه إبراهيم يوم خيّره الله تعالى فاختار حسيناً على إبراهيم حيث رأى فيه امتداد شخصيّته ورسالته وكفاه نبوغاً قوله عليه السلام: (الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معايشهم فإذا محّصوا بالبلاء قلَّ الديانون).


روي في البحار عن الإمام الحسن أنه قال:
إنّ الذي يؤتي إلي سمّ يدبّر إليّ فأقتل به ولكن لا يوم كيومك يا أباعبدالله يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل يدعون أنّهم من اُمّة جدّنا وينتحلون دين الإسلام فيجتمعون في قتلك وسفك دمك وانتهاك حرمتك وسبي ذراريك ونسائك وأخذ ثقلك فعندها تحلّ ببني اُميّة اللعنة وتمطر السماء رماداً ودماً ويبكي عليك كلّ شيء حتّى الوحوش في الفلوات والحيتان في البحار. ( )
وجاء عن الإمام الرضا عليه لاسلام في حديث : (فعلى مثل الحسين فليبك الباكون، فإنّ البكاء عليه يحطّ الذنوب العظام). ثمّ قال: كان أبي عليه السلام إذا دخل شهر المحرّم لا يُرى ضاحكاً وكانت الكآبة تغلب عليه حتّى تمضي عشرة أيّام، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه ويقول: هو اليوم الذي قُتل فيه الحسين عليه السلام.
وعن علقمة عن أبي جعفر عليه السلام (في حديث زيارة الحسين عليه السلام يوم عاشوراء من قرب وبُعد) قال:
ثمّ ليندب الحسين ويبكيه ويأمر من في داره ممّن لا يتّقيه بالبكاء عليه.. ليعزِّ بعضهم بعضاً بمصابهم بالحسين عليه السلام.
قلت: وكيف يعزّي بعضنا بعضاً؟ قال: تقول: عظَّم الله أجورنا بمصابنا بالحسين عليه السلام وجعلنا وإيّاكم من الطالبين بثأره مع وليّه الإمام المهدي من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله) ( ).
وجاء عن زيد الشحّام في الحديث (أنّ أباعبدالله عليه السلام قال لجعفر بن عفان الطائي : بلغني أنّك تقول الشعر في الحسين عليه السلام وتجيد؟ قال : نعم فأنشده فبكى ومن حوله حتّى سالت الدموع على وجهه ولحيته.
وقال من أنشد في الحسين بيتاً من الشعر فبكى وأبكى عشرة فله ولهم الجنّة. ( )
عن معاوية بن وهب قال: دخلت على أبي عبدالله (عليه السلام) وهو في مصلاّه فجلست حتّى قضى صلاته فسمعته وهو يناجي ربّه ويقول: يا من خصّنا بالكرامة ووعدنا بالشفاعة .. اغفر لي ولإخواني وزوّار قبر أبي عبدالله الحسين بن علي صلوات الله عليهما. ( )
اللهم إنّ أعداءنا عابوا عليهم خروجهم فلم يثنِهم ذلك من النهوض والشخوص إلينا خلافاً عليهم فارحم تلك الوجوه التي غيّرتها الشمس وارحم تلك الخدود التي تتقلّب على قبر أبي عبدالله عليه السلام وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمةً لنا وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا وارحم الصرخة التي كانت لنا. اللهمّ إنّي أستودعك تلك الأنفس والأبدان حتّى ترويهم من الحوض يوم العطش. ( )
وعن علي بن الحين عليه السلام قال: أيما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين عليه السلام حتّى تسيل على خدّيه بوّاه الله غرفاً يسكنها أحقاباً.
وعنه وعن الرسول (صلّى الله عليه وآله) قال: كلّ عين يوم القيامة باكية وكلّ عين يوم القيامة ساهرة إلاّ عين من اختصّه الله بكرامته وبكى على ما يُنتهك من الحسين وآل محمّد عليهم السلام.
وعن عبدالله بن الفضيل الهاشمي قال: قلت لأبي عبدالله الصادق (عليه السلام) : يابن رسول الله كيف صار يوم عاشوراء يوم مصيبة وغمّ وحزن وبكاء دون اليوم الذي قبض فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) واليوم الذي ماتت فيه فاطمة واليوم الذي قُتل فيه أميرالمؤمنين واليوم الذي قُتل فيه الحسن بالسمّ؟ فقال : إنّ يوم الحسين أعظم مصيبة من جميع سائر الأيّام وذلك: أنّ أصحاب الكساء الذين كانوا أكرم الخلق على الله عزّوجلّ وكانوا خمسة فلمّا قتل الحسين لم يكن بقي من أصحاب الكساء أحد للناس فيه عزّ وسلوة فكان ذهاب جميعهم كما كان بقاؤه كبقاء جميعهم. ( )
وعنه كما جاء في الحديث (عليه السلام) من كان يوم عاشوراء يوم مصيبته وحزنه وبكائه يجعل الله عزّوجلّ يوم القيامة يوم فرحه وسروره.
يستحقّ الإمام الحسين (عليه السلام) البكاء من الاُمّة كونه صورة أُخرى لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وهو الذي تكشف عظمته عن عظمة النبوّة في محمّد (صلّى الله عليه وآله) ونبوغه عن نبوغ الرجولة في عليّ (عليه السلام) وقداسته عن قداسة الفضيلة في فاطمة (عليها السلام) ، وكان عظيماً جمع في ذاته من الفضل ما تفرّق في عموم الناس.
إقامة المأتم على سيِّد الأحرار أبي عبدالله الحسين عليه السلام
المأتم : شعيرة من شعائر الإسلام تعهّد بها العرف وأضحت من قيمه الاجتماعية، والمأتم هو الاجتماع الذي يعقده أهل المصاب أو أهل الشهيد وأحبّاؤه وقد اجتمع المسلمون في مآتم شهداء بدر واُحد ، ويذكر لنا التاريخ مآتم حمزة سيِّد الشهداء وأنّ الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) كان يحثّ المسلمين على إنشاء المآتم والبكاء على حمزة (عليه السلام).
والمأتم ارتبط من الناحية العرفية بالشهيد والمتوفّى ، وبهذا يطبع المأتم بطابع الحزن والبكاء وذكر المصيبة، ولمّا كانت أعظم المصائب هي مصيبة الإمام الحسين (عليه السلام) فإنّ المأتم ارتبط بذكر مصيبة الإمام الحسين (عليه السلام) وتخليدها وإظهار حالة الحزن والأسى والبكاء والانفعال العاطفي على سيِّد الشهداء الحسين (عليه السلام).
والمآتم رافقت المسيرة الجهادية الإسلامية وخاصّة عندما كان الإسلام فتيّاً. وكان النبي(صلّى الله عليه وآله) إذا صلّى في الناس قام خطيباً وذكر الشهداء في المعارك التي خاضها المسملون وإذا جمع الناس قام مبلِّغاً يبلِّلغ عن الله تعالى موضّحاً مكانة المستشهد في سبيل الله وقربه ومقامه حاثّاً المسلمين على رعاية أهله وذويه.
إنِّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قضى كلّ حياته داعياً وموجِّهاً، وكان يُحيي هذه المجالس لكي يذكر فيها اسم الله تبارك وتعالى ويذكر فيها خطّ الشهادة وفضل الشهداء والدعوة إلى التمسّك بخطّ الشهداء، وإذا مات أو استشهد أحد المسلمين كان يعظّمه رسول الله ويقرأ الفاتحة على روح ذلك الشهيد ذاكراً صفاته الحسنة وأتعابه وجهاده وإخلاصه داعياً له بالمغفرة والرحمة.
أمّا مجالس سيِّد الشهداء أبي عبدالله الحسين (عليه السلام) فقد خلّدها التاريخ بعد مضيّ عشرات القرون وهي باقية على مدى العصور تتجدّد وتحيى في كلّ عام بل أحياناً كلّ اسبوع، وعندما تمرّ علينا مصائب أهل البيت وتقام هذه المآتم لأجلهم يذكر فيها مصائب أهل البيت وتذكر في هذه المآتم أيضاً مصيبة إمامنا الحسين (عليه السلام).
وتعتبر أيّام محرّم الحرام أيّام إحياء وعزاء ، فقد أكّد على إحياء هذه المآتم الأئمة المعصومون عليهم السلام ، قال الصادق (عليه السلام) : (أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا)( ) . وفي هذا الإحياء الذي يأمرنا الأمام المعصوم به، خصائص متعدّدة تتعلّق باجتماع مجموعة مؤمنة تجلس في مكان واحد تصغي لشخص واحد يجلس أمامهم ـ وهو معروف بالكمال والزهد والأخلاق ـ يُرشد الناس بالموعظة الحسنة والحكمة ويذكّرهم بالوعد والوعيد وما جرى على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار.
ولابدّ من وجود هذا المذكّر لأنّ الناس ليسوا كلّهم يقرؤون ويكتبون ويصعب عليهم معرفة حقائق الأنبياء (عليهم السلام) وما جرى عليهم وعلى أهل البيت (عليهم السلام) من مظلومية وخاصّة مظلومية الإمام الحسين وأهل بيته، وإظهار كلمة الحقّ والصلاح التي خرج من أجلها الإمام الحسين (عليه السلام) ، وتشخيص الظالم الذي قاتله، وكيف أن حبّ الدنيا يكون سبباً لكلّ خطيئة فمنها خطيئة التخلّي عن نصرة أهل البيت عليهم السلام.
وفي مثل هذه المآتم أهداف قدسية عظيمة يجب أن نذكرها لغرض تنبيه الاُمّة وتوعيتها على جوانب مهمّة من جوانب وأبعاد الثورة الحسينية وأهدافها وغاياتها المقدّسة. فهذه الثورة درس تأريخي دائم في عطائه خالد في مساهمته التوعوية والتربوية وواضح المعالم في بيانه بلا خلاف. ففي كلّ عام تنبثق منها رياحين المحبّة والذكر لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته عليهم السلام. وتجلس في هذه المآتم لتسمع الخبر التوجيهي الثوري والداعي للإصلاح والتغيير.
فبعد وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله) انقرضت تلك الحالة المعنوية تماماً وتنافس المتنافسون لغير الله بل للمصالح الخاصّة فكان الإمام الحسين (عليه السلام) سيِّد الثوّار الذي جدّد فينا بثورته العملاقة روح التضحية والفداء وجعل فينا روح التفاني والإيثار والشجاعة وعلّمنا بدروسه الأخلاقية الفكر الإنساني والإسلامي وحبّ الولاية والولاء للرسول ولآل الرسول (عليهم السلام) وعلّمنا كيف نحرص على ديننا لأجل الله سبحانه وتعالى ولأجل آل محمّد (صلّى الله عليه وآله).
فهذه المآتم الحسينية طرحت روح الثورة وأبعاد وحقائق وغايات الانقلاب الفكري العظيم الذي حدث في شبه الجزيرة العربية آنذاك وأخذت بصداها المشعّ تبعث فينا النصر ويكون الإمام الحسين مصداقاً للقرآن العظيم الذي قال في الحسين (عليه السلام) :{ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءُ عند ربّهم يرزقون فرحين بما أتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألاَّ خوف عليهم ولا هم يحزنون يستبشرون بنعمة من الله وفضل وانّ الله لا يضيع أجر المؤمنين}( ) .
وهو الإمام الثائر وهو القائد والإمام الذي ضحّى في سبيل الله والإسلام بحياته وكلّ أفراد عائلته وجميع ما يملك تاركاً الاعتبارات الزائلة والتي تذهب بالناس إلى الهلاك، وقدّم الإمام الثائر نفسه لأجل الحقيقة والأهداف الربّانية بثقة وإيمان وهدوء ليكمل دين جدّه المقدّس ويوضّح مناهج الإسلام الصحيح وينقذ الاُمّة من عوالق المنحرفين الذين تاجروا بالحقّ ليروُجوا به الباطل، فقد كانت رسالة النبي (صلّى الله عليه وآله) في وضع تصميم ثابت للإسلام وتنفيذ أحكامه لذا ظهرت مسؤولية الإمام الثائر (عليه السلام) وقراره الأخير هو القيام بتعديل أو إصلاح خطّ الإسلام وفضح المتآمرين عليه وإخراجهم من دائرة الإسلام وإعادة ثورة الرسول (صلّى الله عليه وآله) ولهذا تتصفّح عدّة أقوال صادرة من الرسول (صلّى الله عليه وآله) في الحسين تبيّن كونه هو الإمام العظيم الذي وجبت علينا طاعته وتذكر عنه قائلاً:
1 ـ (حسين منّي وأنا من حسين).
2 ـ (الحسن والحسين ريحانتاي من الدنيا).
3 ـ (الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة).
4 ـ (الحسن والحسين سبطا هذه الاُمّة).
5 ـ (الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا)( ) .
وكان الرسول العظيم حكى لنا الكثير عن حبّ الإمام الحسين وعنه قائلاً: (من سرّه أن ينظر إلى سيِّد شباب أهل الجنّة فلينظر إلى الحسن وأمّا الحسن فإنّه منّي أمره أمري وقوله قولي فمن تبعه فإنّه منّي ومن عصاه فليس منّي والحسن والحسين ابناي من أحبّهما أحبّني ومن أحبّني أحبّه الله ومن أحبّه الله أدخله الجنّة ومن أبغضهما أبغضني ومن أبغضني أبغض الله أدخله النار).
ونرى من خلال الوقوف وراء هذه الأحاديث أنّ الله سبحانه وتعالى يحبّ الحسين والرسول يحبّ الحسين ومن الواجب إظهار هذا الحبّ من خلال تأسيس مآتم نذكر فيها ما يريده الله تعالى والرسول وأهل البيت (عليهم السلام) وفي مرّ الدهور لا توجد مصيبة أشدّ من كلّ مصيبة مرّت على الأنبياء والأولياء والأوصياء مثل مصيبة سيِّد الأحرار وأبي الثوّار الإمام الثائر هو وعائلته وأصحابه المتجبين.
