لماذا الأخلاق
«وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاَرضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً * وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً * وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءَاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ اَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلاَّ مَن تَابَ وءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» (الفرقان/63-70)
إذا مات أحدنا بعد انقضاء أجله وتصرم أيامه، فانه يحمل الى مثواه الأخير في موكب مهيب. في هذا الموكب الذي يُرى فقط بعض جوانبه، ولا يرى أكثر ما فيه؛ تجد المشيعين لجثمان الميت على اختلاف نظراتهم وتباين مستوياتهم، يرافقون الجنازة الى المقبرة فقط. بينما في هذا الموكب روح الميت تشيع، وعمله يرافق جنازته، سواء كان على هيئة جميلة جذابة أو قبيحة ذميمة. كما تهيمن على موكب التشييع الملائكة، فمن جهة ملائكة الرحمة يتباشرون به ويحاولون أن يأخذوه معهم الى الجنة، ومن جهة أخرى ملائكة العذاب يحاولون أن يلقوا بصاحبهم الى النار.
ولا ننسى أننا لسنا مستثنون من هذا المصير، وأنه لابد من أن نموت يوماً مهما بعد. الى هذا أشار الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في بيت شعر نسب إليه:
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة الحدباء محمول
والى ذات المعنى أشار أحد الشعراء بالقول:
و إذا رأيـت جنـــازة محمــولــة فاعلم بأنك بعدهـا محمــول
غير إن هذه الحقيقة الساطعة يتجاهلها البعض، ويعيش في غفلة عنها. فكثيراً ما يلاحظ في تشييع الجنائز من يقف محزوناً مفجوعاً بفقدان عزيز له، وآخر منافقاً شامتاً يمشي في موكب التشييع ولسانه يلهج بذم الميت ولعنه، وثالثاً غافلاً عن حقيقة هذا الحدث بأحاديث الدنيا وما يلهي..
في هذا الخصوص يذكر أن رجلاً مرَّ على جماعة يريدون دفن ميت لهم، فاطلع عليهم، فأخذته العبرة فبكى، ثم أنشد مجموعة أبيات، قال في أحدها:
يبكي عليه الغـريب لا يعرفــه وقرابتــه فــي الحـي مســرورون
فقال له أحد الحاضرين: أو تعرف هذا الميت؟ فأجاب لا. ثم سارعه بسؤال آخر: وهل تعرف قائل هذه الأبيات الشعرية؟ قال: لا أيضاً. قال له: إنه هو هذا الميت الذي بكيته أنت الغريب، ولكن انظر ابن عمه ذاك، فهو مسرور بوفاة هذا الميت، لأنه الوحيد الذي سيرثه.
هكذا تلحظ من يبكي على الميت حزناً على فراقه، وآخر يفرح لذلك، وكل منهما يتناول الميت بكلامه من منطلقه، غير أن كلامهم ليس حجة مهما مدحوه أو ذموه، وإنما هنالك ملائكة موكلون بذلك لا يخطؤون أبداً، وهم بأمر ربهم يعملون. وعند الحساب تقف ملائكة الرحمة لتأخذ الانسان الصالح الى الجنة، بينما تقف ملائكة العذاب لتأخذ الانسان الطالح الى النار.
وإذا علم الانسان أن أعماله سوف تتجسد له عند موته، وفي المغتسل، وهو محمول على النعش يشيعه الناس، وعند إدخاله القبر.. فان كانت حسنة تجلت لـه في صورة رجل جميل لا يرى منه إلاّ الاُنس والمتعة، وإن كانت سيئة تجلت لـه في صورة رجل قبيح لا يرى منه إلاّ الانزعاج والنفرة.
أليس من العقل أن يسأل نفسه: أيهما أفضل له، أن يمهد لما بعد موته بالأعمال الصالحة والأفعال الخيرة، أم يتبع الشهوات ويرتكب القبائح والمنكرات؟
ومن المؤسف أن نرى كثيراً من الناس يسعون أبداً في تزيين حياتهم الظاهرية، فيصرفون المليارات من الدولارات على تجميل بيوتهم وسياراتهم وملابسهم.. بينما كان الأولى بهم أن يهتموا بتزيين أنفسهم بالعمل الصالح والصفات الحميدة.. فكم من الأوقات الثمينة تصرف في مسائل ثانوية في الحياة، كاختيار ألوان صبغ الشعر، أو اختيار أحدث الموضات لخياطة الملابس، وما الى ذلك؛ في حين يغفلون عمّا يصلح حالهم في الدنيا والآخـرة. فما قيمة رجل مريض بالجذام -مثلاً- يلبس أفخر الملابس وأجملها؟
فعجب كل العجب ممن يصرف جلّ وقته وطاقاته وإمكاناته على المظاهر الخارجية من ملبس ومسكن ومركب، دون أن يهذب أخلاقه ويزكي نفسه ويصلح عمله !!
