الدكتور أحمد الحوفي يقول الخليفة الذي احتضنه رسول الله وسِنُّهُ ستّ سنوات، وأسلم وعمره عشر أو ثلاث عشرة، فربّاه في بيته، وأدّبه بآدابه، وسقاه من خلقه العظيم الخليفة الذي رسخ عقيدةً، وسما ديناً، وعلا خُلُقاً، فكان الرسول يؤثره، وكان أبوبكر يستشيره، وعمر يستنير به ويستخبره.
إنّه الإمام الذي لم يستطع أعداؤه أن يجحدوا مناقبه. فقد استولى بنو اُميّة على الملك في الشرق والغرب، وحاولوا أن يطفئوا نور الإمام، واجتهدوا في أن يلصقوا به ما استطاعوا من مثالب، ولعنوه على المنابر، وتوعّدوا مَن يمدحه أو يتّبعه، وقتلوا منهم كثيراً، وحبسوا كثيراً، وحظروا على الناس أن يسمّوا أبناءهم باسمه!! ولكنّ هذا لم يزده إلاّ علاءً، ولم يزد الناس إلاّ إعجاباً به، وحبّاً له، فكان كالضوء الباهر، والبدر الزاهر، تعجز الأكفّ أن تحجبه عن مبصر أو ناظر الإمام عليّ قد ترفّع عن الحسد، وتعالى على الدنيا بعلمه وفقهه ودينه وبلاغته، وأخلاقه وفروسيّته. إنّني أتخيّله وهو يجول في المعارك ذيّاداً عن الإسلام، ويصول دفاعاً عن الحقّ، فأجد البطل الذي لم يفرّ قطّ، ولم يخشَ نزالا قطّ، ولم يبارز أحداً إلاّ قتله، ولا ضرب ضربةً احتاجت إلى ثانية، وما صارع أحداً إلاّ صرعه، فقد جمع إلى شجاعة القلب وثاقة الجسد ومتانة البناء، ولهذا قال النبيّ في فتح خيبر: «لاُعطينّ الراية غداً رجلا يحبّ الله ورسوله فيفتح الله عليه» فكان هو الإمام، وقد خلع وحده باب حصن خيبر، ثم اجتمعت عصابة من الرجال ليقلبوا هذا الباب فعجزوا .
الإمام الفارس الذي اشترك مع رسول الله في جميع غزواته ما عدا تبوك لأنّه خلّفه نائباً عنه على المدينة .
كان الإمام فارساً يتحلّى بأخلاق الفرسان: من شجاعة وكرم وسماحة وعطف، وعفو عند المقدرة، وعفّة يد ولسان وجسد.
ظفر بمروان بن الحكم وهو من ألدّ أعدائه فصفح عنه، وكان عبد الله بن الزبير يشتمه على رؤوس الأشهاد، فلا يزيد الإمام على أن يقول: «ما زال الزبير رجلا منّا أهل البيت حتى شبّ عبد الله» ثم ظفر بعبد الله بن الزبير في موقعة الجمل فأخذه أسيراً، ولكنّه عفا عنه وظفر بسعيد بن العاص بعد الموقعة فأعرض عنه، وبعد موقعة الجمل بعث مع ركب السيدة عائشة([1]) عشرين امرأة من نساء عبد القيس ألبسهنّ العمائم، وقلّدهنّ السيوف، ولم تَعرف عائشة أنّهنّ نسوة إلاّ بعد أن بلغت المدينة.
وحاربه أهل البصرة وشتموه، فلمّا انتصر عليهم رفع السيف عنهم ونادى مناديه في عسكره: «لا تقتلوا مولّياً، ولا تُجهزوا على جريح، ولا تقتلوا أسيراً، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن تحيّز إلى عسكر الإمام فهو آمن». ولم يأخذ شيئاً من أموالهم، ولم يسبِ أحداً من ذراريهم، ولو شاء أن يفعل هذا لفعل.
وفي موقعة صفّين ملك جيش معاوية ماء الفرات، وحالوا بين جيش عليٍّ والماء (ليستسلموا أو يموتوا عطشاً)، فحمل عليهم عليّ وجيشه حتى أزالوهم عن مواضعهم وملكوا الماء عليهم، وصار جيش معاوية في الصحراء يوشك أن يهلك عطشاً، وفرح أنصار الإمام بهذه الفرصة، فأشاروا عليه أن يمنع القوم الماء جزاءً وفاقاً على ما فعلوه من قبل، فقال: «لا والله، لا اُكافئهم بمثل فعلهم، افسحوا لهم عن بعض الماء، ففي حدّ السيف ما يُغني عن ذلك!».