ولذلك تأسّست هذه المآتم وبالتأكيد نتج من خلالها روح الثورات التي قام بها الرسول العظيم من خلال الثورة العارمة التي قام بها سيِّد الأحرار، وبواسطة هذه المآتم وديمومتها تشرق تلك الثورة بروحية جديدة تنبعث كل عام.
ومنذ استشهاده (عليه السلام) حتّى يومنا هذا استطاعت تلك الثورة أن تعبّر عن مفاهيمها وحقائقها الإلهية، وأن تفتتح أوسع المجالات لأهداف كبيرة جدّاً، علماً أنّها اجتاحت حكومة كلّ سلطان جائر آنذاك واجتاحت الحكومات التي أتت بعدها والتي هي ورثت نفس إنحرافها فلابدّ أن تكون ثورة الإمام الحسين ثورة يتوارثها الأجيال جيلاً بعد جيل لتجديد حركة الرسالة المحمّدية، ويكون هدفها هو الهدف والعامل الذي كانت تندمج من خلاله أحاديث وتوجيهات أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) الحاثّة على إقامة المآتم.
روى الشيخ يوسف بن حاتم ـ تلميذ المحقّق الحلّي ـ عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنّه قال:
(لما أردت الخروج من المدينة إلى خراسان جمعت عيالي وأمرتهم بالندبة عليَّ، حتّى أسمع بكاءهم ثمّ قسّمت بينهم اثنى عشر ألف دينار وقلت لهم: إنّي لا أعود إلى أهل بيتي أبداً). ( )
علماً أنّ هذا الحدث حدث في منى لإظهار مظلوميّتهم بين عموم المسلمين والواضح من هذا هو تاسيس نائحات يندبن الإمام الرضا (عليه السلام) .
وفي زيارته المأثورة : (السلام على من أمر أهله بالنياحة عليه قبل وصول المنية إليه إلى آخر الزيارة).
وفي التهذيب للطوسي، عن يونس بن يعقوب عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال لي أبوجعفر: (أوقف لي من مالي كذا وكذا لنوادب يندبنّي عشرة سنين بمنى أيّام منى).( )
وهنا نرى رأي أحد العلماء البارزين من أهل العلم والمعرفة الذي استشهد على أقذر أيادي شرار خلق الله (الشهيد المظلوم آية الله السيّد حسن الشيرازي قدس سره):
(ومن هذا الحديث يستكشف بأنّ هدف الإمام من المأتم ـ الذي أوصى بإقامته في منى عشرة سنين ـ لم يكن مجرّد ذرف الدموع بمقدار ما كان امتداد لرسالته وإلاّ لم يكن مبرّر لتخصيصه المكان بمنى ولكان الأسهل أن يوصي بنوادب يندبنّه في مكّة أو في المدينة. وإنّما أراد امتداد رسالته فأوصى بنوادب يندبنّه في المواسم حين يجتمع الناس من كل فجٍّ عميق ليشهدوا منافع لهم وفي أيّام العيد حيث يكون الناس مبتهجين بإتمام الحجّ ليكون البكاء متنافراً مع طبيعة الموقف وطبيعة تلك الأيّام وطبيعة الناس وفي ذلك الموقف فيكون أبعث على التساؤلات سبب سماع الندب والقصّ عند رجوعهم من منى وتفرّقهم في بلادهم وبذلك يكون الإمام قد أعاد إلى الأذهان ذكرياته وظلاماته وحملا الحجاج على نشرها في مختلف البلاد عن طريق لا يمكن السلطات مكافحته وصدّه). ( )
عن دعبل الخزاعي قال:
دخلت علي سيّدي ومولاي علي بن موسى الرضا في أيّام عشر المحرم فرأيته جالساً جلسة الحزين الكئيب وأصحابه من حوله فلمّا رآني مقبلاً قال لي: مرحباً بك يا دعبل مرحباً بناصرنا بيده ولسانه ، ثمّ إنّه وسَّع لي في مجلسه وأجلسني إلى جنبه.
ثمّ قال لي: يا دعبل اُحبّ أن تنشدني شعراً، فإنّ هذه الأيّام أيّام حزن كانت علينا أهل البيت ، وأيّام سرور كانت على أعدائنا خصوصاً بني اُميّة ، يا دعبل من ذرفت عيناه على مصابنا ولو واحداً كان أجره على الله ، يا دعبل من ذرفت عيناه على مصابنا وبكى على مصاب جدّي الحسين غفر الله له ذنوبه البتة.
ثمّ إنّه نهض وضرب ستراً بيننا وبين حرمه وأجلس أهل بيته من وراء الستر ليبكوا على مصاب جدّهم الحسين.
ثمّ التفت إلي وقال : (يا دعبل إرثِ الحسين فأنت ناصرنا ومادحنا ما دمت حيّاً فلا تقصّر في نصرتنا ما استطعت).
قال دعبل: فاستعبرت وسالت عبرتي وأنشأت أقول:
أفاطم لو خلت الحسين مجدّلاً
وقد مات عطشاناً بشطِ فرات
إذن للطمت الخدّ فاطم عنده
وأجريت دمع العين في الوجنات ( )
و في منتخب الطريحي: (.. واقبل الناس إلى عبدالله بن جعفر الطيّار يعزّونه فأقبل جلساؤه وقال: الحمد لله لقد عزَّ علي المصاب بمصرع الحسين أن لا أكون آسيته بنفسي فلقد آساه ولداي.( )
ولهذا أنقل إليك المآتم التي كانت قبل شهادته. روي في بحار الأنوار ( ) والمنتخب للطريحي ( ) والخصائص ( )كان آدم (عليه السلام ) في كربلاء لما كان يطوف في الأرض فعند وصوله إلى مقتل الحسين (عليه السلام) عثر برجله فوقع وسال الدم من رجله فرفع رأسه إلى السماء وقال: إلهي هل حدث ذنب آخر فعاقبتني؟ فأوحى إليه: لا ولكن يقتل في الأرض ولدك الحسين ظلماً فسال دمك موافقة لدمه فقال: من القاتل له؟ فأوحى إليه الله : انّه يزيد فالعنه فلعنه أربعاً ومشي خطوات إلى جبل عرفات.
وروي في بحار الأنوار ( )   وفي الخصائص ( )   والمنتخب للطريحي ( )  جاء : سفينة نوح (عليه السلام) لمّا وصلت فوق أرض قتل الحسين (عليه السلام) ومحل طوفان السفينة لأهل البيت أخذتها الأرض فخاف نوح الغرق فقال: إلهي طفت الدنيا وما أصابني فزع مثل ما أصابني في هذه الأرض فنزل جبرئيل (عليه السلام) بقضية الحسين (عليه السلام) وقال : يقتل في هذا الموضع فبكى نوح وأصحاب السفينة ولعنوا قاتله ومضوا.
وروي في البحار ( )  والخصائص جاء فيه:
حيث التقى موسى مع الخضر فحدثه عن آل محمد (صلّى الله عليه وآله) وعن بلائهم. حتّى إذا بلغ إلى حديث الحسين (عليه السلام) علت أصواتهما بالبكاء على ما جاء في الرواية.
وروي في البحار ( ) والمنتخب الطريحي ( )  والعوالم ( ) جاء عن بساط سليمان وجنوده من الجنّ والإنس والطير وذلك أنّه لمّا كان عن البساط في الهواء وصار محاذياً للمقتل أدارت الريح البساط ثلاث مرّات وانحطت على الأرض فعاتب الريح فأخذت الريح ترثي وتقول: يا نبي الله إنّ في هذا المكان مقتل الحسين (عليه السلام) إلى آخر الحديث.
