• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الاُستاذ خالد محمّد خالد الأديب المصري صاحب كتاب «في رحاب عليّ» يقول في إمامنا(عليه السلام)

الاُستاذ خالد محمّد خالد الأديب المصري صاحب كتاب «في رحاب عليّ» يقول في إمامنا(عليه السلام): لقد جاء من أصلاب قوم عُرفوا بأنّهم حماة العقيدة وحماة الفضائل، وسدنة الخير، وعلى الرغم من أنّهم لم يكونوا يعرفون حقيقة الإله الذي إليه يلجؤون وعليه يتوكّلون فإنّ ولاءهم لقوته القاهرة وفضله الرحيم كان على الدوام مشحوذاً، فكيف بولاء عليٍّ وقد عرف حقيقة الله واهتدى إليه([1])؟!
وهو الذي ولد في الإيمان والعبادة والهدى. إنّه وهو في السادسة من عمره بدأ يعيش مع محمّد الصادق الأمين، يتأدّب على يديه، ويتأثّر بطهره، وعظمة نفسه وتقّي ضميره وسلوكه، وحين بلغ العاشرة كان الوحي قد أمر الرسول بالدعوة وهو سابق المسلمين، وسارت حياته من ذلك اليوم إلى أن يجيء اليوم الذي سيلقى فيه ربّه تطبيقاً كاملاً، وأميناً لمنهج الرسول، وتعاليم القرآن، ألا بوركت هذه الحياة، حياة لم تكن لها قطّ صبوة، ولا شهوة ولاهفوة، حياة ولد صاحبها وتبعات الرجال فوق كاهله حتّى لهو الأطفال لم يكن لحياة ابن أبي طالب فيه حظّ ولا نصيب([2]).
هذا هو الذي نرجو أن لا نكون مغالين إذا وصفناه بأنّه (ربيب الوحي)، فطوال السنوات الاُولى لنزول الوحي كان فتانا هناك يشهد نزوله، ويسبق غيره في تلقِّيه من رسول ربِّ العالمين، ويلقي سمعه وقلبه لأسراره وأنواره.
ولطالما شهدته شعاب مكة وهو (ثاني اثنين): الرسول(عليه السلام) وعليّ ـ كرّم الله وجهه ـ يصلّيان معاً، بعيداً عن أعين القرشيين وأذاهم، وهناك في رحاب الصحراء الواسعة حيث لا يرتدّ البصر أمام حدود أو سدود، وحيث تتنزّل على النفس أسرار الكون العظيم، عاكسةً على الشعور جلاله ومجده كان عليّ يتلقّى من فم الرسول كلمات القرآن وآياته، نفسه مرهفة، وعزمه متهلّل، قلبه جميع، وروحه حرّ، وشخصيّته بكلّ خصائصها الموروثة والمكتسبة تتلقّى تأثيراً لا يقاوم، وتستسلم في غبطة مطلقة لهذه الآيات التي آمن بها وحياً وديناً، وآمن بِقارِئها وتاليها نبيّاً ورسولاً، من أجل هذا لا نعجب إذا رأينا عليّاً طوال حياته يعطي القرآن ولاءً مطلقاً، ولا يقبل أدنى ميل عنه، ولا يغفر أقلَّ تفريط فيه.
إنّه ربيب الوحي، والتلميذ الأوّل للقرآن، وإنّه سابق المسلمين([3]).
من ولائه الوثيق للقرآن، وشهوده فجر الوحيّ وضحاه كان عليّ ربيب الوحي، ومن ولائه الوثيق للإسلام وسبقه إليه قبل غيره من رجال العالمين كان عليّ سابق المسلمين، وسابق المسلمين لقب لا يستحقّه عليّ لمجرد سبقه إلى الإسلام، فعليّ هو الذي علّم الناس فيما بعد أنّه ليس الطريق لمن سبق، بل لمن صدّق إنّما يستحقّه لأنّه حاز كلتا الحسنيين السبق والصدق، وحين نتتبّع مظاهر إسلامه نرى عجباً، وحين نستقبل شمائل إيمانه نستقبل روضات يانعات نتأنّق فيهنّ ويُثملنا عبيرها وطهرها وتقاها.
