ثُمَّ استشهَدَهم عن نفسه المقدّسة، وما عليه من سيف النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولامِته وعمامته، فأجابوه بالتصديق، فسألهم عمّا أقدمهم على قتاله، قالوا: طاعةً للأمير عبيدالله بن زياد([2]). فقال عليه السلام:
تبّاً لكم أيّتها الجماعةُ وترحاً، حسين استصرختمونا والِهين([3]) فأصرخناكم موجِفين([4])، سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم، وحششتُم علينا ناراً اقتدحناها على عدوِّنا وعدوِّكم، فأصبحتم إلباً([5]) لأعدائكم على أوليائكم، بغير عدلٍ أفشوه فيكم، ولا أمل أصبح لكم فيهم، فهلا لكم الويلات، تركتمونا والسيف مشيمٌ([6]) طامِنٌ([7]) ، والرأي لمّا يُستحصفُ([8])، ولكم أسرعتم إليها كطيرةِ الدَبا([9])، وتداعيتم إليها كتهافت الفَراش([10])، ثمّ نقضتموها.
فسحقاً([11]) لكم ياعبيدَ الأمَةِ([12]) وشُذّاذ([13]) الأحزاب، ونبذَة الكتابِ، ومحَرِّفي الكَلِم، وعصبةَ الإثم، ونَفَثَةَ([14]) الشيطان، ومطفيء السنن.
ويحكم أهؤلاء تعضدون، وعنّا تتخاذلون؟
أجل والله غدرٌ فيكم قديمٌ ، وشجت([15]) إليه أصواتكم، وتأزّرت([16]) عليه فروعكم، فكنتم أخبثَ ثمرٍ شجاً([17]) للنّاظِر، واُكلةً للغاصب.
ألا وإنّ الدَّعيّ ابن الدّّعيّ قد رَكَزَ بين اثنتين بين السلَّة([18]) والذِلَّة،وهيهاتَ منّا الذلّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجورٌ طابتْ وطهُرت، واُنوفٌ حميّةٌ، ونفوسٌ أبيَّةٌ، من أن نُؤثِرَ طاعةَ اللّئامِ على مصارع الكرام.
ألا وإنّي زاحفٌ بهذه الاُسرة، مع قلّة العدد وخذلان الناصر.
ثمّ أنشد أبيات فروة بن مُسيك المرادي:
فإن نهـزِمْ فهـزّامون قِدماً وإن نُهـزَم فغيرُ مهزَّمينا
وما إنْ طِبُّنـا([19]) جبنٌ ولكن منايانـا ودولـةُ آخرينـا
فقـلْ للشامتيـن بنـا أفيقوا سَيَلقى الشامِتون كمـا لَقينا
إذا ما الموتُ رُفِّعَ عن اُناسٍ بكلكلـةِ([20]) أنـاخ بآخَرينا
أما والله لا ت َلبَثونَ بعدها إلا كريثَما([21]) يركب الفرس، حتى تدور بكم دور الرَّحى، وتقلقَ بكم قلق المِحورَ، عهدٌ عهده إليّ أبي عن جدّي رسول الله، (فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثُمّ لا يكن أمركم عليكم غُمَّةً ثمّ اقضوا إليّ ولا تُنظرون) ([22]) (إنّي توكّلتُ على الله ربّي ورَبِّكم، ما من دابّةٍ إلا هو آخذٌ بناصيتها إنَّ ربّي على صِراطٍ مستقيم) ([23]).
ثمّ رفع يديه نحو السماء، وقال: اللهم أحبِس عنهم قطَر السماءِ، وابعث عليهم سنين كسِنيَّ يوسف، وسلِّط عليهم غلامَ ثقيفٍ، يسقيهم كأساً مُصبَّرَةً([24])، فإنّهم كذَّبونا وخذلونا، وأنت ربُّنا، عليك توكّلنا، وإليك أنبنا وإليك المصير([25]).
والله لايدعُ أحداً منهم إلا أنتقَمَ لي منه، قتلةً بقتلَةٍ، وضربةً بضربةٍ، وإنَّه لينتصر لي ولأهل بيتي وأشياعي([26]).
واستدعى الحسين عليه السلام عمرَ بن سعد فدُعِي له، وكان كارِهاً لا يُحبُّ أن يأتيه، فقال: أي عُمَرُ أتزعم أنّك تقتلني، ويولّيك الدَّعيُّ بلادَ الرِّيّ([27]) وجُرجان([28])، والله لاتتهنَّأ بذلك، عهدٌ معهودٌ، فاصنع ما أنت صانعٌ، فإنّك لاتفرحُ بعدي بدنياً ولا آخرةٍ، وكأنّي برأسك على قصبةٍ، يتراماه الصبيان بالكوفة, ويتّخذونه غرضاً بينهم، فصرفَ بوجهه عنه مُغضباً([29]).