جاء في البحار ( ): شاطئ حزران لإبراهيم (عليه السلام) حيث أُري ملكوت السماوات والأرض ورأى شبح الحسين (عليه السلام) فبكى عليه قال : يا إبراهيم فإنّ طائفة تزعم أنّها من اُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) ستقتل الحسين ابنه من بعده ظلماً وعدواناً كما يذبح الكبش ويستوجبون بذلك سخطي فجزع إبراهيم (عليه السلام) بذلك وتوجّع قلبه وأقبل يبكي فأوحى الله عزوجل : يا إبراهيم قد فديت جزعك على ابنك إسماعيل لو ذبحته بيدك يجزعك على الحسين (عليه السلام) وقتله وأوجبت لك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب لذلك قوله سبحانه وتعالى : {وفديناه بذبحٍ عظيم}.
وروي في البحار رواه المجلسي ( ) ، أن إسماعيل (عليه السلام) كان في شريعة الفرات وذلك أنّ أغنامه كانت ترعى بشاطئ الفرات فأخبره الراعي أنّها لا تشرب الماء منذ أيّام فسأل ربّه عن ذلك فأوحى إليه: سل غنمك فسألها: لِمَ لا تشربين من هذا الماء؟ فقالت بلسان فصيح: قد بلغنا أنّ ولدك الحسين سبط محمّد (صلّى الله عليه وآله) يقتل هنا عطشاناً فنحن لا نشرب من هذه المشرعة حزناً عليه.
وروي في بحار الأنوار ( ) معاني الأخبار ( )  عن الإمام الرضا (عليه السلام) كان إبراهيم (عليه السلام) بكى على الإمام الحسين (عليه السلام) حيث فدا ولده بالكبش ؛ لما أمر الله عزّوجلّ إبراهيم (عليه السلام) أن يذبح مكان ابنه إسماعيل (عليه السلام) الكبش الذي أنزله عليه تمنّى إبراهيم (عليه السلام) أن يكون قد ذبح ابنه إسماعيل (عليه السلام) بيده وانّه لم يؤمر بذبح الكبش مكانه ليرجع إلى قلبه ما يرجع إلى قلب الوالد الذي يذبح أعز ولده عليه بيده فيستحقّ بذلك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب فأوحى الله عزّوجلّ إليه: يا إبراهيم من أحبّ خلقي إليك؟ فقال: يا ربّ ما خلقت خلقاً هو أحبّ إليَّ من حبيبك محمّد (صلّى الله عليه وآله) فأوحى الله إليه: أفهو أحبّ إليك أم نفسك؟ قال: بل هو أحبّ إليَّ من نفسي ، قال: فولده أحبّ إليك أم ولدك؟
قال : بل ولده، قال: فذبح ولده ظلماً على أيدي أعدائه أوجع لقلبك أو ذبح ولدك بيدك في طاعتي؟ قال: يا ربّ بل ذبحه على أيدي أعدائه أوجع لقلبي.
وروي في البحار ( ) :
عن الحجّة القائم عجّل الله فرجه قال: إنّ زكريا إذا ذكر محمّداً وعلياً وفاطمة والحسن (عليهم السلام) سُرِّي عنه همّه وانجلى كربه وإذا ذكر اسم الحسين خنقته العبرة ووقعت عليه البهرة. فقال (عليه السلام) ذات يوم: إلهي مالي إذا ذكرت أربعة منهم تسلّيت بأسمائهم من همومي وإذا ذكرت الحسين (عليه السلام) تدمع عيني وتثور زفرتي؟ فأنبأه الله تعالى عن قصّته فقال {كهيعص}: فالكاف اسم كربلاء والهاء هلاك العترة الطاهرة والياء يزيد ـ لعنه الله ـ وهو ظالم الحسين (عليه السلام) والعين عطشه والصاد صبره. فلمّا سمع ذلك زكريا لم يفارق مسجده ثلاثة أيّام ومنع فيهنّ الناس من الدخول عليه وأقبل على البكاء والنحيب وكان رثاؤه إلهي أتفجع خير جميع خلقك بولده ؟إلهي أتُنزل بلوى هذه الرزية بفنائه؟ إلهي أتلبس علياً وفاطمة ثياب هذه المصيبة؟ إلهي أتحلّ كربة هذه المصيبة بساحتها؟ ثمّ كان يقول: اللّهم ارزقني ولداً تقرّ به عيني على الكبر فإذا رزقتنيه فأفتنّي بحبّه ثمّ افجعني به كما تفجع محمّداً (صلّى الله عليه وآله) حبيبك بولده فرزقه الله يحيى (عليه السلام) وفجعه به وكان حمل يحيى ستة أشهر وحمل الحسين (عليه السلام) كذلك.
وروي في الإرشاد للشيخ المفيد ( ) وفي البحار ( ) جاء أنّ رسول الله محمّد (صلّى الله عليه وآله) في كربلاء قال عليه وآله السلام: أُسري بي إلى موضع يقال له كربلاء ورأيت فيه مصرح الحسين وأصحابه فعقد هناك مجلساً لعزائه.
وروي عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال : مرَّ علي (عليه السلام) بكربلاء في اثنين من أصحابه فلمّا مرَّ بها ترقرقت عيناه للبكاء ثمّ قال: هاهنا ـ والله ـ مناخ ركابهم . هاهنا ملقى رحالهم وهاهنا تهراق دماؤهم. طوبى لك من تربة عليك تهراق دماء الأحبة ( ) .
وفي مناقب أبي مخنف:
لمّا دخلت النسوة دار يزيد لم يبق من آل معاوية و لا آل أبي سفيان أحد إلاّ استقبلهنّ بالبكاء والصراخ والنياحة على الحسين وألقيت ما عليهنّ من الثياب والحلي وأقمن المآتم عليه ثلاثة أيّام أراد الله أن تشاء مثل هذه المآتم في ديار الظلمة ويذكر فيها مظلوميّة الإمام الثائر وأهل بيته (عليهم السلام).
وفي جلاء العيون عن السيِّد ابن طاووس : ... ولمّا رجعت نساء الحسين وعياله من الشام وبلغوا إلى العراق قالوا للدليل مرّ بنا على طريق كربلاء فوصلوا إلى موضع المصرع فوجدوا جابر بن عبدالله الأنصاري وجماعة من بني هاشم ورجالاً من آل رسول الله وقد وردوا لزيارة قبر الحسين (عليه السلام) توافق لقائهم في وقت واحد وتلاقوا بالبكاء والحزن واللطم وأقاموا المآتم المقرحة للأكباد واجتمع إليهم النساء وأقاموا على ذلك أيّاماً.
وفي جلاء العيون أيضاً جاء إلينا عن زرارة قال: أوصى أبو جعفر بثمانمائة درهم لمأتمه وكان يرى ذلك من السنّة لأنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال : (اتخذوا لآل جعفر طعاماً فقد شغلوا).
وفي مثير الأحزان : (... وأقامت اُمّ البنين زوجة أميرالمؤمنين العزاء على الإمام الحسين (عليه السلام) واجتمع عندها نساء بني هاشم يندبن الإمام الحسين وأهل بيته وبكت اُمّ سلمة وقالت : فعلوها ملأ الله قبورهم ناراً) ( ) .
وفي تاريخ الطبري ( )  والبداية لابن كثير واللهوف وأمالي الصدوق:
لمّا خطبت زينب (عليها السلام) في مجلس يزيد هزّت من في المجلس حتّى راح رجل يحدّث جليسه بالضلال الذي غمرهم، فلم يرَ يزيد مناصاً من أن يخرج الحرم من المجلس إلى خربة لاتكفهم من حرّ ولا برد فأقاموا فيها ينوحون على الحسين ثلاثة أيّام.
وفي البحار عن الكافي: (... أمّا الرباب فبكت على أبي عبدالله حتّى جفّت دموعها فأعلمتها بعض جواريها بأنّ السويق يسيل الدمعة فأمرت أن يصنع لها السويق لاستدرار الدموع).
