• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الاُستاذ جورج جرداق الكاتب الأديب المسيحيّ صاحب كتاب «الإمام عليّ صوت العدالة الإنسانية» يقول

الاُستاذ جورج جرداق الكاتب الأديب المسيحيّ المعاصر صاحب كتاب «الإمام عليّ صوت العدالة الإنسانية»([1]) يقول في إمامنا(عليه السلام): إنّ عليّاً يمثّل في جملة كيانه جانباً عظيماً من العدالة الكونية الشاملة([2]).
هلاّ أعرتَ دنياك اُذناً صاغيةً فتُخبرك بما كان من أمر عظيم ما أعطت الدنيا أن تحدّثك عن مثله إلاّ قليلا بين جيل وجيل؟
هلاّ أعرت دنياك اُذناً وقلباً وعقلاً فتلقي إلى كيانك جميعاً بخبرِ عبقريٍّ حملت منه في وجدانها قصّةُ الضمير العملاق يعلو ويعلو حتّى لتهون عليه الدنيا وتهون الحياة، ويهون البنون والأقربون والمال والسلطان، ورؤية الشمس المشرقة الغاربة، وحتّى يندفع بصاحبه ارتفاعاً فما هو من الآدميين إلاّ بمقدار ما يسمّون بمقياس الضمير والوجدان؟ هلاّ ضربت بعينيك حيث شئت من تاريخ هذا الشرق سائلاً عن فكر هو من منطق الخير نقطة الدائرة تشدّ إليها آراءً جديدةً في الحياة والموت، ونظرات عميقةً في الشرائع والأنظمة والدساتير وقوانين الأخلاق، وفي مكانها من المجموعة البشريّة على صعيد التعامل والتعاطي، وربط الإنسان بالإنسان في مجتمع هو من الكلِّ وللكلِّ على السواء؟ هلاّ سألته عن فكر أنتج للناس مذهباً في الحكمة هو من مذاهب العصور ومن نتاجها القيّم يرثه الأوّلون فيورثونه الأبناء والأحفاد، فيجتمعون له فيأخذون منه بقدر طاقتهم على الأخذ ومايتركونه فهو للطالعين المقبلين؟
هلاّ عرفت بين العقول عقلا نافذاً كانت له السابقة في إدراك حقيقة كبرى هي أصل الحقائق الاجتماعية وعلّة تركيب المجتمع وتسييره على هذا النحو دون ذاك، وهي الموضوع الذي تدور عليه دراسات الباحثين العلماء في الشرق والغرب اليوم بعد ألف وأربعمائة عام وما ينيف تمرّ على إدراكه إيّاها؟ ولا نعني بها إلاّ واقع الاستغلاليّة وأساليبها في الاحتيال على قواعد الطبيعة، وفي تضليل العقول عن أسبابها الصحيحة ونتائجها المحتومة، وتفاهة منطقها الذي صنعه الأغنياء لاستثمار الفقراء، والحكام لاحتكار مجهود الناس وبعض الإلهيّين لتثبيت سلطانهم على الأرض!!
هل عرفت العقل الجبّار يقرّر منذ بضعة عشر قرناً الحقيقة الاجتماعية الكبرى التي تضع حدّاً لأوهام لها ألف مصدر ومصدر، فيعلن أنّه: «ما جاع فقير إلاّ بما مُتِّعَ به غنيّ»، ثمّ يردف قائلا لتقرير هذه الحقيقة: «ما رأيت نعمةً موفورةً إلاّ وإلى جانبها حقٌّ مضيَّع». أمّا إلى أحدِ عمّاله فيبعث بهذا القول في صدد الحديث عن الاحتكار، باب الغبن الاجتماعي ودعامته، «وذلك باب مضرّة للعامّة، وعيب على الولاة، فامنع الاحتكار»!
هل عرفت عظيماً دَلَّه عقُلُه الجبّار منذ بضعة عشر قرناً على اكتشاف سرّ الإنسانيّة الصحيح، فإذا سرّها متّصل اتّصالا عميقاً بالشعب الذي لم يكن حكّام زمانه وملوكه ليقيموا له وزناً، أو ليشعروا له بوجود إلاّ في نطاق ما يكون لهم سلّماً ومطيّة؟!