والآن ما بالكم برجل اختاره الرسول من بين أصحابه جميعاً ليكون في يوم المؤاخاة أخاه؟ كيف كانت أبعاد إيمانه وأعماقه حتّى آثره الرسول بهذه المكرمة والمزيّة([4])؟ لقد كان الصدِّيق (أبو بكر) وكان الفاروق (عمر)([5]) آنئذ هناك، فهل من حقّنا أن نتساءل: لماذا لم يختصّ الرسول أحدهما بهذا الذي اختصّ به عليّاً؟([6]) إنّ تساؤلاً كهذا يفسد جلال المشهد ويفوِّت علينا رواءه .
اختار الرسول إذن عليّاً ليكون في هذه المؤاخاة أخاه، وكلّ شرف كان الإسلام يضيفه على (ابن أبي طالب) كان يزيد إحساسه بمسؤولياته الدينية شحذاً وقوّة([7]).
وعليّ في إسلامه نموذج عظيم مكتمل الشكل والجوهر، فإذا كان الإسلام عبادةً ونسكاً، جهاداً وبذلاً، ترفّعاً وزهداً، فطنةً وورعاً، سيادةً وتواضعاً، قوّةً ورحمةً، عدالةً وفضلاً، استقامةً وعلماً، بساطةً وتمكّناً، ولاءً وفهماً، إذا كان الإسلام ذلك كلّه فإنّ سابق المسلمين عليّاً ـ كرم الله وجهه ـ كان أحد النماذج الباهرة والنادرة لهذا الإسلام([8]).
ومن شاء أن يتعرّف إلى حياة الإمام وسلوكه فليقرأ كلماته([9]) ذلك أنّه لم يكن بين مقاله وفعاله تفاوت أو تناقض. أجل، لم يكن بين ما يقول وما يفعل بُعدٌ ولا مسافة ولا فراغ، فإذا حثّ الناس على الزهد فلأنّه أسبقهم إليه وإذا حثّهم على البذل فلأنّه أقدرهم عليه، وإذا حثّهم على طاعة أيّة طاعة فلأنّه يمارسها في أعلى مستوياتها([10]).
دين الله الذي حمل أمانته، وقرأ كتابه، ويوم الله الذي سيقف فيه بين يديه غداً لينظر جزاءَه وحسابه، أو من أجل هذا لا ينام عليّ ولا يستريح، أجل، من أجل هذا يقضي ليله ونهاره في عبادة تضني جسمه الأيّد الوثيق، ومن أجل هذا يَدَع الدنيا وراءه ظهريّاً، فيأبى وهو خليفة للمسلمين أن ينزل قصر الإمارة بالكوفة ويؤثر عليه الأرض الخلاء، والدار المهجورة، ويلحّون عليه كي ينزل قصر الإمارة هذا، فيجيبهم: «لا، قصر الخبال لا أنزله أبداً»، ومن أجل هذا يلبس الثوب الخشن، فيسأله أصحابه أن يعطي نفسه ومنصبه بعض حقّهما؟ فيقول: «هذا الثوب يصرف عنّي الزهو ويساعدني على الخشوع في صلواتي»، وهو قدوة صالحة للناس كي لا يسرفوا ويتبذّخوا. ثم يتلو آية القرآن العظيم (تِلْكَ الدّارُ الآْخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الاَْرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)([11]) إنّه لا يركن إلى الدنيا لحظةً من نهار، إنّها بالنسبة له قد أدبرت وآذنت بوداع، فلماذا إذن يعطيها ولاءَه وبلاءَه؟([12])
وبهذا الفهم السديد للدنيا ربحها عليّ، وربح بها مصيره واُخراه، فهي بالنسبة له لم تكن دار لعب ولهو أبداً، منذ طفولته الباكرة حمل الإسلام في قلبه، وحمل معه كلّ أعباء الرجال، ولقد قطع حياته وقضى أيّامه على الأرض في كفاح موصول، ونضال لم يعرف الراحة يوماً، وعاش كما وصفه الرسول صلّى الله عليه وسلم «مخشوشن في سبيل الله» مَقَتَ الترفَ من كلّ نفسه، ونأى عنه بكلّ قوته وعزمه ذلك أنّه فهم الإسلام وعاشه وتعلّم منه أنّ الترف مشغلة الفارغين العاطلين، والإنسان الذي يعيش مع مسؤوليّات كبار، كتلك التي يفرضها الإسلام الحقّ على أبنائه الحقيقيّين وأهله إنّما يكون حظّه من الصدق والتوفيق مضاهياً حظّه من البساطة والتخشّن، وهكذا كان الإمام، وهكذا أراد الناس أن يكونوا([13]).