وفي محاسن البرقي ـ باب الإطعام للمأتم ـ : (... لمّا رجعت نساء الحسين (عليه السلام) إلى المدينة .. أقمن حرائر الرسالة المآتم على سيّد الشهداء ولبسن المسوح والسواد نائحات الليل والنهار والإمام السجّاد يعمل لهنّ الطعام).
وروي الكليني عن الإمام الصادق قال: (لمّا قتل الإمام الحسين عليه السلام أقامت امرأته الكليبية عليه مأتماً وبكت النساء حتّى جفّت عيونهنّ من الدموع وذهبت فبينا هي كذلك إذ رأيت جارية من جواريها تبكي ودموعها تسيل فدعتها فقالت لها: ما لك أنت من بيننا تسيل دموعك. قالت : إنّي لمّا أصابني الجهد شربت شربة سويق، قال: فأمرت بالإطعام والأسوقة فأكلت وشربت وأطعمت وسقت؛ إنّما تريد بذلك أن تتقوّى على البكاء على الإمام الحسين).
وعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال للفضيل بن يسار : (أتجلسون وتتحدّثون؟) قال: نعم، فقال (عليه السلام) : (أمّا أنّي أحبّ تلك المجالس فأحيوا أمرنا فإنّ من جلس مجلساً يُحيي فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب).
وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: (رحم الله عبداً اجتمع مع آخر فتذاكروا في أمرنا فإنّ ثالثهما ملك يستغفر لهما واجتمع اثنان على ذكرنا إلاّ باهى الله بهما الملائكة فإذا اجتمعتم فاشتغلتم بالذكر فإنّ في اجتماعكم ومذاكرتكم إحياءنا وخير الناس بعدنا من ذاكر بأمرنا ودعا إلى ذكرنا) ( ) .
وكذلك زينب (عليها السلام) لم تتحاش من أن ترفع صوتها بالنياحة على أخيها الحسين الشهيد في كلّ مناسبة ـ بين الأعداء ـ وفي يوم الحادي عشر من المحرّم بصورة مشهورة كما روى المفيد وابن طاووس : ... إنّ القوم لمّا مرّوا بالنسوة على مصارع قتلاهنّ صحن وضربن وجوههنّ. وقال الراوي: فوالله لا أنسى زينب بنت علي (عليهما السلام) وهي تندب الحسين وتنادي بصوت حزين وقلب كئيب (وامحمّداه) فأبكت كلّ عدوٍّ وصديق حتّى جرت دموع الخيل على حوافرها كما في المنتخب للطبري.
وفي الروايات أنّ سكينة ابنة الإمام اعتنقت جسد الحسين وجعلت تندبه فاجتمعت عدّة من الأعراب حتّى جرّوها عنه.
ويروى أنّ الإمام الحجة بن الحسن (عج) في زيارته الناحية قال : (فلمّا نظرن النساء إلى الجواد مخزياً والسرج معلوياً خرجن من الخدور ناشرات الشعور على الخدود لاطمات وبالعويل داعيات ...) إلى آخر الزيارة.
وفي مقتل الخوارزمي : (... ونادت اُمّ كلثوم : وامحمّداه ... واأبتاه).
وكذلك في مقتل أبي مخنف ( )  أنشأت تقول:
كم تنصبون لنا الأقتاب عارية
كأنّنا من بنات الروم في البلد
ونرى أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) كان يسمع النوائح من الأُسر المفجوعة ليعزّيهنّ ويترحّم على أمواتهنّ وكان (صلّى الله عليه وآله) يبكي الإمام الحسين في حياته قبل شهادته، وكان يوصي بالبكاء والنياحة عليه.
وكان يبكي عمّه حمزة سيِّد الشهداء. وكذلك ناحت عمّته صفية وابنته فاطمة (عليهما السلام) وجرت عين رسول الله بالبكاء في وسط المعركة عندما استشهد عمّه حمزة (عليه السلام) ورأوا صحابة الرسول (صلّى الله عليه وآله) الحادث. وأنّ فاطمة الزهراء (عليها السلام) كانت تندب أباها ليلاً ونهاراً حتّى تضايق بها أهل المدينة فبعثوا إليها علياً (عليه السلام) ليقول لها: إما أن تبكي ليلاً وتسكت نهاراً، وإمّا أن تبكي نهاراً وتسكت ليلاً ( ) .
ونستفيد من الأحاديث والروايات هذه وورودها في النساء أنه يوجد فيها إباحة ومحبوبيّة وأنه كان عند أهل البيت محبوباً. وعن الإمام الصادق قال عليه السلام في دعائه له: (اللهمّ ارحم تلك الصرخة التي كانت لنا).
وفي قاموس اللغة أنّ الصرخة هي الصيحة الشديدة، فهي شاملة للنساء كما تشمل الرجال.
وروى الصدوق في العيون : أنّ دعبل بن علي الخزاعي لمّا أنشد الرضا (عليه السلام) تائيته المشهورة وقال:
أفاطم لو خلت الحسين مجدّلاً
وقد مات عطشاناً بشطِ فرات
إذن للطمت الخدّ فاطمه عنده
وأجريت دمع العين في الوجناتِ
يقول : لطمت النساء وعلا الصراخ من وراء الستر، وبكى الرضا بكاءً شديداً حتّى اُغمي عليه مرّتين.
وروي في الكامل عن أبي هارون المكفوف قال:
أمرر على جدث الحسين
وقل لأعظمه الزكيه
ثمّ قلت :
يا مريم قومي واندبي مولاك
وعلى الحسين فاعولي بباكِ
وفي كامل الزيارات ( )، عن عبدالله بن غالب قال: دخلت على أبي عبدالله فأنشدته مرثية الحسين بن علي فلمّا انتهيت إلى هذا:
فيا ليليه يكسو حسينا
بمسفاه الثرى عفر التراب
صِحن باكيات من وراء الستر (يا أبتاه).
تبين من هذه الأحاديث والروايات محبوبيّة هذه المآتم عامة وأنها تستحبّ في مجالس سيِّد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام).
لبس السواد على أبي الثوار
وسيد الاحرار أبي عبدالله الحسين عليه السلام
لبس السواد: الحزن والكآبة والشجى واللوعة والأسى أمور معزية وهي نوع من المشاعر الباطنية، تتأتّى من خلال الانفعال العاطفي والأحاسيس القلبية المتأثّرة بمواقف وأحداث مأساوية وتأثيرات واخزة مهيّجة للبواطن الروحية للإنسان. وقد يكون الإنسان حزيناً مكتبئاً في بواطنه ومشاعره القلبية وأحاسيسه الروحية فلا يظهر لهذا الحزن الداخلي أثراً خارجياً مخافة الشماتة أو مخافة الأذى والعقوبة المترتبة على إظهار الحزن وإعلان معالمه وآثاره بصورة طبيعية. ومسألة إظهار وإعلان الأحزان والتعبير عنها خارجياً أمراٌ تعارف عليه الناس وتوافقت عليه مختلف الأمزجة والأذواق الاجتماعية للاُمم والشعوب.