فإذا كان «رافييل» قد اتخذ من إحدى فلاّحات الريف الإيطالي نموذجاً للعذراء اُمّ المسيح ليضع في هذا النموذج كلّ ما يحبّه ويريده من معاني الكرم الإنساني وإذا كان «تولستوي» و«فولتير» و«غيتي» قد عملوا في صنيعهم الفكري والاجتماعي ما هو من روح رافييل في صنيعه هذا، فإنّ ذاك العظيم ـ أي الإمام علي(عليه السلام) ـ قد سبقهم إليه بمئات السنين مع الفارق بين ظرفه الصعب وظروفهم المؤاتية، وبين مجتمعه الضيّق ومجتمعاتهم الواسعة، فإذا هو يحارب الملوك والاُمراء والولاة والأثرياء، يحارب عبثهم، وسخف تفكيرهم في سبيل الشعب المظلوم المُهان، فيُقسِم قائلا: «وأيمُ اللهِ، لأنصفنّ المظلوم من ظالمه، ولأقودنّ الظالم بخزامته، حتّى اُورده منهل الحقّ وإن كان كارهاً». ثمُ يطلق في آذان اُمراء زمانه العابثين هذه الصيحة المدوّية التي يكمن وراءها من المعرفة لحقيقة أهل الأرستقراطية التافهين المتعالين على تفاهتهم، ولحقيقة الشعب البائس الشقيّ مالا مزيد عليه، فيقول بإيجاز كأنّه صوت القدر: «أسفلكم أعلاكم، وأعلاكم أسفلكم». وما يقصد من وراء هذا إلاّ الإشارة الصريحة إلى ما يُخفي الحرمان والجور من مواهب أبناء الشعب في الخير، وإلى ما يستتر في ثياب الإقطاعيّين والحكّام والمحتكرين من شياطين الشرّ وأبالسته الأذى والمكر!
هل عرفت عظيماً ساق إلى مدارك الناس حقيقةً إنسانيةً قديمةً كالأزل باقيةً كالأبد، عميقةً حتّى ليستشفّها كُبّار العقول والنفوس كلّ منهم على نهجه ووفق مزاجه وحتّى ليأبى العادّيون إلاّ العيش في ظلالها وهم لا يعرفون؟! هل عرفت عظيماً أدرك من أسباب المحبّة والوفاء فوق ما أدرك الآخرون، ثمّ ما أدرك هذه المحبّة وهذا الوفاء إلاّ في نطاق الطبع الخالص الذي يجري بنفسه من نفسه، فأحبّ ما تكلّف حبّاً، ووفى وما تكلّف وفاءً، وفهم بعميق فكره وعميق حسّه أنّ الحريّة لها قدسيّة يريدها الوجود ويأبى عنها بديلاً، وفي رحبها تدور كلّ عاطفة وكلّ فكر، وفي رحبها يكون الحبّ ويجري الوفاء صريحين طليقين، فإذا «شرّ الإخوان من تُكُلّف له» وإذا خيرهم غير هذا؟! هل سألت عن حاكم يحذِّر نفسه أن يأكل خبزاً فيشبع في مواطن يكثر فيها من لا عهد لهم بشبع، وأن يلبس ثوباً ناعماً وفي أبناء الشعب من يرتدي خشن اللباس، وأن يقتني درهماً وفي الناس فقر وحاجة، ويوصي أبناءه وأنصاره ألاّ يسيروا مع نفوسهم غير هذه السيرة، ثم يقاضي أخاه لمكان دينار طلبه من مال الشعب من غير بلاء، ويقاضي أعوانه ومبايعيه وولاته من أجل رغيف يأكلونه في رشوة من غنيٍّ فيتهدّد ويتوعّد، ويبعث إلى أحد ولاته بأنّه يُقسِم بالله صادقاً إن هو خان من مال الشعب شيئاً صغيراً أو كبيراً ليشدّنّ عليه شدّةً تدعه قليل الوفر، ثقيل الظهر، ضئيل الأمر. ويخاطب آخر بهذا القول الموجز الرائع الإيجاز: «بلغني أنّك جرّدت الأرض فأخذت ما تحت قدميك، وأكلت ما تحت يديك فارفع إليّ حسابك». ويتوعّد ثالثاً ممّن يرتشون ويسعون في الإثراء على حساب المستضعفين يقول: «فاتّقِ اللهَ، واردُد إلى هؤلاء القوم أموالهم، فإنّك إن لم تفعل ثمّ أمكنني الله منك لأعذرنّ إلى الله فيك، ولأضربنّك بسيفي الذي ما ضربت به أحداً إلاّ دخل النار»؟!