وهو بإسلامه وفي إسلامه لا يتغيّر طفلاً وشابّاً وشيخاً، جنديّاً وقائداً وخليفةً للمسلمين، إنّ تقوى الله تأخذ عليه لبّه، وهو لا يعامل الناس بذكائه، ولا بحسبه ونسبه، بل بإخلاصه وتقواه، ثم هو لا يريد منهم، بل ولا يقبل منهم أن يعاملوه بغير الصدق والتقوى.
من أجل هذا سنراه يقع الصدام بينه وبين معاوية، يؤثر الهزيمة مع الإخلاص والتقوى على انتصار يتحقق بالمكر والمراوغة، ويقول ابن عمِّه عبد الله بن عباس وهو الصالح الورع: خادِعْهُم فإنّ الحرب خدعة! فيجيبه الإمام الطاهر: «لا والله، لا أبيع ديني بدنياهم أبداً».
مسلم عظيم يفجّر الدنيا من حواليه ذمّةً واستقامةً وطهراً([14]) إنّه يؤمن بأنّ الحقّ مقدَّس، وأنّه أجلّ من كلّ ثمن، ولا شيء على وجه الأرض يمثّل الحقّ في يقينه مثلما يمثّله الإسلام من أجل ذلك، نذر حياته لقضيّة الإسلام منذ عمره الباكر، وعاش عمره المسلم يتنفّس النقاء والصدق والاستقامة.
ليس في حياته كلِّها وقفة واحدة مع المساومة أو المداجاة أو الالتواء ولعلّه لو شاء لكان داهيةً لا يشقّ له غبار. فحدّة ذكائه واتّقاد بصيرته يعطيانه من الدهاء ما يريد، لكنّه تخلّى عن كل مواهب الرجل (الداهية) وأحلّ مكانها كل مواهب الرجل (الورع).
إنّ فهمه لحقيقة الإسلام وإنّ ولاءه الوثيق له قد حمّلا حياته من الأعباء فوق ما تطيق، ولقد كان بعض جهاده وبلائه كفيلاً بأن يبوّئه مكانه العالي بين الأخيار الصادقين، ولكنّ الرجل الذي وصفه الرسول بأنّه «مخشوشن في سبيل الله» قد أخذ نفسه بعزائم الاُمور، وناط قدرته وطاقته بالمستحيل، ونذر للإسلام حياةً استقلّها، فراح يحمل أعباء مائة حياة، ومع أيّامه المجيدة التي عاشها في دنيا الناس هذه حقّق الإسلام فيه معجزة الصياغة، تلك المعجزة المتمثِّلة في قدرة هذا الدين على صياغة العظمة الإنسانية في أحسن تقويم([15]).
كل مغريات السلطان ومباهج الدنيا لن تظفر منه بنظرة واحدة، ستظلّ كلتا عينيه على دين الله لا تتحوّل عنه ولا تغمضان دونه، لن يشتريَ سَخَط الله برضا الدنيا بمن فيها، ولكنّه يتقبّل سخط الدنيا كلّها والناس أجمعين بلحظة واحدة من رضا الله ربّ العالمين([16]).
وهكذا حيث تضرى البطولات وتستعلي على الأناة والحكمة يكون عليّ هو الرجل.
وهو البطل الذي يختاره الرسول ليقيم الميزان بالقسط، ويمزج القصاص بالعدل، والقوّة بالرحمة، ويضع الشجاعة تحت إمرة السداد والإناة والحكمة([17]).
ذلكم هو نوع البطولة التي أفاقتها مقادير عليٍّ عليه، بطولة يقودها العقل لا العاطفة، بطولة تحكمها أخلاقيّاتها النبيلة السامية فلا تستعلي على الرحمة، ولا تزيغ عن الحقّ، ولا تتنكّب طريق الأناة والحكمة، وبهذه البطولة الشهمة العادلة قاتل المشركين، فما تخلّف عن غُزاة ولا عن مشهد أبداً، إلاّ غزاة واحدة أمره الرسول بعدم الخروج إليها ليكون خليفته في المدينة على أهله([18]) ولمّا تململت روح البطل إزاء هذا التخلّف أرضاه الرسول بقوله على ملأ من أصحابه: «أما يُرضيك أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنـّه لا نبيّ بعدي»([19]).