وقد لا يتوانى الأفراد عن التعبير الحزين والانفعال الاكتئابي والأشجان القلبية بمختلف الطرق العرفية والأساليب المتعارفة والمتّفق عليها ذوقياً وأخلاقياً وعرفياً بحيث أضحت أساليب التعبير عن الحزن أمراً مألوفاً وظاهرة اجتماعية وتقليداً عرفياً وعادة اجتماعية وأضحى الأمر الشاذّ والمخالف للطبيعة الإنسانية مسألة التكتّم على الحزن واستبطانه وقد يستطيع الإنسان أن يكتم فرحة ويكتم حاجاته ومعاناته ويستبطن الكثير من مشاكله وخصوصياته إلاّ أنّ القدرة على الكتمان تتضاءل وتكاد تتلاشى في حالة الحزن الشجي واللوعة القلبية الحادّة فهذه المشاعر والأحاسيس تتطلّب متنفّساً وتستوجب إظهاراً وتعبيراً خارجياً لما لهذه الإظهارات الإعلانية من إيجابيات وفوائد ترجع إلى الحزين وصاحب المصيبة فتساهم في التخفيف الروحي عن روحيّته ونفسه وتبرّد غليل الآلام الداخلية وتجفّف عبرات المعاناة النفسية وكلّما كان التعبير عن الأحزان عميقاً وعاطفياً بحيث يثير المشاعر الدفينة ويجعلها أكثر انفعالاً وأصدق تعبيراً وأعمق أداءً في التعبير عن الحزن واظهاره، كانت الأحزان أكثر التصاقاً وقرباً من العواطف وهيجانها وتفاعلاتها الذاتية والاجتماعية.
أي أنّ عواطف الحزن تلبّي حاجات اجتماعية وفي نفس الوقت تبلّي حاجات فردية وضرورات حياتية وأخلاقية.
وعند انسجام وتوافق العواطف الحزينة مع الأفكار الدينية والآراء العقائدية يكون هذا الانسجام العاطفي عنواناً للتعبير عن ظاهرة انفعالية حزينة لها ارتباط واندماج وعلاقة وثيقة وأصيلة بالإحساس المذهبي والشعور الديني تتكامل التأثيرات ويبلغ مداها عمقاً داخلياً كبيراً وتاثيراً حاسماً وبليغاً في البواطن الدفينة والمشاعر المدفونة في أعماق النفس الإنسانية ، ويكون الإظهار العاطفي للأحزان واعلانها أمراً ضرورياً يلبّي حاجة حينية وشعوراً مقدّساً يستبطنه الإنسان الحزين ويكشف عنه في حالات الانفعال الصادق مع المأساة الدينية المؤثِّرة على مشاعره وأحاسيسه تأثيراً دائمياً وتكون درجات التعبير متنوّعة ومتعدّدة وتتّسع درجات هذا التعبير باتساع آفاق المأساة الدينية وعظمتها وقدسيتها.
ولمّا كانت المأساة الكبرى للإمام الحسين (عليه السلام) من أعظم وأكبر أبلغ المآسي فهي المأساة الشعورية التي تتطلّب درجة أعلى من درجات التعبير فقد يكون البكاء ظاهرة تعبيرية بمستوى التعبير الذاتي والفردي حتّى وإن أضحى البكاء ظاهرة اجتماعية وقد تتعالى أصوات البكاء عالية من تظاهرات ومسيرات ومواكب مجتمعة ومتّحدة تآلفت أحزانها وتناغمت مشاعرها الكئيبة على صورة البكاء والصراخ إظهاراً للآلام الداخلية والأحزان القلبية الدفينة والراسخة في أعماق الشعور القلبي.
وتبقى درجات الانفعال الحزين تتوالى وتتّسع وتتنوّع لتكون متوائمة ومتوازنة مع درجات المأساة وذروتها المتصاعدة دينياً ومذهبياً وعقيدياً فلا يكون البكاء بديلاً أوحد وتعبيراً كاملاً وإعلاناً تامّاً عن ضخامة وعمق المأساة فتبدو ضرورة إظهار البدائل الاُخرى عن البكاء لتكون متوائمة مع درجة المأساة وتصاعد ذروتها وتكامل أوجها وحرارة توهّجها العظيم، ومن أبهى وأنقى التعابير عن أوج وذروة المأساة الحسينية هو لبس السواد والتوشّح بعلاماته ودلائله الظاهرية.
ولا شكّ أنّ ظاهرة لبس السواد والتوشّح بوشاح الحزن الظاهري واعتباره ظاهرة اجتماعية وتظاهرة جماهيرية كبيرة من قبل الاُمّة المؤمنة تتباهى وتفتخر وتعلن حزنها المذهبي واستشعارها الديني بصورة أكمل ودرجة أعلى ليكون لهذا الحزن بعده السياسي وبُعده الثوري وليكون لهذا الحزن اُصول وجذور اجتماعية متوافقة ومتوازنة مع درجات التعبير الأخرى لتشكّل جميعها بعداً جماهيرياً وإعلاناً ثورياً وإحساساً متوحِّداً وشعوراً متوافقاً وصرخة علنية تحكي عن توحّد الإرادات والمشاعر الفردية والأحاسيس الذاتية ليكون التأثير أبلغ وأعمق من الناحية الاجتماعية والسياسية والروحية.
ظاهرة لبس السواد أضحت شعيرة من الشعائر الحسينية في عموم البلدان الإسلامية، ونذكر منها بلاد العراق إذ تعوّدنا في الأيّام العشرة الأولى من محرّم الحرام أن نرتدي لبس السواد لكي نتظاهر بالحزن لنعلن للناس نحن نحيي هذه الشعيرة تعاطفاً مع عوائل أهل البيت في زمن المصيبة. ولقد نمت هذه العادة في أجواء مدن العراق منذ اندلاع ثورة الإمام الحسين عليه السلام إلى يومنا هذا وتوارثها المواطن الشيعي والأخ الصابئي والأخ المسيحي (أقصد اخوتنا في الخلقة) وكانوا يرتدون اللباس الأسود في عموم المدن العراقية وخاصّة النجف وكربلاء.
وفي سنوات الستينات عندما أتي الشهر المحرّم ترى الشارع وقد توشّح بالسواد وارتدت المساجد والحسينيات والبيوت حلل السواد وأشحى الحزن يغطّي كلّ شيء وبدا الكون حزيناً باكياً.
في العشرة الأولى من شهر محرّم الحرام لم يكن الشيعي وحده لابساً للسواد بل كانت هذه سنّة في بلادنا يتداولها عموم الشعب العراقي المسلم وباقي الأقلّيات الدينية الموجودة في العراق، وذهبت هذه الشعيرة إلى باقي البلدان الإسلامية الأخرى، وتتابعت معها المآتم الحسينية وباقي الشعائر الحسينية في كلّ حيِّ وزقاق من شوارع ومدن العراق حيث تنصب تلك المجالس وسط المدن والمساجد والحسينيات ويتجمهر الناس من الرجال والنساء كلّهم يرتدون اللباس الأسود لسماع السرد التاريخي لملاحم ثورة الإمام الحسين، ويقف المبلِّغ أو الرادود أمام المتدينين وغيرهم من سائر الأديان المشاركة في موكب هذا القائد العظيم ليكون لنا قدوة مشرقة يوضّح للإنسان كيف يتّخذ موقفاً ويصبح له رأي، وتنطلق من خلال هذه المجالس ثورة عارمة ترنّ في مسامع الناس لتتّجه نحو ضريح وقبر سيِّد الشهداء ويردّدون بألسنتهم نأتيك زحفاً سيِّدي يا حسين يحثّون السير إلى مدينة كربلاء منذ أوّل يوم من محرم الحرام وتستمر هذه المسيرة حتّى يوم العاشر.