من هنا؛ ينبغي على الانسان أن يسعى جهده لصياغة شخصيته وفق معايير الهدى وقيم الحق، وليس وفق زخارف الدنيا وزبارجها. فالقرآن الكريم حينما يصف المؤمنين لا يقول عنهم إن ملابسهم جذابة، وبيوتهم واسعة، وسياراتهم جميلة.. لأنها ليست هي الأصل في حياة المؤمن مهما توفرت له، بل الأصل ما ذكره القرآن في قوله: «وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاَرضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً».
هذه الصفة حينما تتجلى في شخصية المؤمن، تجده كله إيجابية، حتى أنه لا يتردد أن يقول للجاهل إذا خاطبه سلاماً.
وجميل ما روي في هذا الخصوص عن الإمام محمد الباقر عليه السلام، إذ جاءه شخص أراد أن يستفزه، فقال لـه: أنت بقر. فقال له الإمام: أنا باقر. فكرر الرجل ما قاله عدة مرات، وفي كل مرة يجيبه الإمام بذات الجواب السابق بكل هدوء وبلا أي انزعاج. عند ذاك قال للإمام عليه السلام: لقد كانت أمك طباخة. فقال لـه الإمام عليه السلام: تلك كانت مهنتها. وهكذا حاول الرجل أن يثير الإمام بكلمات غير مؤدبة، إلا أن الإمام عليه السلام لم يجبه إلاّ بأدب رفيع وأخلاق فاضلة، فاضطر الرجل إلى الاعتذار من الإمام مصرحاً: " الله أعلم حيث يضع رسالته".
فليسأل كـل منـا نفسه: هل أتمكن من مواجهة من يؤذيني بكلمـة فأسامحـه وأتحدث معه بسعة صدر كما فعل الإمام محمد الباقـر عليـه السلام؟
هذه صفة واحدة من الصفات الحسنة التي يجب أن يتحلى بها الانسان المؤمن. وقد يصرف الانسان من عمره سنوات وسنوات حتى يحلي نفسه بمثل هذه الصفات الحسنة، ويزينها بصفة العفو والاحسان، والانصاف والرفق، والصدق والوفاء..
بالتأكيد هذه الصفات لا يمكن للانسان أن يحصل عليها بسهولة، لذا تجد الناس لا يهتمون بها كثيراً، لأنها صعبة المنال. بينما يتوجهون الى المظاهر والزبارج، لأنها أسهل منالاً. ولكن ما فائدة البيت الرائع في الجمال، وقلب صاحبه قد أكله الصدأ!
ولهذا؛ يأتي التأكيد القرآني على أن يتصف الانسان الصالح بصفات عباد الرحمن مهما كلفته من جهد ووقت، لأنها تضمن لـه حياة سعيدة في الدنيا، وعقبى فاضلة في الآخرة.
قال الله تعالى: «وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاَرضِ هَوْناً» أي مشية الاقتصاد، التي لا إفراط ولا تفريط فيها.
«وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً». فالجاهل يريد أن يغير من حركة الانسان المستقيمة، ولكن عباد الرحمن عندهم موازين معتدلة يمشون عليها، فيواجهونه بالسلام.
«وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً». لقد جسد هذه الآية رجال أمثال حبيب بن مظاهر الذي كان يختم القرآن في ليلة، وكذلك ابن أم هاني وهو ابن أخت الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، كان لسنين طويلة يصلي صلاة الصبح بوضوء صلاة المغرب والعشاء، وكان يختم القرآن بينهما. وأنا وأنت أيضاً يمكننا أن نتبع هذه الآية لو أردنا ذلك، فلماذا لا نصمم على أن نوجد هذه الصفة فينا؟ والبدء بإحياء ولو ساعة من كل ليلة بالعبادة، حتى نكون من أهل هذه الآية.
«وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً» حقاً إن جهنم أخطر عاقبة، لذا يجدر بالمؤمن أن يدعو الله تعالى أن يفك رقبته من النار.
وخلاصة القول؛ إذا كان الموت يأتينا لا محالة، فلماذا لا نستعد لـه بالعمل الصالح والأخلاق الحسنة والمبادرة الى ذلك سراعاً قبل فوات الأوان.