وهكذا طوى الإمام عنها الخلافة كشحاً وأغلق دونها باباً ([20]) وتفرّغ لعبادة الله وتفقيه المسلمين، وإسداء المشورة والنصح لوليّ الأمر([21])، فالمشكلات كلّها والمعضلات جميعها لم يكن لها إلاّ عليّ، ولطالما كان الخليفة أبوبكر يسعى إليه ويقول له: «أفْتِنا يا أباالحسن» ولطالما كان الخليفة عمر يستنجد بفقهه وبذكائه وببصيرته ثم يقول: «لولا عليّ لهلك عمر»([22]).
ولطالما كان الخليفة عثمان يأرز إليه ويستعين به ويستنصحه ولكن عندما أوغلت الحاشية المحيطة به في الأمر استطاعت للأسف أن تفسد ذات بينهما، فلم يقدّر لنصح الإمام ولمشوراته الأمينة العادلة أن تبلغ من اهتمام الخليفة ما تستحقّه([23]).
إنّ عظمة هذا الرجل عليّ بن أبي طالب لعظمة فريدة، لكأنّما كان يحرّكه من أعماقه ولع شديد بأن يذهب عن الحياة يوم يذهب شهيدُ مُثُلهِ ومبادئهِ وإيمانهِ شهيدُ استقامة المسلك، واستقامة القصد، واستقامة الضمير([24]) إنّه صارم في تحمّل مسؤولياته، وإنّه حين خاض القتال الذي فرضه عليه الجانب الآخر([25])لم يخضه لينتصر في حرب، أو ليدعم مكانه في الخلافة، إنّما خاضه لأنّ مسؤولياته فرضت عليه أن يخوضه، ولمّا فرض أصحابه عليه قبول التحكيم كفّ عن القتال، ولمّا فشل التحكيم وتحوّل إلى خدعة وضَلالة فإنّ مسؤولياته تفرض عليه القتال من جديد، صحيح أنّ الموقف تغيّر تغيّراً شاملاً، ففريق كبير من أصحابه انقلب عليه وحمل السيف ضدّه بحجّة أنـّه قَبِلَ التحكيم، التحكيم الذي فرضوه هم عليه فرضاً، وفريق آخر اعتزل وتقاعس عن القتال، لكن ذلك كلّه وأضعافه معه لا يوهن من عزم الإمام ذلك لأنّه يعتقد أنّه يقاتل في معركة حقّ([26]).
أيعرف الناس في التاريخ محنةً مرّت ببطل مثل هذه المحنة؟! لكن أبو حسن لها، ولن يتخلّى عن واجبه، وإن بدّلت الأرض غير الأرض، وإن تحوّلت رمال الصحراء إلى جيوش تقاتله، وإن تحوّلت بحار الأرض إلى لهب ونار، لتذهب كلّ الألقاب والأوصاف، الخليفة والإمام، الداهية والمنتصر، وليبقَ له ومعه لقب واحد، ووصف واحد هو المؤمن إنّ الحياة في يقينه قضيّة إيمان، فمن خسر إيمانه خسر حياته وإن عاش فيها ألف عام، ومن ربح إيمانه ربح حياته وإن عاش فيها بضعة أعوام، وهو اليوم وليس حوله سوى المهالك والأخطار غير نادم على خطوة خطاها([27]).
ضاعت الفرص من نفسها، وما ضاعت من عليّ، ضاعت من الدولة المسلمة الراشدة التي كان الإمام يريد أن يعيدها إلى جادّتها، ويمضي بها على صراطها الأوّل القويم والخليفة المتقشّف الذي تُجبى إليه الأموال حلالا طيبةً من أقطار الأرض ثم هو يلبس قميصاً بثلاثة دراهم.
الخطيب الذي تهتزّ الدنيا لكلماته وهي تخرج من وراء شفتيه ناضرةً قاهرة، الفقيه العالم الذي تتفجّر الحكمة من نفسه وعقله، ويجري الحقّ على لسانه وقلبه، العابد الورع التقيّ الذي تفوَّقَ على كلِّ إغراء الدنيا وأطماع البشر، تلميذ الرسول الأوّل والأمثل، ربيب الوحي وسابق المسلمين([28]).