هل عرفت من الخلق أميراً على زمانه ومكانه يطحن لنفسه فيأكل ما يطحن خبزاً يابساً يكسره على ركبتيه، ويرقع خفّه بيديه، ولا يكتنز من دنياه كثيراً أو قليلا على ما مرّ، لأنّ همّه ليس إلاّ أن يكون للمستضعف والمظلوم والفقير ينصفهم من المستغلّين والمحتكرين، ويمسك عليهم الحياة وكريم العيش، فما يعنيه أن يشبع ويرتوي وينام هانئاً وفي الأرض «من لا طمع له في القرص»، وفيها «بطون غرثى، وأكباد حرّى»، قائلاً ويا لشرف القول: «أأقنعُ من نفسي بأن يقال: أميرالمؤمنين ولا اُشاركهم مكاره الدهر»؟!، ولأنّ أقلّ ما في هذه الدنيا شأناً هو خير عنده من ولاية الناس إن لم يُقِم حقّاً ويُزهِق باطلاً؟!
هل عرفت في موطن العدالة عظيماً ما كان إلاّ على حقٍّ، ولو تألّب عليه الخلق في أقاليم الأرض جميعاً وما كان عدوّه إلاّ على باطل، ولو ملأ السهل والجبل; لأنّ العدالة فيه ليست مذهباً مكتسباً وإن أصبحت في نهجه مذهباً فيما بعد، وليست خطّةً أوضحتها سياسة الدولة وإن كان هذا الجانب من مفاهيمها لديه، وليست طريقاً يسلكها عن عمد فتُوصله من أهل المجتمع إلى مكان الصدارة وإن هو سلكها فأوصلته إلى قلوب الطيِّبين، بل لأنّها في بنيانه الأخلاقي والأدبي أصل يتّحد باُصول، وطبع لا يمكنه أن يجوز ذاته فيخرج عليها، حتى لَكأنّ هذه العدالة مادةٌ ركّب منها بنيانه الجسماني نفسه في جملة ما ركِّب منه، فإذا هي دم في دمه وروح في روحه؟! هل عرفت في موطن الخصومات عظيماً حاربه ذوو المنافع وفيهم نفر من ذي قرباه وقاتلوه فخذلت المفاهيم الإنسانيّة المنتصرين عليه لأنّه انتصار للحيلة والمساومة والائتمار وكسب الدنيا بسيف ظالم غاشم، ورفعت المنكسر لأنّ انكساره في ضوء العقل والقلب يتضمّن جوهر الشهادة في سبيل كرامة الإنسان وحقوقه، وما يتوقّ إليه من بلوغه العدالة والمساواة، وهكذا كان نصرهم هزيمة، وانكساره انتصاراً عظيماً لقيمة الإنسان؟! هل سألت التاريخ عن محارب شجاع فائقِ الشجاعة يبلغ به حبّه لصفة الإنسان في مقاتليه، ويبلغ عطفه عليهم أن يوصي أصحابه وهو المصلح الصالح الكريم المغدور به فيقول: «لا تقاتلوهم حتى يبدؤوكم، فإذا كانت الهزيمة بإذن الله فلا تقتلوا مدبراً، ولا تُصيبوا معوراً، ولا تُجهزوا على جريح، ولا تُهيِّجوا النساء بأذى»، ثم تجلّيه عن الماء عشرات الاُلوف المؤلّفة من طالبي دمه على غير حقّ، ويبلغونه أنّه سيمنعون عنه الماء الجاري حتى يموت عطشاً، فيزلزلهم عن الماء ويحتلّه، ثم يدعوهم إلى هذا الماء اُسوةً بنفسه وبصحبه وبالطير الشارب، ولا زاجر له، ثم يقول: «ما المجاهد الشهيد في سبيل الله بأعظم أجراً ممّن قدر فعفّ، لكاد العفيف أن يكون ملاكاً من الملائكة»، حتى إذا هو طالته اليد الآثمة فقضت عليه قال لصحبه بشأن قاتله: (وأن تعفوا أقرب للتقوى)؟!([3])
