المثقف الحقيقي
2 ـ الهدف والايمان
لاشك أن الثقافة لا تنسجم مع الغموض والتردد ـ كما اسلفنا ـ والهرطقة الدينية ، بل لابد للمثقف من انتماء إلى مدرسة معينة ، ومن غير الممكن أن يكون المرء حراً من أي انتماء ، حتى وإن كان انتماء للفلسفة النِّهلِستية أو العدمية . فالمهم أن يعتقد بشيء ويؤمن به ويلتزم بتوجهاته ، بحيث يوجهه نحو هدف معين يحقق الامال البشرية السامية . وبالطبع فإن الانتماء إلى مدرسة محددة يجب أن يستند على اساس عقلاني ، ومن هذه النقطة بالذات يفترق طريق المثقف الشرقي عن طريق المثقف الاوربي في عصر التنوير ، فلماذا يرفع المثقف المسلم سيف المواجهة مع كل مقدس تقليداً للمثقف الاوربي ؟ اجل ، لابد من مكافحة كل مقدس لا يهدف إلاّ إلى اشباع اهوائه وشهواته تحت ستار الدين ، وهذه غير القداسة التي تكتسب بطريق الايمان القائم على اسس محكمة يقبلها العقل . فإذا كانت الكنيسة قد قدمت للانسان الاوربي ديناً لا يقبل به العقل ، مشوباً ببعض المقدسات التي يأباها الفكر ، مما اتاحت للمثقف الغربي أن ينهض لمقارعتها ، بل مقارعة كل المقدسات ، فلماذا يبادر بعض مثقفي عالمنا إلى تقليد الاوربيين ، وينهضوا لمكافحة مقدساتهم التي تنسجم مع ثقافتهم ؟ وماذا يعني هذا التقليد المذموم سوى الضعف وعدم الاستقلال الفكري ؟ لقد نمت العلمانية في اوربا على ارض غابت عنها الثقافة الاسلامية ، التي اولت الاهمية الكافية للحياة الدنيا ، سواء في البعد الاقتصادي أو جوانب الحياة الاخرى . خذ على سبيل المثال العمل الذي اعتبره الاسلام عبادة كبيرة ، كما اعتبر الطريق إلى الحياة الاخرة يمر عبر الحياة الدنيا ، فما هي الضرورة إلى العلمنة في مثل هذه الاجواء الفكرية ؟ فالايمان يعطي المرء شجاعة ابداء عقائده والدفاع عنها . أمّا الخوف فهو من اكبر الافات التي اسقطت الكثير من المثقفين ، وهذا الخوف على انواع ، فهو إما خوف من السلطة الاستبدادية ، أو من الجو الغالب في نطاق فكري معين ، أو من عوام الناس ، أو من طبقة خاصة ، أو من الاتهام بالكفر ، أو التحجر ، وما إلى ذلك . ومهما يكن من أمر فإن المثقف يجب أن يتحلى بالشهامة والشجاعة ، بحيث يستطيع أن يتحدث بالكلام الذي يريد دون وجل ، ويلتزم بالهدف ، ويطلب الحق ، وإن كان في ذلك ضرره . وعلى المثقف أن يتحلى ايضاً بالالتزام وروح المسؤولية ، ويحطم عن نفسه قيود الجاه والمال ، وإلاّ ابتعد عن مفهوم المثقف الفاضل الملتزم ، واقترب نحو مفاهيم المرائي المحتال ، أو الفنان المترف ، أو المتعلم البَذِخ ، أو الكاتب اللاهث وراء الشهرة والمال ، أو السياسي الرذل ، أو المفكر المنقطع عن الشعب . ومن الواضح أن المثقف سيفتضح أمره من البداية إذا لم تحترم معتقداته الانسان ، ولكن هذا لا يعني ضرورة الانتماء إلى المذهب الانساني بشكله الغربي ، إذ يجب ألاّ نُجلس الانسان على عرش الاله ، فالمثقف الحقيقي لا يسعى نحو تقليد مثقفي عصر التنوير الاوربي من خلال التمرد على الخالق ; علماً أن المثقف الاوربي وقف بوجه الكنيسة ، التي كانت تنظر إلى الانسان كائناً عاصياً بذاته لا قيمة له ، بحيث لا يستطيع التحدث مع ربه مباشرة ، ولربما كان لذلك المثقف الحق في أن يطالب بحق الانسانية من ذلك الدين ; ولكن اين تلك الخرافات من الاسلام الذي اعتبر الانسان خليفة اللّه على الارض ; الذي سجدت له الملائكة وهو اشرف الخلائق ، فهل يبقى للمذهب الانساني (هيومانيزم)من معنىً في الاسلام ؟