هو إذن مقيم لم يرحل، يعلّم الناس في كلِّ جيل وعصر أنّ الولاء للحقّ أثمن تكاليف الإنسان، ويعلّم الحكّام في كلّ جيل وعصر أنّ الولاء للحقِّ يعني رفض إغراء الدنيا، ورفض غرور السلطان، وهو مقيم لم يرحل، يجد عصرنا هذا في نهجه وحُكمه اُستاذاً أو معلّماً هادياً.
فاليوم حيث تعبّئ الحضارة كلّ قواها لمحاربة الفقر وأرباء الكفاية، وتوزيع العدل، نجد أمير المؤمنين عليّاً يدرك من قرابة ألف وأربعمائة عام بؤس الفقر، ووظيفة المال إدراك الحاكم المسؤول لا إدراك الواعظ المتمنّي.
انظروا ها هوذا ناسك لم يمنعه نسكه وزهده عن أن يعرف ضراوة الفقر وبؤسه وعداءَه، لتقدّم الروح والضمير فيقول قولته الباهرة: «لو كان الفقر رجلاً لقتلته» وها هو ذا يبدأ الساعات الاُولى من حكمه وخلافته بوقت تُضخّم الثروات التي سبّبها التمييز في الأنصبة والعطاء بين الذين أسلموا قبل الفتح والذين أسلموا بعده، فيلتزم منهج التسوية في العطاء وفي حدود قدرة بيت المال يأخذ كلٌّ حاجته ولا يزيد. وإنّه ليُفحِم المعارضين لمنهجه بكلمات قصار، لكنّها كبار، إذ يقول: «لو كان المال مالي لسوّيت بينهم، فكيف والمال مال الله، وهؤلاء عباده»([29]).
ولقد كان الإمام(رضي الله عنه) يضع مبدأه هذا كما يضع كلّ مبادئه موضع التنفيذ السديد لا يصرفه عن ذلك تلك الفتن المشبوبة حوله، ولا الحروب المتسعرة ضدّه، ترى هل كان لسياسته هذه دور في تألّب الأحقاد عليه وانفضاض الذين كانوا أنصاره بالأمس من حوله؟ هل لعبت مخاوف المسلمين الذين أثرَوا ثراءً كبيراً، والذين كانوا في طريقهم إلى الثراء دوراً غير منظور في محاربة الخليفة الذي رفع هذا الشعار وهذا المبدأ: «إنّ الله فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء»؟ على أيّة حال فقد رحل عن الدنيا الشكل الخارجي للبطل، أمّا موضوعه الحيّ ومضمونه النقيّ فقد بقيا غذاءً للحقيقة وريّاً، وسيظلّ الإمام حيّاً في جميع القيم وفي كلّ الحقائق التي عاش يناضل دونها ومات حاملاً رايتها.
سيظلُّ حيّاً وماثلاً في فضائله وعظائمه التي صاغ منها حياةً امتدّت إلى الثالثة والستّين والتي أجاد وصفها ضرار بن ضمرة الكناني، قال واصفاً الإمام: كان بعيد المدى، شديد القُوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلا([30]).
لقد كان حظّ الإمام مع الناس عاثراً، ولكنّ حظوظه مع نفسه في طُهرها وتُقاها كانت رابيةً ووافية، فبغير عون من تأييد يبذله مؤيّدون وأصدقاء، وبغير جزع أمام المؤامرات الضارية يثيرها في وجهه أعداء تلو أعداء، وقف الإمام عليّ يبني وحده بإيمانه الفرد، وبساعده الأشدّ حياةً سامقةً تبقى على مرّ الزمان مناراً لذوي الرُشد والنُهى ولأن كان لم ينصفه الذين غَلَوا في حربه، ولم ينصفه الذين غَلَوا في حبّه([31])فقد أنصفته عظمته الفريدة إذ فرضت على الأعداء جلالها، وعلى الأصدقاء استغناءَها وسارت على وجه الزمان طاهرةً ناضرةً ظافرة، وتِلُكم هي العظمة حقّاً([32]).