محارب شجاع تتّصل في قلبه أسباب الشجاعة الغريبة والفروسيّة النادرة بأسباب العطف و الحنان العجيبين،فيعاتب المتآمرين به وله القدرة على أن يضرب فيَصرع، وهو لا يعاتبهم إلاّ منفرداً أعزل، حاسر الرأس وهم مدجّجون بالسلاح، لا يكاد يبدو لهم وجه إلاّ من خلاله، ثم يذكِّرهم بالإخاء الإنساني وبالمودّات، حتى يبكي لهم إذا هم حثو السير في هذه الطريق، حتى إذا أبوا إلاّ دمه وهو سيف المستضعف المحروم صبر لهم حتى يبدؤوه القتال، ثمّ راح يزلزلهم زلزلة، ويقصفهم قصفاً، ويعصف بمطامعهم كما تعصف الرياح السافيات برمال الصحراء فتذروها بدداً بدداً، وهو لا يَصرع منهم إلاّ الطاغية الباغية الذي تبيّن فيه العداء والقصد للشرّ، ثم إذا هو ظفر بكى قتلاهم، وهو في الواقع قتلى الأنانيّة والإثرة تأتيهم من المطمع السقيم، والهوى المنحرف.
هل عرفت من الخلق أميراً توافرت لديه أسباب السلطان والثروة كما لم تتوافر لسواه، فإذا هو منها جميعاً في شقاء وحسرة دائمَين، وتوافرت لديه محاسن الحسب الشريف فقال: «لا حسب كالتواضع»، وأحبَّه محبّوه فقال: «من أحبّني فليستعدَّ للفقر جلباباً».
وغالوا في حبّه فقال: «هلك فيّ اثنان: محبّ غال» بعد أن خاطب نفسه يقول: «اللهمّ اغفر لنا ما لا يعلمون».
فألّهوه، فعاقبهم أشدّ عقاب وكرهه آخرون، فوقف منهم موقف الناصح لإخوانه في الخلق.
وسبّوه! فاستاء صحبه وأجابوهم بالسباب فقال لهم: «أكره لكم أن تكونوا سبّابين».
وخاصموه وأساؤوا إليه وما حفظوا له غِيبة ثم خرجوا عليه فكان يقول: «عاتب أخاك بالإحسان إليه، واردُده بالإنعام عليه» و«لا يكوننّ أخوك على مقاطعتك أقوى منك على صلته، ولا يكوننّ على الإساءة أقوى منك على الإحسان».
وأغرَوه بمسايرة بعض الآثمين ولو إلى حين حفاظاً على سلطانه فقال: «صديقك من نهاك، وعدوّك من أغراك» ثم أردف «آثر الصدق حيث يضرّ بك على الكذب حيث ينفعك».
وحاربه من أسدى إليهم معروفه، فخاطب نفسه يقول: «لا يزهدنّك بالمعروف من لا يشكر لك».
وتحدّثوا لديه عن نعيم الأرض فنظر إلى المتحدّث يقول: «كفى بحسن الخلق نعيماً» ثم عادوا يَغرونه بالنصر يأتيه على اُسلوب الحاكمين فقال: «ما ظفر من ظفر الإثم به، والغالب بالشرّ مغلوب».
وعلم من سيّئات أخصاصه ما لا يعرفه سواه فغضّ عنها طرفه، وسَلاَ خاطره وهو يردّد «أشرف أعمال الكريم غفلته عما يعلم» وأعان أعداؤه والجهلة من أنصاره الدهر عليه بما يدخل التشاؤم بالناس في كلّ قلب فإذا به ما يزال يقول: «لا تظنّنَّ بكلمة خرجت من أحد سوءاً وأنت تجد لها في الخير محتملاً» هل عرفت إماماً لدين يوصي ولاته بمثل هذا القول في الناس: «فإنّهم إمّا أخٌ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، أعطِهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحبّ أن يعطيك الله من عفوه وصفحه» هل عرفت صاحب سلطان تمرّد على سلطانه لإقامة الحقّ في الشعب، وصاحب ثروة أنكر منها إلاّ القرص الذي يمسك عليه الحياة، وما الحياة لديه إلاّ نفع إخوانه في الخلق، أمّا الدنيا فلتغرّ سواه؟!