وتتكرّر المسيرة الحسينية والتظاهرة الولائية لتجديد العهد وتبقى الكلمات المعطّرة تتردّد بالقرب من ضريحه، جئناك سيِّدي لنرتوي من عذب مائك فقد طال الصدى، جئنا سيِّدي لنقف معك يوم الطف ونتّخذ حديثك يا أبا الأحرار مصداقاً في حياتنا (خط الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة) وترى جموع الجماهير وقد ارتدت لوناً واحداً هو السواد علماً أنّ هذا اللون ورثوه عن أسلافهم ويظهر أنّ لبس السواد لا يختصّ بالشيعة فقط بل غير المسلمين كانوا يلبسون السواد ويتّخذونه شعاراً للحزن ، والظاهر أنّها عادة سبقت الإسلام وبقيت بعده بل جرت في غيرهم من الاُمم حيث كان الفرس والروم والروس والألمان يسودون رؤوس أعلامهم إذا نكبوا بكارثة من الكوارث الدنيوية وتشمل هذه الكوارث مثلاً زلزالاً.. خسارة معركة.. وغيرها من الكوارث، واستمرّ هذا الشعار إلى يومنا هذا.
وفي البلاد الإسلامية أخذت المساجد والحسينيات ترتدي حلل السواد، وهو شعار يوحي إلى جوٍّ حزين ليدخل إلى نفوس الناس الحزن لتظهر من خلال الأجواء الاجتماعية الحزينة مواكب وتظاهرات اجتماعية تحمل شعار الحزن قلباً وعاطفةً ليكون الشعور الحزين عاملاً للحركة والجهاد والثأر ومواصلة طريق الثورة والإصلاح والفداء الذي انتهجه الإمام الحسين (عليه السلام) وعندما لا تكون الدمعة ولا يكون البكاء مجدياً نافعاً في إعلان التظاهرة واعلان الثأر وتحديد معالم الولاء للإمام الحسين (عليه السلام) تبدأ مرحلة أخرى وهي مرحلة لبس السواد وبصورة جماعية وفي جميع أماكن العبادة لتكون إعلاناً ثورياً وتظاهرة دينية تعبّر عن قيم ثورية واستعدادات روحية للقيام والنهوض والاستنهاض واستثارة مشاعر الحميّة والثأر وإعلان الولاء للثورة الحسينية وكونها ثورة ذات أبعاد اجتماعية جاءت لتحرّك الاُمّة وتوعيها وتبعث فيها الأمل والحياة والاستعداد للتضحية والفداء.
لقد وردت روايات تجعل من لبس السواد أمراً مكروهاً، لكن هذه الروايات لا تطلق لبس السواد بل تحدّده في حالات خاصّة نستشف من خلالها أنّ لبس السواد مباح في الحالات الحزينة ومباح في الضرورات التي تستدعي لبس السواد،  إذ أنّ هذا التخصيص في الروايات يحدّد الكراهية في مواطن وحالات خاصّة معيّنة، وتكون كراهية لبس السواد حين تكون مظهراً وشعاراً يرتبط بالطغاة ويصبح فعلاً تقليدياً لهم كما يفعل الفراعنة وكما يفعل الرهبان أو كما فعل بنو العبّاس على ما يشهد له ما روي في الوسائل عن أميرالمؤمنين (عليه السلام) من أنّه قال : (لا تلبسوا السواد فإنّه لباس فرعون).
فاتّخاذ اللباس الأسود تقليداً ومحاكاة لفعل فرعون مكروه. ومن خلال وقوفنا على الأخبار رأينا أنّ اللون الأسود مكروه عندما يتعلّق بظاهرة طاغوتية وعندما يصبح شعاراً من شعائر أعداء الله ، ولكن لبس السواد يستثنى في حالات المصيبة ويستثنى أيضاً في الحالات الأخرى فهو ليس مكروهاً كما فعل الأئمّة المعصومون (عليهم السلام) حيث نرى أنّ المعصومين لبسوا اللباس الأسود في المصائب وفي غير المصائب ويكون فعل المعصوم (عليه السلام) وقوله وتقريره حجّة علينا ويكون فعله نموذجاً يحتذى به وقدوة نقتديها في حياتنا.
وقد وردت أخبار عن لبس السواد وهذه الأخبار ترفع الكراهية التي وردت على لبس السواد، فقد وردت هذه الأخبار عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وعن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام).
ويذكر في مستدك الوسائل روى الصدوق في الأمالي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد لبس السواد: خرج رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وعليه خميصة قد اشتمل بها، فقيل له: يا رسول الله من كساك هذا؟ فقال : كساني حبيبي.
وفي مصباح الفقيه عن معاوية بن عمّار عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال سمعته يقول: (دخل رسول الله الحرم ـ يوم دخل مكّة ـ وعليه عمامة سوداء وعليه سلاح.
كان لرسول (صلّى الله عليه وآله) عمامة سوداء يعتمّ بها ويصلّي فيها.
وفي المستدرك عن غوالي اللئالي: قال : خرج علينا علي (عليه السلام) في إزار أصفر وخميصة سوداء.
وفي المستدرك ( )  عن أبي ظبيان: أنّ الإمام الحسن المجتبى عليه السلام قد لبس السواد حداداً على أبيه أميرالمؤمنين عليه السلام.
وفي ناسخ التواريخ ( ) في المجلّد الخاصّ بحياة الإمام الحسن (عليه السلام) قال : لمّا دُفن أميرالمؤمنين (عليه السلام) وقُتل ابن ملجم خرج ابن عبّاس إلى الناس فقال: أميرالمؤمنين توفي وقد ترك لكم خلفاً فإن أحببتم خرج إليكم وإن كرهتم ... . فبكى الناس وقالوا: بل يخرج إلينا فخرج الإمام الحسن (عليه السلام) إلى المسجد بثوب أسود فعلا المنبر وقال...
وروي في الكافي: عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: (قتل الحسين عليه السلام وعليه جبّة خزّ دكناء) وهو الأسود.
وفي المستدرك عن مكارم الأخلاق للطبرسي عن عبدالله بن سلمان (أنّ علي بن الحسين دخل المسجد وعليه عمامة سوداء وقد أرسل طرفيها بين منكبيه).
وهناك الكثير من الأحاديث والروايات التي تخصّ اللباس الأسود ولكنا نكتفي بهذا القدر. وستبقى هذه الشعائر إن شاء الله تعالى إلى أن يخرج الله من ولد محمد (صلّى الله عليه وآله) من يملأ الأرض من مفاهيم وأبعاد وعقائد الإمام الحسين.
فهذا الإمام الرضا (عليه السلام) عندما استقبل دعبلاً (رض) يقول : أنشدني في الحسين يا دعبل. وينشد دعبل، ويبكي هو والإمام الرضا والمجلس، ويتوسّل بالحسين هو والإمام. ويجعل هذا سنّة لمن كان بعده. لذلك تبقى كلّ شعيرة لأجل الإمام الحسين هي شعيرة دائمية باقية ما بقي الدهر.
----------------------------------------------------
([1]) التوبة: 82.
([2]) سورة بني اسرائيل : 107 ـ 109.
([3]) سورة مريم : 58.
([4]) ص 108 و ص109.
([5]) ج44 ص 279
([6]) ج44 ص 245 و44 ص 223.
([7]) ص 178.
([8] ) ج 44 ص282.
([9] ) ص 186.
([10] ) 117.
([11] ) ج 98 ص 52.
([12] ) ص 66 و ص539.
([13] ) ج17 ص534.
([14] ) ج44 ص293.
([15] ) المنتخب للطريحي ص 462
([16] ) العوالم 17 ص 534 الخصائص ص 258.
([17] ) ابن الأثير، ج4 ، ص29. 