*************
[1] ـ في رحاب عليٍّ: ص41، طبع مصر عام (1366 هـ ) المطبعة الحديثة.
[2] ـ المصدر السابق: ص52.
[3] ـ في رحاب عليّ: ص56.
[4] ـ في رحاب عليّ: ص58.
[5] ـ سؤال: مَن الذي سمّى هذين الرجلين بالصدّيق والفاروق؟! هل الرسول(صلى الله عليه وآله) سمّاهما بهما أو الناس؟ لا شكّ أنّ الرسول(صلى الله عليه وآله) لم يسمِّهما بهما فإنّه(صلى الله عليه وآله) قال لعليّ(عليه السلام) «أنت الصدِّيق الأكبر، وأنت الفاروق الذي يفرِّق بين الحق والباطل». (الرضوي).
راجع ذخائر العقبى: ص56، ط مصر عام (1356 هـ ) ومناقب سيدنا عليّ: ص28، ط. الهند عام (1352 هـ ) وخصائص أمير المؤمنين عليّ للنسائي: ص3 .
[6] ـ الجواب: أنّهما لمّا ولدا على الكفر وشبّا على عبادة الأوثان فإنّهما لا يليقان لأن يختار الرسول(صلى الله عليه وآله) أحدهما أخاً له، حيث لا نسبة بينه في الدين والإيمان والاعتقاد وبين أحدهما، بخلاف عليٍّ(عليه السلام) فإنّه لم يشرك بالله طرفة عين. (الرضوي).
[7] ـ في رحاب عليّ: ص60.
[8] ـ لذلك اختاره الرسول(صلى الله عليه وآله) أخاً له دون غيره من الناس. الرضوي.
[9] ـ وقد ضمّ كتاب «نهج البلاغة» القسم الكبير منها فليرجع إليه من أراد الوقوف عليها. (الرضوي).
[10] ـ في رحاب عليّ: ص61.
[11] ـ  القصص: 83 .
[12] ـ في رحاب عليّ: ص66.
[13] ـ المصدر السابق: ص70.
[14] ـ في رحاب عليٍّ : ص73.
[15] ـ المصدر السابق: ص79.
[16] ـ في رحاب عليٍّ: ص98.
[17] ـ المصدر السابق: ص107.
[18] ـ من يقرأ قول الرسول(صلى الله عليه وآله): «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» يفهم بأنّ الرسول جعله خليفة ووصيّاً على كلّ الاُمّة، لا على أهله فقط، كما خلّف نبي الله موسى بن عمران أخاه هارون خليفةً ووصيّاً على قومه و اُمّته فافهم أيّها الكاتب والقارئ وكن منصفاً. (لجنة التحقيق).
[19] ـ المصدر السابق: ص109.
[20] ـ مع أنّها حقّه وأنّه أولى بها من غيره، وذلك لأجل الحفاظ على بيضة الإسلام، ووحدة عُرى المسلمين. (لجنة التحقيق).
[21] ـ ليس للمسلمين بعد الرسول(صلى الله عليه وآله) وليّ أمر سوى ابن عمّه الإمام، الذي وَقَفتَ على شيء من مقاماته في الإسلام التي لا يضاهيه فيها أحد (الرضوي).
[22] ـ قال الترمذي: قاله في عدة مواطن. وقال ابن أبي الحديد: قاله غير مرّة. وقال في الاستيعاب: وسبب قول عمر ذلك: أنّ مجنونةً وضعت لستّة أشهر فأراد رجمها عمر، فقال له عليّ: «إنّ الله تعالى يقول: (وَ حَمْلُهُ وَ فِصلُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) (الأحقاف: آية 15) وقال له: «إنّ الله رفع القلم عن المجنون الحديث» فكان عمر يقول: «لولا عليّ لهلك عمر».
عجيب حقّاً من هذين الرجلين أبي بكر وعمر مع جهلهما بأحكام الدين الإسلامي تقدَّما في الخلافة على من يعترفان بأنّه العالم بها، وأعجب من ذلك ممن يسمّيهما باسم خليفة رسول الله (ص) فما عشت أراك الدهر عجباً!! (الرضوي).
[23] ـ في رحاب عليّ: ص128 الخلافة كالنبوّة لا تثبت لأحد باختيار الناس له، فإنّ الخليفة قائم مقام رسول الله(صلى الله عليه وآله)ونائب عنه في أداء رسالته إلى المسلمين فلما كان اختيار النبيّ من مختصّاته تعالى كان كذلك اختيار من يقوم مقامه ويخلفه في أداء رسالة ربّه بيده تعالى، قال الله تعالى: (وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحنَ اللّهِ وَ تَعَالى عَمّا يُشْرِكُونَ)  (القصص: آية 68) فهل من متفكّر؟
[24] ـ في رحاب عليّ: ص203.
[25] ـ وهو جانب عائشة بنت أبي بكر، ومعاوية بن أبي سفيان.
[26] ـ  في رحاب عليّ: ص205 ـ 206.
[27] ـ المصدر السابق: ص206.
[28] ـ في رحاب علي: ص213.
[29] ـ في رحاب عليٍّ: ص233.
[30] ـ المصدر السابق : ص236.
[31] ـ  وهم الذين قالوا بإلوهيّته.
[32] ـ  في رحاب عليّ: ص239.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
رمضان
الأدعية
المحاضرات
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