ثم هل سألت تاريخ هذا الشرق عن نهج للبلاغة آخذ من الفكر والخيال والعاطفة آيات تتّصل بالذوق الفنّيِّ الرفيع ما بقي الإنسان، وما بقي له خيال وعاطفة وفكر؟! هل عرفت عقلاً كهذا العقل، وعلماً كهذا العلم، وبلاغةً كهذه البلاغة وشجاعةً كهذه الشجاعة، تكتمل من الحنان بما لا يعرف حدوداً، حتى ليبهرك هذا القدر من الحنان كما يبهرك ذلك القدر من المزايا، تلتقي جميعاً وتتّحد في رجل من أبناء آدم وحوّاء؟!
فإذا هو العالِم المفكّر، الأديب الإداري، الحاكم القائد الذي يترك للناس والحكّام وذوي المطامع والجيوش يتآمرون به ليقبل عليك فيهزّ فيك مشاعر الإنسان الذي له عواطف وأفكار، فيهمس في قلبك هذه النجوى الرائعة بما فيها من حرارة العاطفة الكريمة قائلاً: «فقدُ الأحبّة غربة» أو «لا تشمت بالمصائب» أو «ليكن دُنُوُّك من الناس لِيناً ورحمة» أو «واعفُ عمّن ظلمك، وأعطِ من حرمك، وصِلْ من قطعك، ولا تبغض من أبغضك».
هل عرفت من الخلق عظيماً يلتقي مع المفكّرين بسموّ فكرهم، ومع الخيّرين بحبّهم العميق للخير، ومع العلماء بعلمهم، ومع الباحثين بتنقيبهم، ومع ذوي المودّة بمودّاتهم، ومع الزهّاد بزهدهم، ومع المصلِحِينَ بإصلاحهم، ومع المتألِّمين بآلامهم، ومع المظلومين بمشاعرهم وتمرّدهم، ومع الاُدباء بأدبهم، ومع الأبطال ببطولاتهم، ومع الشهداء بشهادتهم، ومع كلِّ إنسانيّة بما يشرّفها ويرفع من شأنها، ثم إنّ له في كل ذلك فضلَ القول الناتج عن العمل والتضحية المتّصلة بالتضحية، والسابقة في الزمان؟!عظيماً يهون عليك أمر غالبيه، ونصر المنتصرين عليه لأنّ أيّامهم إنّما هي من الأيّام التي عجّت بالمتناقضات، واصطبغت بالغرائب، حتى أصبح فيها شمال الحياة يمينها، وتحتها فوقها، وأرضها سماءَها وسواء لدى الحقيقة والتاريخ أعرفت هذا العظيم أم لم تعرفه، فالتاريخ والحقيقة يشهدان أنّه الضمير العملاق، الشهيد أبو الشهداء عليّ بن أبي طالب صوت العدالة الإنسانية، وشخصيّة الشرق الخالدة.
وماذا عليكِ يا دنيا لو حشّدتِ قواكِ، فأعطيتِ في كلّ زمن عليّاً بعقله وقلبه ولسانه وذي فقاره؟!([4]).
كانت عبقرية عليٍّ تتفتّح فيه وهو صبيّ شعوراً عميقاً طاغياً بنصرة الخير، وتضحيات أشبه بصنع المعجزات([5]).
لقد فتح عليّ بن أبي طالب عينيه على الطريق التي رسمها ابن عمّه، وعرف العبادة أوّل ما عرفها من صلواته ونُعِّم بعطفه وحنانه وإخائه، فإذا هو من محمّد ما كان محمّد من أبي طالب وهذا الإخاء لم يظفر به واحد غير عليٍّ من أصحاب الرسول وتلاميذه.
وخفق قلب عليٍّ أوّل ما خفق بحبّ ابن عمّه، ونطق لسانه أوّل ما نطق بما لقّنه إيّاه من رائع القول، واكتملت رجولته أوّل ما اكتملت لمؤازرة النبيّ المضطهَد، وإذا كان النبيّ يحبّه أنصاره ويحترمه أعداؤه، فهل يكون ربيبه وتلميذه وأخوه عليّ إلاّ شيئاً من كيانه شيئاً عظيماً من كيان عظيم ([6]).