--------------------------------------------------------------------------------
[1] - تذكرة الخواص: ص252 .
[2] - مقتل الحسين للمقرّم: ص281، وراجع أيضاً الأمالي للشيخ الطوسي: ص135، مجلس 30.
[3] - وَلَه يَلِه وَلَهاً أي حزن شديداً حتى كاد يذهب عقله. المنجد .
[4] - أوجَف الفرسَ أي جعله يعدو عدواً سريعاً. المنجد .
[5] - الإلب – بكسر الهمزة – القوم تجمعهم عداوة واحدة، «يقال هم عليّ إلب واحد». المنجد .
[6] - مشيم – بفتح الميم – أي مُغْمد ، من شام السيف بمعنى أغمده، راجع أبصار العين: ص19 .
[7] - الجأش جمعه جؤوش بمعنى القلب و الصدر، وطامن بمعنى ساكن. المنجد .
[8] - استحصف الشيء أي استحكم، والحصيف كلّ محكم لا خلل فيه . المنجد .
[9] - الطَيْرَة – بفتح الطاء وسكون الياء – والطَيْرورة بمعنى الطيش والخفّة، والدَبا – بفتح الدال وتخفيف الباء – الواحدة دَباة: أصغر الجراد والنمل. المنجد .
[10] - الفَراش – بفتح الفاء – طير معروف ، المفردات للراغب. وفي أبصار العين: الفراشة جمعه فَراش حشرة تتساقط على الضوء ليلاً .
[11] - سُحقاً له أي أبعده الله عن رحمته. المنجد .
[12] - الأمة – بتخفيف الميم – بمعنى الجارية، كناية عن الذلّ، مأخوذ من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ذلّ قوم تملكهم أمة،ويجري على الألسن بتشديد الميم وهو وإن كان له ضرب من التأويل لكنّه غير بليغ. راجع أبصار العين ، ص19 .
[13] - شُذّاذ – بضم الشين وتشديد الدال المعجمتين – جمع شاذّ ، وهم المتفرّقونمن الجمع، ويعبّر عنهم بالفارطة والغوغاء، أبصار العين، ص19 .
[14] - النفث: قذف الريق القليل وهو أقلّ من التفل، مفردات الراغب .
[15] - وشجَ يشِج وشجاً، وَشَجت الأغصان أي اشتبكت. المنجد .
[16] - أزَرَ يأزِر، وأزّر فلاناً أي قوّاه . المنجد .
[17] - الشَجا – بفتح الشين – أي الهمّ والحزن. المنجد . ومعناه أنّ الناظر إليكم يحزن .
[18] -السِلة – بكسر السين وتشديد اللام – بمعنى استلال السيوف، وكناية عن الحرب والقتال .
[19] - الطِب – بكسر الطاء – بمعنى الشأن والعادة . المنجد .
[20] - الكَلْكَل جمعه كلاكل بمعنى الصدر أو ما بين الترقوتين. المنجد .
[21] - الريث: مقدار المهلة من الزمن .
[22] - يونس: 71 .
[23] - هود : 56 .
[24] - صبّر الكأس أي ملأها إلى رأسها،والصبرة بمعنى المُرّة، المنجد والمعنى يسقيهم كأساً مُرّة .
[25] - اللهوف على قتلى الطفوف: ص96 – 100 والمقتل للخوارزمي: ج2، ص6 .
[26] - المقتل للمقرّم: ص 283؛ نقلاً عن مقتل العوالم: ص84 .
[27] - الريّ – بفتح الراء وتشديد الياء – مدينة إيرانية بالقرب من طهران دفن فيها عبدالعظيم بن عبدالله الحسني، وذكر ياقوت إنّ طهران كانت تّعدّ من قرى «الري» بينهما نحو فرسخ، راجع طهران من معجم البلدان: ج4، ص51.
[28] - جُرجان – بضم الجيم وسكون الراء – مدينة مشهورة عظيمة بين طبرستان وخراسان قاله ياقوت في معجم البلدان: ج3، ص119 .
[29] - المقتل للمقرّم: ص284؛ نقلاً عن تظلّم الزهراء: ص110، ومقتل العوالم: ص84، ومقتل الخوارزمي: ج2، ص8 .
ثمّ إن الحسين عليه السلام ركب فرسه، وأخذ مصحفاً ونشره وجعله على رأسه، ووقف بإزاء القوم، وقال: ياقوم إنَّ بيني وبينكم كتاب الله وسنّة جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم([1]).
