• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

على درب سلمان

على درب سلمان

على مقربة من بغداد صوب الشرق. تلوح للناظر من بعيد بلدة صغيرة تدعى (المدائن) يلتقي فيها شاهدان. شاهد كسرى وشاهد سلمان.

أما شاهد كسرى، فذلك الطاق المحدودب الهرم الذي يحكي قصة جبروت صانعيه، والذي بقي أثراً من الإيوان الشهير الذي أقامه كسرى أنو شروان ليصبح فيما بعد مقراً للأكاسرة حيث كانوا يطلقون عليه اسم (القصر الأبيض) وكانوا يديرون من بين أروقته حكم ثالث إمبراطورية في العالم القديم. لم يبق منه اليوم سوى هذا الطاق. وهو إن دل على شيء فإنما يدل على شموخ الإسلام وعظمته حيث استطاع أن يقضي على مظاهر الأباطرة والأكاسرة بفترة وجيزة من أيام حكمه.

وأما شاهد سلمان، فضريح ومزار وقبة ومئذنتان ينطلق منهما صوت الحق عالياً مدوياً كل يوم يحكي قصة الإيمان والتضحية والشرف. وهنالك تحت تلك القبة الشامخة يتمدد جسد ذلك الصحابي العظيم (سلمان سابق فارس نحو الإيمان) والذي ستبقى روحه الزكية مناراً يشع عبر العصور بأسمى معاني النبل والوفاء للإسلام العظيم ولرسالته الخالدة، كما ستظل سيرته مؤشراً يلوح للمسلمين بأن يوجدوا خطاهم على درب الله.

إن من عظيم الحكمة وبديع التدبير أن يهيئ الله سبحانه أفراداً من أمم شتى وقوميات مختلفة يساهمون في دعم دينه وهو بعد لم يزل في طور نشأته ونموه. فكان منهم العربي والفارسي والرومي والحبشي والنبطي وكانوا كلهم سواء في ساحته يجسدون عنوان وحدته وشموله ويمثل هو عنوان وحدتهم وقوتهم دون أن يكون لاختلاف الدم أو العنصر أي تأثير.

ولقد كان للمبادرين الأول في هذا المضمار ميزة خاصة من بين سائر المسلمين مكنتهم من احتلال الصدارة في التاريخ الإسلامي، وأعطتهم لقب السبّاق نحو الإسلام وكان من بينهم صاحبنا سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه.

قال علي (عليه السلام): السبّاق خمسة، فأنا سابقُ العرب، وسلمان سابق فارس وصهيبُ سابق الروم، وبلال سابق الحبشة، وخباب سابق النبط.

لقد استطاع هؤلاء النفر أن يجسدوا نظرية الإسلام حول التفاضل بين بني الإنسان، هذه النظرية التي تقوم على أساس التقوى، تقوى الله سبحانه وإطاعته والسير على منهاجه الذي ارتضاه. كما هو صريح التعبير القرآني. قال تعالى:

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[1].

فكانوا أوضح مصداق لهذا المضمون بفضل سلوكهم الصحيح المتسم بالإخلاص والجدية والتفاني في سبيل الله ورفع كلمته، وبهذا صار كل واحد منهم سابق أمته باستحقاق وجدارة.

ومن ثم، فقد شن الإسلام حرباً شاملةً في وجه العصبيات بشكل عام، وكافح دعاتها. فالعصبية ـ عنصرية كانت أو عرقيةً أو قبلية ـ لا ترتبط بأي مبدأ ذي قيمة من الوجهة الأخلاقية، ولا تخضع لأي منطق عقلي، بل الحكم فيها يرجع إلى العاطفة وحدها، لأن العصبية لا تعدو كونها ثورة عاطفية تنتاب الفرد إزاء قرابته أو قبيلته أو بني قومه، دون أن يكون للعدل فيها دور. لذا فإن الإسلام قد دعا إلى هذه العقلية التي يتسم بها المجتمع الإنساني بشكل عام وتوجيهها بطريقة انعكاسية نحو الإيمان بالله سبحانه، فهو أداة الربط بين المؤمنين يجمع شتاتهم، ويشد عزائمهم، ويوحد صفوفهم، وهو أيضاً الوسيلة الناجعة للوصول إلى درب الخلاص، ومن ثم النهوض بالإنسانية إلى أرقى وأسمى القيم التي تنشدها على هذه الأرض، الإيمان بالله، ورسوله، وكتبه، واليوم الآخر بكل ما انطوت عليه هذه الكلمات من مضامين عالية نبيلة تتهافت عندها جميع الحواجز المادية التي تلف حياة الإنسان، كما تتلاقى في ساحتها جميع القلوب الخيرة المفتوحة لا فرق في ذلك بين الإنسان الأبيض والأحمر والأسود والأصفر والقريب والبعيد. قال سبحانه وتعالى:

(لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[2].

ولقد كان صاحبنا (سلمان الفارسي) رضي الله عنه أحد المجسدين لهذا الشعار القرآني بعزم وإرادة وتصميم يفوق حد الوصف، جسده في بداية إيمانه حين هجر أهله ووطنه في سبيل الوصول إلى منابع الإيمان ـ كما ستقرأ ـ ضارباً عرض الحائط كل تفاهات المجوسية وأساطيرها دون تردد أو وجل وجسده بعد إسلامه حين غزا المسلمون أرض فارس سنة 15 للهجرة وأطاحوا بأكاسرتها وأساورتها حيث كان هذا الرجل العظيم (داعية المسلمين ورائدهم) في تلك الوقعة ـ على حد تعبير ابن الأثير ـ فكان يدعو قومه إلى الإسلام. يدعوهم كما كان النبي (صلّى الله عليه وآله) يدعوهم. فإن أبوا ناجزهم ونهد إليهم.

إن قصة إسلام هذا الصحابي الجليل فريدة من نوعها في عالم التدين ـ حسبما أعلم اللهم عدا ما يختص بالأنبياء والرسل وأوصيائهم. فهي لا تخلو من مآثر وكرامات وخوارق تتصل كلها بعالم التدين وما يربط بين الأديان جميعاً، بل هي في ذاتها حافز للمؤمنين يمدهم بمزيد من الثبات والثقة. وهي أيضاً بقدر كونها وثيقة تاريخية تثبت أصالة الأديان السماوية، تؤكد ـ وبكل وضوح ـ كون الإسلام هو خاتمة تلك الأديان.

(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ)[3].

فأنت حين تقرأ سلمان في هذا الكتاب، ستجد نفسك وجهاً لوجه أمام إنسان وقف كل حياته لأجل أن يحظى بنصيب أكبر من عالم الروح والإيمان، وحين تتعمق في قراءته أكثر، ستدرك ولا شك أن هذا الإنسان المثل كان فريداً من نوعه، وفي أبناء جنسه وفي مسلكه وفي عمق إدراكه. حتى ليخيّل إليك إنه كان أمةً في جانب، والناس في جانب، وستلمس أن هذا الإنسان الذي بدأت حياته بالغرائب والعجائب، انتهت حياته كذلك.

رحم الله سلمان، هلالاً أطل من سماء فارس ليشرق بدراً في دنيا الإسلام.

 

 

--------------------------------------------------------------------------------

[1] سورة الحجرات، الآية 13.

[2] سورة المجادلة، الآية 22.

[3] سورة آل عمران، آية 19.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page