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
رمضان
الأدعية
المحاضرات
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

30 رمضان

وفاة الخليفة العباسي الناصر لدين الله

المزید...

23 رمضان

نزول القرآن الكريم

المزید...

21 رمضان

1-  شهيد المحراب(عليه السلام). 2- بيعة الامام الحسن(عليه السلام). ...

المزید...

20 رمضان

فتح مكّة

المزید...

19 رمضان

جرح أميرالمؤمنين (عليه السلام)

المزید...

17 رمضان

1 -  الاسراء و المعراج . 2 - غزوة بدر الكبرى. 3 - وفاة عائشة. 4 - بناء مسجد جمكران بأمر الامام المهد...

المزید...

15 رمضان

1 - ولادة الامام الثاني الامام الحسن المجتبى (ع) 2 - بعث مسلم بن عقيل الى الكوفة . 3 - شهادة ذوالنفس الزكية ...

المزید...

14 رمضان

شهادة المختار ابن ابي عبيدة الثقفي

المزید...

13 رمضان

هلاك الحجّاج بن يوسف الثقفي

المزید...

12 رمضان

المؤاخاة بين المهاجرين و الانصار

المزید...

10 رمضان

1- وفاة السيدة خديجة الكبرى سلام الله عليها. 2- رسائل أهل الكوفة إلى الامام الحسين عليه السلام . ...

المزید...

6 رمضان

ولاية العهد للامام الرضا (ع)

المزید...

4 رمضان

موت زياد بن ابيه والي البصرة

المزید...

1 رمضان

موت مروان بن الحكم

المزید...
012345678910111213
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page