لقد كان أوّل سجود المسلمين الاُوَل لآلهة قريش، وكان أوّل سجود عليٍّ لإله محمّد، إلاّ أنّه إسلام الرجل الذي اُتيح له أن ينشأ على حبّ الخير، وينمو في رعاية النبيّ، ويصبح إمام العادلين من بعده، وربّان السفينة في غمرة العواصف والأمواج([7]).
أمّا عليّ بن أبي طالب فما كان أعجب أمره يوم غامر في سبيل عقيدته التي هي عقيدة محمّد بن عبد الله، وفي سبيل الحقّ، ورعاية الشرف والإخاء. هذه المغامرة التي لم يعرف التاريخ أجلّ منها وأقوى وأروع، وأدلّ على وحدة الذات بين عظيم وعظيم([8]).
ويمثّل عليّ بن أبي طالب الفروسية بأروع معانيها، وبكلِّ ما تنطوي عليه من ألوان الشهامة والإباء والترفّع أصلان من اُصول روح الفروسيّة، فهما إذن من طبائع الإمام، لذلك كان بغيظاً لديه أن ينال أحد الناس بالأذى وإن آذاه، وأن يبادر مخلوقاً بالاعتداء ولو على ثقة بأنّ هذا المخلوق إنّما يقصد قتله، وروح الإباء والترفّع هذه هي التي ارتفعت به عن مقابلة الاُمويّين بالسباب يوم جعلوا يرشقونه به([9]).
عليّ بن أبي طالب فذّ من أفذاذ العقل، وهو بذلك قطب الإسلام، وموسوعة المعارف العربية، ليس من علم عربيٍّ إلاّ وقد وضع أصله، أو ساهم في وضعه([10]) ولعلّ أروع ما في حياة عليٍّ في معنى التضحية بالنفس من أجل الحقّ هو هذا الحادث الذي يذكره المؤرخّون، كما لو كان شيئاً عاديّاً لا يعنيهم أمره أكثر من أنّه خبر من الأخبار، وأعني به: ما ارتضاه عليّ ليلة الهجرة وكان ما يزال صبيّاً إذ نام في فراش النبيّ ليسهّل أمره في الخروج من مكة إلى يثرب تخلّصاً من شرّ قريش، فإنّها لإرادة على التضحية بالنفس في سبيل الحقّ، قَلَّ أن تجد لها شبيهاً إلاّ في الظروف النادرة التي تقف بها النفس الإنسانية الواعية بين حالين من وجود وفناء.

تضحية ابن أبي طالب:
يفدي النبيّ بنفسه راضياً مختاراً على صورة أهون منها على النفس لقاء الموت في ساحة القتال، فما أصعب على المرء أن يأخذ مكان رجل حكم عليه المجرمون بالقتل حكماً أخيراً، وأن يرقد في فراشه فلا يُخطئه هؤلاء إذا دخلت إرادتهم طور التنفيذ، وهم منه على خطوات ينظرون إليه، ويسمع إليهم ثم أن يترقّب بين حين وحين رؤية أنظارهم تتوامض بالغدر تحت عينيه، وسيوفهم تتلامع فوق رأسه طيلة ليلة كاملة([11]).

بالقاهرة يقول في الإمام(عليه السلام):
وعليّ كما نعلم باب هذا المنهل الفيّاض من علوم النبوّة، وواضع حجر الأساس في الحضارة الروحية الإسلامية([12]).

************
[1] ـ  طبع الجزء الأوّل منه في بيروت عام (1958 م).
[2] ـ الإمام عليّ صوت العدالة الإنسانية: ص19.
[3] ـ البقرة: 237.
[4] ـ  الإمام عليّ صوت العدالة الإنسانية: ج1 ص39 ـ 49.
[5] ـ المصدر السابق: ص51.
[6] ـ الإمام عليّ صوت العدالة الإنسانية: ص62.
[7] ـ المصدر السابق: ص63.
[8] ـ المصدر السابق: ص69.
[9] ـ المصدر السابق: ص81.
[10] ـ المصدر السابق: ص103.
[11] ـ الإمام عليّ صوت العدالة الإنسانية: ج3.
[12] ـ  من مقدِّمته لتفسير شبَّر، طبع القاهرة.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page