ومن مظاهر فروسيّته: شدّته في الحقّ، وجرأته على ما يتهيّب منه سواه، فإنّه بعد مبايعته بادر بعزل الولاة الذين ولاّهم عثمان وكانوا مثاراً للفتنة، ولم يرضَ بإمهالهم حتى تهدأ الثورة، ويستقيم له الأمر واستردّ الأرض التي كان عثمان قد أقطعها لبعض خاصّته فضمّها إلى بيت المال، فسخط الولاة الذين عزلهم وكانوا قد أثروا، ورفض معاوية أن يعتزل الشام، ولجأ إلى المكر والدهاء، فارتأى أن يطالب بدم عثمان.
ربّاه النبيّ في بيته، وزوَّجه ابنته فاطمة اُمّ السبطين الشريفين الحسن والحسين.
لقد كان وهو خليفة يلبس أخشن الملابس، ويأكل أخشن الطعام، قال عبد الله ابن أبي رافع: دخلت إليه يوم عيد فقدّم جراباً مختوماً فوجدنا فيه خبزاً من الشعير يابساً مرضوضاً فأكل منه، فقلت: يا أمير المؤمنين، لماذا تختمه؟ قال: «خِفتُ أن يَلِتّه([2]) هذان الولدان بسمن أو زيت».
ودخل عليه عقبة بن علقمة فإذا بين يديه لبن حامض آذت حموضته عقبة، وكسر يابسة، فقال عقبة له: يا أمير المؤمنين، أتأكل مثل هذا؟ فقال: «كان رسول الله يأكل أيبس من هذا، ويلبس أخشن من هذا وأشار إلى ملابسه فإن أنا لم آخذ بما أخذ به خفت ألاّ ألحقَ به».
وكان يأتدم بخلٍّ أو ملح، فإن كان أرقى منهما فبعض الخضر، فإن ترقّى فبقليل من اللبن. وكان يقول «لا تجعلوا بطونكم مقابر للحيوان».
وكان يكنس بيت المال كلّ جُمُعة ويصلّي فيه ركعتين، ويقول: «ليشهد لي يوم القيامة» وإنّه مع هذا كلِّه لشديد الحرص على مال المسلمين، يضنّ([3]) به على نفسه وعلى أهله. كان يقول: «يا أهل الكوفة، إذا أنا خرجت من عندكم بغير راحلتي ورحلي وغلامي فأنا خائن»، وكانت نفقته تأتيه من غلّته بينبع، فيُطعم الناس منها الخبز واللحم ويكتفي هو بالثريد والزيت.
قال له ابن أخيه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب: يا أمير المؤمنين، لو أمرت لي بمعونة أو نفقة، فوالله مالي نفقة إلاّ أن أبيع دابّتي، فقال له: «والله ما أجد لك شيئاً إلاّ أن تأمر عمّك أن يسرق فيُعطيك».
وطلب منه أخوه عقيل شيئاً من بيت المال لا يستحقّه، فرفض الإمام، وقال: «يا أخي ليس لك في هذا المال سوى ما أعطيتك، ولكن اصبر حتى يجيء مالي فاُعطيك ما تريد» ولقد كان لعقيل ولغيره اُسوة بالإمام نفسه، واُسوة بولديه الحسن والحسين، فهو لم يعطهما أكثر من حقّهما، ولم يترك ميراثاً، وقد كانت البلاد الإسلامية بيده ما عدا الشام.
رضوان الله عليك يا أبا الحسن والحسين، ولعنته على عبد الرحمن بن ملجم([4]) الذي ضربك بسيفه المسموم، فأبكى كل فضيلة، ومهّد لكل رذيلة ولو وُزِنَ طاعِنُك ومدبّروا قتلك والفرحون به ما وزنوا جميعاً ذرّةً من التراب الذي وطأته قدماك([5]).
*************
[1] ـ هل بقيت يا دكتور سيادة لعائشة بنت أبي بكر بعد ركوبها الجمل وخروجها لحرب الإمام عليّ(عليه السلام) خليفة رسول الله وإمام المسلمين المفترض الطاعة وابن عمّ الرسول(صلى الله عليه وآله) ومخالفتها قوله تعالى: (وقَرنَ في بيوتِكُنَّ ولا تَبَرَّجنَ تبرُّجَ الجاهليةِ الاُولى) ومخالفتها رسول الله(صلى الله عليه وآله) بعد أن حذّرها من الخروج على عليّ(عليه السلام) بقوله: «إيّاكِ يا حُميراءُ أن تكوني من الخارجين وتَنبح عليكِ كلاب الحَوءَب»؟! (الرضوي).
[2] ـ لَتّ الشيء يلتّه: يخلط معه شيء آخر، ويخلط السويق بالماء وغيره، لسان العرب 12/232 (مادة لتت) .
[3] ـ يضنّ: يبخل .
[4] ـ وعلى كلّ من اعتدى عليك وظلمك وجارَ عليكَ وعلى أهل بيتك(عليهم السلام) ولم يرعَ لكم حقّكم ومنزلتكم في الإسلام. (الرضوي).
[5] ـ مجلة منبر الإسلام المصرية: العدد 3، السنة 26 ـ 1388 هـ .