30 رمضان

وفاة الخليفة العباسي الناصر لدين الله

المزید...

23 رمضان

نزول القرآن الكريم

المزید...

21 رمضان

1-  شهيد المحراب(عليه السلام). 2- بيعة الامام الحسن(عليه السلام). ...

المزید...

20 رمضان

فتح مكّة

المزید...

19 رمضان

جرح أميرالمؤمنين (عليه السلام)

المزید...

17 رمضان

1 -  الاسراء و المعراج . 2 - غزوة بدر الكبرى. 3 - وفاة عائشة. 4 - بناء مسجد جمكران بأمر الامام المهد...

المزید...

15 رمضان

1 - ولادة الامام الثاني الامام الحسن المجتبى (ع) 2 - بعث مسلم بن عقيل الى الكوفة . 3 - شهادة ذوالنفس الزكية ...

المزید...

14 رمضان

شهادة المختار ابن ابي عبيدة الثقفي

المزید...

13 رمضان

هلاك الحجّاج بن يوسف الثقفي

المزید...

12 رمضان

المؤاخاة بين المهاجرين و الانصار

المزید...

10 رمضان

1- وفاة السيدة خديجة الكبرى سلام الله عليها. 2- رسائل أهل الكوفة إلى الامام الحسين عليه السلام . ...

المزید...

6 رمضان

ولاية العهد للامام الرضا (ع)

المزید...

4 رمضان

موت زياد بن ابيه والي البصرة

المزید...

1 رمضان

موت مروان بن الحكم

المزید...
012345678910111213
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page